أَذِنَ الَلُّه أَنْ تُرْفَعَ
إنها بيوت الله التي أمر أن ترفع بالبناء، فتعلو شامخةً، وتعظَّم قدرًا ومنزلة، وتُنزَّه عن كل عيب وشين، أو إساءة أو إهانة، فهي ساحات الحكمة، ومنارات الضِّياء في الأرض، تلتقي فيها الأرواح والأجساد، وتنطلق منها الأفكار والمعاني المشرقة الخيِّرة، فتزرع في روّادها كل فضيلة إنسانية، وكل خلق حسن جميل، وكل تواصل ومحبة. ولقوة معناها، ودلالة مبناها؛ خصَّها الله تعالى بالنسبة إليه، فقال تعالى: {وَأَنَّ المسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وليكون لها أعظم ارتباط بكل فرد من أفراد المجتمع حضَّ نبينا -عليه الصلاة والسلام- على المشاركة في رفعها وصيانتها والعناية بها، ولو بأقل القليل؛ليشعر الناس كلهم من حولها ومهما بعدت أماكنهم عنها أن ارتباطهم بها حسًّا ومعنى قوي لا ينفصم، ولو كانوا في أشغالهم وأعمالهم وتجاراتهم يضربون في فجاج الأرض فإنهم مشدودون بقلوبهم إلى معناها وما شِيدَت من أجله وهو ذكر الله تعالى وتسبيحه والنظر إلى حقائق الوجود فتبقى بذلك هذه القلوب مزهرة مشرقة على الدوام، تزداد نضارة مع الأيام والأعوام فنور مشكاة الوحي لا ينطفئ في هذه القلوب، فإذا ما همد قليلاً أو خمد تجدّد عن قريب في وقت الصلاة اللاحق فلا أثر فيها للغفلة، ولا مكان فيها للظلمة. ونور هذه المشكاة التي تستمد منها لا يدانيه صفاء ولا يقاربه نقاء تنزيل من حكيم حميد، فإذا وقع على الفطرة الطيبة، والأرض الصالحة تألق فيها كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الَّهلُ لِنُورِهِ مَنْ يَ شاءُ} [النور: 35]، وكان لهذه القلوب التي لم تكتنفها الغفلة وهي على صلة دائمة بهذه البيوت الرفيعة حسًّا ومعنى هذا الجزاء العاجل من نور الوحي والحكمة، والجزاء الآجل الذي لا يُحدّ ويبدأ في قوله عليه الصلاة والسلام «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الَّلهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ المَسجِدِ...» [متفق عليه].
فتعلق القلب بها لمعانيها ودلالاتها وما يتلى فيها من آيات الله والحكمة، وهذا يدل على محبة الله وعمق الإيمان، فكان جزاء هذا الحب الظل الظليل في أفياء عرش الله تعالى.
وليكمل معنى هذه البيوت الربانية جعل الله تعالى نداءها متميزًا على كل نداء بكلماته وصيغته التي تؤكد الفضيلة وتحض على الخير العاجل والآجل فلاحًا ونجاحًا (حي على الفلاح) وما كان هذا النداء إلا من عند الله وبأمر الله، فنداؤها أمر به الرحمن، وجاء ذكره في القرآن: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلى الصَّلاة} [المائدة: 58]، وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاة مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وكلماته جاء بها ملك كريم.
لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم وفكر بكيفية جمع المسلمين إلى رحاب الحكمة وبيوت الله وشاور المسلمين في ذلك وكانوا يتحينون الأوقات وتكلموا عن الطريقة المثلى التي تجمعهم والوسيلة التي تنبههم وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال قائل منهم: ارفعوا راية. وقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن
اليهود واهتموا مع ر سول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر فطاف طائف بعبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، فقال تقول: الله أكبر الله.. أكبر.. الأذان.
وكانت هذه الكلمات مما لم يتصوره أحد لتهز كل واع نبيه عندما يسمعها كما اهتز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة لما سمعوها ولتحصل هذه الهزة عند كل ذي قلب أو ألقى السمع وهو شهيد مدى العصور والدهور شرع رفع هذا النداء بصوت رخيم ندي فقال لعبد الله بن زيد: «ألقه على بلال؛ فإنه أندى صوتًا منك». [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان].
هذه المعالم الشامخة حسًّا ومعنى إذا قامت على أساس من التقوى فإن فيضها لا ينقطع ونورها لا يخبو وتهذيبها وإصلاحها لبني الإنسان لا يتوقف: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالَّلهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. كل هذا أعطى لهذه المعالم رهبة في النفوس وتقديرًا في العقول واحترامًا في المشاعر والضمائر مهما كانت وأينما كانت. ومن دلف إليها وسمع ورأى تتابع أمواج الفكر المستقيم فيها ومد الهدي النبوي العظيم المتتابع منها والانضباط والأدب القوي من كل داخل فيها يدرك كم لها من أثر وقوة في تقويم الحياة ومسيرة الإنسان لو فهمت حق فهمها.
"لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من سادات بني حنيفة، يقال له: ثُمَامة بن أُثَال، وكان قد حاول أن يفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتاله، فلما جيء به ربط في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندك يا ثُمَامة؟» فقال: عندي خير يا محمد. إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحاب المسجد النبوي ليرى ما يرى من أنوار الوحي وأطياف الحكمة حتى كان الغد. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما عندك يا ثُمَامة؟» فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه يومًا آخر، ثم جاءه فقال له: «ما عندك يا ثُمَامة؟» فقال: عندي ما قلت لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة».
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. يا محمد.. والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك. فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا؛ ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم". [أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما].
إن بيوت الله في الأرض مشارق أنوار، ومعاهد هداية، وساحات تواصل ومحبة وألفة وتعظيمها تعظيم لشعائر الله وكثرتها دليل على الخير والاطمئنان.
التعليقات