جولة في البيت العتيق
جولة ماتعة.. ورحلة شيقة.. نحلق خلالها في حرم الله.. وبيته العتيق.. نتعرف على مقاماته.. وشعائره.. وآثار أولئك العظماء الصالحين الذين اختاروا العبودية لله بصورتها الحقة التي أرادها سبحانه.. فجعل سبحانه جزاء طاعتهم له.. وامتثالهم لأمره.. وابتغائهم مرضاته.. وتذللهم بين يديه.. واعتمادهم عليه.. وثقتهم به.. أن خلد ذكراهم في العالمين.. وجعل لهم لسان صدق في الآخرين.. فصارت آثارهم علامات على حياة العبودية الخالصة التي عاشها الموحد الكامل إبراهيم وزوجه وابنه –عليهم السلام-، فنتذكر تلك الحياة الحنيفية برؤية هذه الآثار، وكيف عظمها سبحانه حتى شرعها لعباده، وجعلها من شعائره المعظمة، الدالة على تقوى القلوب وإيمانها وصدقها: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. فتعالوا معنا نتذاكر تلك الشعائر.. ونتعرف على قصتها، وسبب وجودها..
المسجد الحرام:
أعظم المساجد قاطبة، وأشرفها على الإطلاق، وهو قبلة المسلمين؛ حيث تقع الكعبة في وسطه. نعته الله في كتابه بأنه أول بيت وضع للناس: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، وقد جاءت النصوص الشرعيه بأربعة معاني للمسجد الحرام: فقد يراد به الكعبة وحدها، وقد يراد به الكعبة وما حولها، وقد يراد به مكة كلها، وقد يراد به مكة مع الحرم حولها بكامله. وحدود حرم مكة هي الحد الفاصل بين الحل والحرم, وأوّل من نصب علامات على حدود الحرم هو إبراهيم الخليل -عليه السلام-، بإرشاد جبريل -عليه السلام-، تعظيمًا للبيت، وتشريفًا له, وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي بعد فتح مكة ليجددها، واستمر خلفاء المسلمين وأعيانهم يجددونها، روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن ابراهيم حرم مكة، فجعلها حرمًا, وإني حرمت المدينة...» الحديث. وقد شرع الله للحرم أحكامًا تخصه، منها: تحريم القتال فيه، وتحريم صيد الحيوانات والطيور الموجودة به، وتحريم قطع نباته الذي أنبته الله تعالى ولم يزرعه أحد، وتحريم التقاط لقطته إلا لمن يعرفها. ومن أعظم فضائله: مضاعفة أجر الصلاة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه؛ إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة مرة»، فمعنى هذا: أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة؛ لأنها تفضل الصلاة في المسجد النبوي بمائة مرة، وقد اختلف أهل العلم في مضاعفة الصلاة، هل هي خاصة بعموم المسجد الحرام (حرم مكة)؟ أو هي خاصة بالمسجد نفسه دون بقية الحرم؟ والأظهر والأقرب -والله أعلم-، وهو الذي دلت عليه الأدلة الصريحة: هو أن المضاعفة تشمل جميع ما كان داخل الأميال، وليست خاصة ببناء المسجد نفسه؛ ولكن الصلاة في نفس المسجد أفضل؛ وذلك لقدم المكان؛ ولكثرة الجماعة؛ ولاتفاق أهل العلم على أن المضاعفة في نفس المسجد الحرام لاشك فيها، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "والأصح أن المضاعفة تعم جميع الحرم؛ لعموم الآيات والأحاديث الدالة على أن الحرم كله يسمى المسجد الحرام؛ لكن الصلاة في المسجد الذي حول الكعبة لها مزية فضل من وجوة كثيرة، منها: كثرة الجمع, والقرب من الكعبة, وإجماع العلماء على مضاعفة الصلاة فيه"، ومافي الأرض حرم غير حرم مكة، وحرم المدينة؛ حتى بيت المقدس، والمسجد الأقصى؛ ليسا بحرم؛ وإن كانا مقدسين مباركين.
