رحلة الحج في عيون الشعراء

الأستاذ الدكتورعبد المنعم يونس([1])

هناك أمور خفية تدفع المرء دفعًا للقيام ببعض الأعمال، قد لا يجد لها تفسيرًا في حينها؛ ولكنه مع مرور الزمن، وتوالي الأيام، قد يقف على كثير مما لم يجد له تعليلًا إبان حدوثه، وساعة وقوعه.

حدث لي ذلك، وأنا أقوم بأداء فريضة الحج –لأول مرة- منذ زمن ليس بالقريب، ولا بالبعيد، يومها دخلت مكة، وكان الوقت ليلًا، فطفنا طواف القدوم، وأدينا أعمال العمرة من سعي بين الصفا والمروة، وحلق، ثم ساعتها حان وقت الفجر، فأديت الصلاة خلف قارئ لم أكن قد سمعت قراءته من قبل، فإذا بي أحس، وكأنني في عالم آخر، يختلف كثيرًا عن عالم الإنس، ومن يومها وأنا أسأل نفسي كلما تذكرت ذلك: هل كنت أعيش على هذا الكوكب؟ أم كنت أعيش على كوكب آخر؟ وهل كنت يومها أخضع لما يخضع له البشر؟ أم كنت مع مخلوفات علوية أخرى تحلق كما أحلق في أجواء السماء؟

وظللت كذلك؛ حتى قرأت يومًا قصيدة الشاعر محمود غنيم التي قالها من وحي زيارته للأراضي المقدسة حين حج عام 1968م، قال محمود غنيم بعنوان في أرض النبوة:

صوت من العالم العلوي ناداني

 

لبيك.. لبيك.. لا آنٍ، ولا واني

ما أعذب الصوت! ما أحلاه من نغم

 

سمعته بجناني لا بآذاني

وكيف تسمعه أذن، ويحمله

 

موج الأثير حروفًا وهو روحاني

لبيته بفؤاد ملؤه وجل

 

وصَيبٍ من دموع العين هتان

كيف الوقوف على باب الرسول وفي

 

يدي صحائف زلاتي وعصياني

دارَ النبوة ذنبي عنك أبعدني

 

وحسن ظني بربي منك أدناني([2])

فقلت –عندئذ- لماذا لا أضع بين يدي القارئ صورة حية لما قاله الشعراء عند ذهابهم إلى حج بيت الله الحرام، تشفي غلة أولئك الذين تعتمل في قلوبهم هذه الأماكن، وتبعث في نفوسهم مشاعر قد تملأ عليهم جوانحهم؛ ولكنهم لا يستطيعون التعبير عنها –كما حدث لي، وكما يحدث لكثير من أمثالي-؛ لأن الشعراء يحسون كما نحس، ويشعرون بما نشعر؛ ولكنهم يختلفون عنا نحن الذين لم نؤت الموهبة التي أوتوها، وكأن الله قسم الحظوظ بين البشر، وجعلهم يؤدون دورهم في هذه الحياة، كل في مجاله، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له».

لكن شواغل الحياة عاقتني عن ذلك، فقلت: ما لا يدرك كله لا يترك كله، فلأضع بعض ما قاله هؤلاء الشعراء عندما وقفوا موقفي الذي وقفته.

(1)

أول موقف أقدمه لقارئي الكريم: موقف سيدنا عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه- عندما كان يمسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع أهل مكة وغلمانهم ينظرون إلى هذا الموكب المهيب، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين صدوهم قبل عام عن دخول بيت الله الحرام، وعقدوا معهم صلحًا عرف في التاريخ باسم صلح الحديبية. يشد المنظر سيدنا عبد الله بن رواحة فيقول مرتجزًا:

خلوا بني الكفار عن سبيله

 

خلوا فكل الخير مع رسوله

يا رب إني مؤمن بقيله

 

أعرف حق الله في قيوله

نحن ضربناكم على تأويله

 

كما ضربناكم على تنزيله

ضربًا يزيل إلهام عن مقيله

 

ويذهل الخليل عن خليله([3])

ولعل القارئ يرى أن الشاعر قد هاله هذا الموكب الذي سار فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ورأى المشركون ينظرون ويعجبون من حب المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتفانيهم في سبيل الدعوة الإسلامية؛ من أجل ذلك.. هتف قائلًا: "خلوا بني الكفار عن سبيله، فهو يستحضر عظمة الإسلام، وكأنه يقول: إن هذا المكان ينبغي أن يعظمه كل مسلم، كما عظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل ينبغي أن يستحضر –عنده- كل الأمجاد التي أرساها المسلمون الأوائل؛ بل ينظر المسلم هناك كيف نزل الدين على الدنيا، وتجلت السماء على الأرض، وخرج من هذه الرحاب أعظم دين عرفته البشرية، وأعظم رسالة قادت الإنسانية إلى رشدها، ودرج على أفنية هذه الديار أعظم قادة البشر، وخير الرجال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمر ما كان سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يأمر بإخراج الناس من مكة عقب أدائهم فريضة الحج؛ حتى لا تألف قلوبهم هذا المكان، فتفتر فيهم الرغبة إلى حجه مرات ومرات.