الحجر الأسود:
هو الحجر الموضوع في الركن الشرقي (الخرساني) من الكعبة، بارتفاع 1,5 متر عن سطح الأرض, وهو حجر ثقيل، بيضاوي الشكل، أسود اللون، مائل إلى الحمرة، وفيه تعاريج صفراء هي أثر لحام القطع المتكسرة منه، وقطره 30 سم، ويحيط به إطار من الفضة. وأوّل من وضعه في مكانه: أبونا إبراهيم -عليه السلام- حين بناء البيت، وعندما بنت قريش الكعبة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه بيده الشريفة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن الحجر الأسود أنزله الله تعالى إلى الأرض من الجنة، وكان أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم، وأنه يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق، وقد وقعت على الحجر الأسود أحداث، لعل من أعظمها: قيام الملحدين المارقين القرامطة بقلعه، وأخذه معهم إلى الأحساء سنة 317هــ، وأعادوه إلى مكانه سنة 339هـ، واستلامه أو تقبيله أو الإشاره إليه هو أوّل ما يفعله من أراد الطواف؛ سواء كان حاجًا أو معتمرًا أو متطوعًا، وقد قبَّله النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه على ذلك أمته, فإن عجز عن تقبيله فيستلمه بيده أو بشيء، ويقبل هذا الشيء، فإن عجز أشار إليه بيده وكبَّر. ومسح الحجر مما يكفِّر الله تعالى به الخطايا.
الكعبة:
سُمِّيت بالكعبة؛ لكونها بناءً مُربَّعًا ومكعبًا -تقريبًا-، وهي البيت الحرام الذي حرمه الله، ومنع انتهاك حرمته. والبيت العتيق؛ لعتقه وقدمه. وقيل: لكرمه ونفاسته. وقد بناها الملائكة، ثم جددها آدم -عليه السلام-، ومن ثم أولاده –كما ذكر المؤرخون-، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن نوحًا وهودًا -عليهما السلام- مرَّا بوادي عسفان حاجين البيت العتيق، ومعلوم أن نوحًا وهودًا –عليهما السلام- كانا قبل إبراهيم -عليه السلام-، وبفعل السيول انهار البيت، وتهدم بناؤه، واختفى مكانه، ولم يبق منه إلا القواعد التي غطتها الرمال والحصى، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. وواضح من دلالة الآية أن إبراهيم -عليه السلام- لم يضع القواعد التي هي أساس البيت الحرام؛ وإنما رفع بناءه. وذكر الأزرقي أن إبراهيم -عليه السلام- جعل ارتفاع الكعبة في السماء (9 أذرع، ما يقرب من 4 أمتار)، وعرضها بين الركن الأسود واليماني (22 ذراعًا، ما يقرب من 11 متر)، وطولها بين الركن الأسود والعراقي (32 ذراعًا، ما يقرب من 15 مترًا)، وجعلها بدون سقف، ولها بابان مفتوحان بدون أبواب، ونزل جبريل -عليه السلام- بالحجر الأسود، فوضعه إبراهيم -عليه السلام- في مكانه. وتشير أركانها الأربعة بانحراف بسيط إلى الاتجاهات الأربعة، فالركن الأسود شرقًا، والركن اليماني جنوبًا، والركن العراقي شمالًا، والركن الشامي غربًا..
قام (العماليق) ومن بعدهم (جرهم) ومن ثم جد الرسول صلى الله عليه وسلم (قصي بن كلاب) بعملية إصلاح وترميم للكعبة، وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل مبعثه بخمس سنوات احترقت الكعبة، وتهدم جزء منها بفعل السيول، فعزمت قريش على هدمها، وإعادة بنائها، واشترطت لذلك ألا تدخل في بنائها مالًا حرامًا، فقصرت بهم النفقة الطيبة، وأعادوا بناءها، وأحدثوا بعض التغيرات فيها؛ حيث زادوا ارتفاعها إلى (18ذراعًا)، وبنوا لها سقفًا خشبيًا، وجعلوا لها بابًا واحدًا، ورفعوه عن مستوى الأرض كي يدخلوا من أرادوا ويمنعوا من أرادوا، ونقصوا من عرضها (6 أذرع وشبرًا) وهي ما تقارب (3 أمتار) دخلت ضمن الحجر، وقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بنائها عندما أخمد الفتنة التي أوشكت أن تقع بين قبائل قريش بسبب الحجر الأسود، فاقترح اقتراحه الحكيم الذي أرضى به الجميع، ثم وضع الحجر الأسود في مكانه بيديه الشريفتين.
وفي عهد عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- سمع من خالته عائشة -رضي الله عنها- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم». رواه البخاري ومسلم. فجدد بناءها، وأعادها كما كانت في عهد إبراهيم -عليه السلام-؛ حيث أدخل فيها ما أخرج منها (6 أذرع وشبرًا)، وزاد في ارتفاعها إلى (29 ذراعًا)، أي: ما يقرب من (15 مترًا)، وجعل لها بابين ملتصقين بالأرض، وبعد مقتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- شكك عبد الملك بن مروان في سماع ابن الزبير من خالته، وأمر الحجاج بإعادة الكعبة على ما كانت عليه في عهد قريش؛ حيث أغلقوا الباب الغربي، ورفعوا الباب الشرقي، وأخرجوا (6 أذرع وشبرًا) من جهة الحجر، ولم يغيروا ارتفاعها، ولما تأكد عبد الملك بن مروان من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ندم على نقضه وإعادته، وفي عهد الرشيد العباسي عزم على نقضها وإعادتها كما بناها ابن الزبير، فقال له مالك بن أنس: "أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبه للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس"، فصرفه عن رأيه.
استمرت الترميمات والإصلاحات من الخلفاء والأمراء على مرِّ العصور دون تغيير جوهري في أبعاد ومقاسات البيت إلى يومنا الحاضر، وقد كانت أكبر التجديدات والإصلاحات في عام 1417هـ.
الركن اليماني:
هو أحد أركان الكعبة المشرفة في اتجاه الجنوب، وهو الركن الموازي لركن الحجر الأسود. وسبب تسميته باليماني؛ أنه في اتجاه الجنوب، وكانت العرب تسمي كل متجه إلى الجنوب يمنًا؛ باعتبار اليمن في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية.
ومن فضائلة -والركن الأسود-: أنهما القواعد الأولى للبيت التي رفعها إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وكما هو معلوم فإن الركنين الآخرين (العراقي، والشامي) قد أدخلا في الحجر بعد بناء قريش؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه كثيرًا بيده الشريفة، فصارت سنة نبوية متبعة. والركن اليماني يستلم باليد دون تقبيل أو تكبير، فإن لم يتمكن من استلامه بيده فإنه لا يشير إليه؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت استلم الحجر والركن في كل طواف. رواه الحاكم، وصححه الألباني. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطًّا». رواه أحمد عن ابن عمر، وصححه الألباني. وذكر أنه تم إلصاق قطع الركن اليماني بالمسامير في عهد الفاطميين، كما أنه في عام 1040هـ في عهد السلطان مراد الرابع الذي جدد بناء الكعبة, انكسر طرف حجر الركن اليماني, فوُضع في محل ذلك رصاص مذاب وألصق الجزء المكسور.
باب الكعبة:
يقع في الجهة الشرقية من الكعبة، ويرتفع عن أرض المطاف بحوالي 2.5م، وارتفاع الباب 3.06م، وعرضه 1.68م، وكان للكعبة منذ بناها إبراهيم -عليه السلام- بابان ملاصقان للأرض: أحدهما شرقي، والآخر غربي. فلما جددت قريش بناء الكعبه، رفعوا الباب الشرقي من مستوى المطاف؛ ليدخل الكعبة من أرادوه، وسدوا الباب الخلفي الغربي المقابل. قال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم». رواه البخاري ومسلم. والباب الموجود اليوم تم صنعه من الذهب؛ حيث بلغ مقدار الذهب المستخدم فيه حوالي 280 كيلو جرام، عيار 99.99 السعودي، وركب في الكعبة بتاريخ 22 من ذي القعدة 1399هـ.