(2)

وهناك موقف آخر جدير بالتسجيل في هذا المقام، وإن كان الحدث ليس خاصًا بتعظيم المكان؛ لكنه خاص بمن أرسى دعائم تعظيم هذا المكان، إنه خاص بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذريته من بعده، فقد جاء في "وفيات الأعيان" لابن خلكان، وفي "ديوان الفرزدق": أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام خلافة أبيه عبد الملك بن مروان.. طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه، فلم يقدر على ذلك؛ لكثرة الزحام، ولما فرغ من الطواف نصب له منبر، فجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان الشام، وبينما هو كذلك؛ إذ أقبل علي زين العابدين ابن الحسين –رضي الله عنه-، وكان كما قيل: "من أحسن الناس وجهًا، وأطيبهم أرجًا"، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود تنحى له الناس؛ حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟! فقال هشام: لا أعرفه. مخافة أن يرغب فيه أهل الشام فيملكونه عليهم، وكان الفرزدق حاضرًا، فقال: أنا أعرفه. فقال: من هو يا أبا فراس؟ فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

 

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم

 

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

 

بجده أنبياء الله قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره

 

العرب تعرف من أنكرت والعُجم

حتى يقول:

من جده دان فضل الأنبياء له

 

وفضل أمته دانت له الأمم

ما قال لاقط إلا في تشهده

 

لولا التشهد كانت لاءه نعم

مشتقة من رسول الله نبعته

 

طابت مغارسه والخيم والشيم

من معشر حبهم دين، وبغضهم

 

كفر، وقربهم منجى ومعتصم([4])

يقول الدكتور زكي مبارك: "إن الفرزدق عندما قال هذه القصيدة غضب عليه هشام بن عبد الملك، فحبسه، ثم أنفذ له سيدنا علي زين العابدين وهو في الحبس اثنى عشر ألف درهم، فردها وقال: "مدحته لله تعالى، لا للعطاء"، ثم يقول: "والمدح لله هو عين التصوف". ولا يغض من هذا قبوله العطية بعد ذلك، فقد تلطف زين العابدين، وقال: "إنا أهل البيت إذا وهبنا شيئًا لا نستعيده"([5]).

ولا أريد أن استطرد في ذكر تلك القصائد التي رصدها قائلوها للحديث عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك له مكان آخر؛ وإنما أريد أن أنوه إلى أن هذه القصائد التي عرفت باسم المدائح النبوية قالها الشعراء في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وهم يستحضرون عظمة هذه الأمكنة التي عمرت زمنًا بحياة رسول الله وأصحابه، والتي يذهب الحجيج إليها يتنسمون عبير هذه الذكريات، ويعودون إلى بلادهم، وقلوبهم مفعمة بحب هذه الأمكنة، ومن درجوا عليها، كما قال القائل:

وما حب الديار شغفن قلبي

 

ولكن حب من سكن الديارا

لكن هذه الديار مع حبنا لمن سكنها، فنحن نحبها أيضًا؛ لأنها ديار عظمها الله –سبحانه وتعالى-، وطلب منا أن نعظمها، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران: 96، 97].

ثم يأتي بعد ذلك دور الشعراء في العصر الحديث، أولئك الذين وظفوا كثيرًا من شعرهم للحديث عن رحلة الحج، يتقدمهم: أحمد شوقي، وأحمد محرم، ومحمود غنيم، وغيرهم.. وغيرهم من شعراء العربية.

 

***

 



([1]) الأستاذ بجامعة الأزهر.

([2]) محمود غنيم: الأعمال الكاملة، المجلد الأول (ص661)، ط دار الغد الغربي، 1414هـ/1993م.

ولد الشاعر محمود غنيم عام 1902م، بمحافظة المنوفية، وتدرج في وظائف التدريس، وكان عضوًا في كثير من الجمعيات الأدبية، وكان عطاؤه وافرًا في دولة الشعر العربي والإسلامي، وله عدة دواوين، وتوفي 1973م.

([3]) ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء (1/223)، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني. والبيت الثاني جاء في السيرة الحلبية (2/782).

والشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة هو أحد الشعراء الثلاثة الذين دافعوا بألسنتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الدعوة الإسلامية، وقد استشهد في سرية مؤتة، وكان أحد القواد الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة. انظر كتابنا: الشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة.

([4]) انظر: وفيات الأعيان (3/143)، وديوان الفرزدق. وانظر: كتاب المدائح النبوية: للدكتور زكي مبارك (ص53-96)، طبعة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر-القاهرة.

([5]) نقلًا عن وفيات الأعيان (3/143).

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.