الحِجر:
يشمل الحائط المقوس، والمنطقة المحصورة بينه وبين جدار الكعبة الشمالي، وهو على شكل نصف دائرة. وتذكر بعض الروايات التاريخية الضعيفة: أن إبراهيم الخليل -عليه السلام- جعله عريشًا إلى جانب الكعبة؛ ليكون مسكنًا لإسماعيل -عليه السلام- وأمه هاجر. والصحيح: أن الحجر بُني بعد إسماعيل -عليه السلام- بقرون كثيرة، ولاعلاقة له به، ولا صحة لتسميته بـ(حجر إسماعيل)؛ لما ثبت في الصحيح أن قريشًا لما بَنَت الكعبة قصرت بها النفقة.. وقالوا: لا بد أن نبني البعض، وندع البعض، وأنسب شيء يدعونه أن يكون من الناحية الشمالية، فأنقضوا الكعبة من جانبها الشمالي ستة أذرع وشبرًا (3 أمتار)، وجعلوا هذا الجدار. وسُمِّي الحِجر؛ لأنه محجر كي يطوف النَّاس من خلفه، ولو لم يكن موجودًا لما اكتمل طواف النَّاس؛ لأن الطواف بجميع الكعبة واجب، ولا يمكن تمييز حدود الكعبة من الجهة الشمالية بعد إنقاص قريش لها بهذا الجدار. وعلى هذا فالحجر ليس كله من الكعبة؛ وإنما مقدار ستة أذرع وشبرًا، وقد قربه بعض العلماء بقولهم: "إذا ابتدأ الإنحناء من الحجر يكون خارج الكعبة، ومن المستوى يكون داخل الكعبة". ولاتجوز صلاة الفرض فيه، ولا يصح الطواف إلا من ورائه، ومن أراد أن يدخل الكعبة ولم يتسن له ذلك؛ فدخول الحجر يجزي عن ذلك.
الحطيم:
وهو الجدار الذي بنته قريش بعد إنقاصها للكعبة من الجهة الشمالية كي يطوف النَّاس من خلفه، وهو عبارة عن جدار من المرمر الأبيض المغلف بالرخام, له شكل نصف دائري مستدير، ارتفاعه 1.30م, وعرضه 1.5م، ويقع شمال الكعبة من دون اتصال بها, وأطرافه محاذية لركنيها الشمالي والغربي. وقال بعض المؤرخين: إن الحطيم: هو الموضع الذي بين بئر زمزم ومقام ابراهيم والكعبة. وسُمِّي بذلك؛ لأن النَّاس يزدحمون فيه، ويحطم بعضهم بعضًا.
مقام إبراهيم:
هو حجر رخو من نوع حجر الماء، لونه بين البياض والسواد والصفرة، وهو مربع الشكل، وطوله حوالي نصف متر، ويقع في الجهة الشمالية الشرقية من الكعبة، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه نبي الله إبراهيم الخليل –عليه السلام- حين ارتفع بناؤه للبيت، وشق عليه تناول الحجارة، فكان يقوم عليه ويبني، وإسماعيل –عليه السلام- يناوله الحجارة، وهو أيضًا الحجر الذي قام عليه للنداء والأذان بالحج في النّاس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعند ذلك رفعا إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني؛ حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجر، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم...». وفي هذا الحجر معجزة أثر قدمي إبراهيم –عليه السلام-؛ حيث جعل الله تعالى تحت قدميه من ذلك الحجر في رطوبة الطين حتى غاصت قدماه وبقي أثرهما ظاهرًا حتى يومنا هذا، وقد تغير أثر قدميه في ذلك الحجر عن هيئته وصفته الأصلية؛ وذلك بسمح الناس له بأيديهم خلال هذه القرون الطويلة قبل وضع المقام في مقصورة مغلقة، يقول أنس –رضي الله عنه-: "رأيت المقام فيه أصابع إبراهيم، وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم". وقد اتخذ الناس هذا الحجر مقامًا وأمر الله سبحانه باتخاذه مصلى، قال تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]، واستحب لكل مسلم أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام، وقد كان مقام إبراهيم –عليه السلام- ملاصقًا للكعبة، فأخَّره عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- إلى موضعه الحالي، وأبعده عن جدار الكعبة؛ ليسهل الطواف، ويخفف الزحام. وأوّل من حلَّى المقام الخليفة المهدي العباسي؛ لما خشي عليه أن يتفتت، فهو من حجر رخو، وفي خلافة المتوكل سنة 236هـ زيد في تحليته بالذهب، وجعل ذلك فوق الحلية الأولى، ولم تزل حلية المهدي على المقام حتى قلعت عنه في سنة 256هـ لأجل إصلاحه، فجدد وصب عليه حتى يشتد وزيد في الذهب والفضة على حليته الأولى، فعمل له طوقان من ذهب، وطوق من فضة، وقد كان المقام داخل مقصورة نحاسية مربعة الشكل، وعليها قبة قائمة على أربعة أعمدة، تحتل مساحة كبيرة بجوار الكعبة؛ إلا أن كثرة الحجاج في السنوات الأخيرة أوجبت توسعة المطاف بعد أن ضاق بالطائفين، فكان وجود القبة عائقًا لهذه التوسعة، ودارت مناقشات بين علماء المسلمين حول جواز نقل المقام من موضعه، واختلفت الآراء بين القول بالجواز أو عدمه، وانتهى الأمر إلى قرار من رابطعة العالم الإسلامي بتاريخ (25 من ذي الحجة 1384هـ) بإزالة جميع الزوائد الموجودة حول المقام، وإبقاء المقام في مكانه على أن يُجعل عليه صندوق من البلور السميك القوي على قدر الحاجة، وبارتفاع مناسب يمنع تعثر الطائفين، ويتسنى معه رؤية المقام، وتم ذلك في رجب 1387هـ، وفي عام 1418هـ تم تجديد غطاء مقام إبراهيم –عليه السلام- من النحاس المغطى بشرائح الذهب والكريستال والزجاج المزخرف، وتم وضع غطاء من الزجاج البلوري القوي الجميل المقاوم للحرارة والكسر على مقام إبراهيم –عليه السلام-.
ماء زمزم:
ماء أنبعه الله –عز وجل- تحت قدمي إسماعيل –عليه السلام- بعدما اشتد به الظمأ، ففرحت أمه هاجر بالماء، وأدارت حوله حوضًا، وأخذت تزمه؛ ولذا سميت (بئر زمزم)، ولما زارهم إبراهيم –عليه السلام- ذهب لمكان العين، وحفر البئر، وبظهور الماء في هذا الوادي الجدب نشأت مكة، وتجمعت حولها القبائل. تقع البئر جنوب مقام إبراهيم –عليه السلام- مقابل الركن الأسود، وتبعد عن الحجر الأسود (18) مترًا، ويبلغ مقدار عمقها نحو (43م)، وفي قعرها ثلاث عيون: عين بجوار الركن الأسود، وعين بجوار جبل أبي قبيس والصفا، وعين بمحاذاة المروة. وكانت مبنية من غورها إلى رأسها، وكان لها حوضان: أحدهما بينها وبين الركن يشرب منه، والثاني وراءها له مجرى يذهب فيه الماء إلى مكان قريب من الصفا حيث يتوضأ الناس منه. ونظرًا لما تسببه فوهة البئر من ازدحام في منطقة الطواف فقد أزيلت المنطقة العلوية من البئر، وجعل البئر من أسفل؛ بحيث ينزل الحجاج إليه بدرج يصل إلى غرفة البئر أسفل المطاف. واتفق أهل العلم إلى أنه يستحب للحاج والمعتمر خصوصًا وللمسلم في جميع الأحوال عمومًا أن يشرب من ماء زمزم؛ لما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: "شرب من ماء زمزم". وفي حديث أبي ذر –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إنها مباركة، إنها طعام طعم، وشفاء سقم»، أي: شرب مائها يغني عن الطعام، ويشفي من السِّقام؛ لكن مع الصدق، ودخل ابن المبارك زمزم، فقال: "اللهم إن ابن المؤمّل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شُرب له»، فاللهم إني أشربه لعطش يوم القيامة".
الميزاب:
يقع الميزاب في أعلى منتصف الجدار الشمالي للكعبة المطل على الحجر. ووضع لتصريف ماء المطر الذي ينزل على سطحها ليصب في الحجر، ويُسمَّى (ميزاب الرحمة). ويرجع وضع الميزاب في سطح الكعبة المشرفة إلى تاريخ بناء قريش لها قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات، فبعد أن رفعوا جدران الكعبة سقفوها، وجعلوا لها ميزابًا من الخشب, وقد كانت الكعبة قبل ذلك التاريخ بدون سقف, وفي زمن الوليد بن عبد الملك سنة 91هـ قام والي مكة خالد بن عبد الله القسري بضرب صفائح من الذهب على الميزاب، وفي سنة 1273هـ أرسل السلطان عبد المجيد العثماني ميزابًا من الذهب إلى الكعبة، وفي عام 1417هـ تم تجديده واستبداله.
الشاذروان:
هو البناء المسنم بأسفل الكعبة مما يلي أرض المطاف ما عدا جهة الحجر فإن العتبة التي فيه من أصل الكعبة وليس بشاذروان وهي مرتفعة عن الأرض نحو 13 سم، وبعرض 45 سم. وحقيقة الشاذروان أنه من أصل جدار الكعبة حينما كانت على قواعد إبراهيم –عليه السلام-، وأنقصته قريش من عرض أساس جدار الكعبة حين ظهر على وجه الأرض. وقيل: إن عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- بنى الشاذروان لحماية جدار الكعبة من تسرب المياه إليه، وربط حبال الكعبة المشرفة في الحلقات المثبتة فيه؛ ولإبعاد أجساد الطائفين عن الاحتكاك بستار الكعبة حتى لا تتضرر أجساد الطائفين في الازدحام ولا يتلف ستار الكعبة. وثبت في الشاذروان وعتبة الحطيم 55 حلقة نحاسية لربط حبال كسوة الكعبة. وحجارة الشاذروان من الرخام الصلب. وأثناء عمارة الكعبة المشرفة سنة 1417هـ جدد الرخام القديم.
الملتزم:
هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة المشرفة، ومقداره نحو مترين. وسمي بالملتزم؛ لأن الناس يلزمونه ويدعون عنده، وفضله عظيم؛ ولذلك ثبت أنه من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وقد التزم بين الباب والحجر الأسود: "هذا والله المكان الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم التزمه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء، ما دعا الله فيه عبد دعوة إلا استجابها». وقال أبو الزبير: رأيت عبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن الزبير –رضي الله عنهم- يلتزمونه. وقال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "إن ما بين الحجر والباب لا يقوم فيه إنسان فيدعو الله تعالى بشيء إلا رأى في حاجته بعض الذي يحب".
الكسوة:
كسوة الكعبة من أهم مظاهر التبجيل والتشريف لبيت الله الحرام، ويرتبط تاريخ الكسوة بتاريخ الكعبة نفسها؛ لذلك اهتم المسلمون بكسوة الكعبة المشرفة، وصناعتها، والإبداع فيها، وتسابقوا لهذا الشرف العظيم. تذهب بعض المصادر التاريخية إلى أن إسماعيل –عليه السلام- هو أول من كسا الكعبة، والبعض الآخر يذهب إلى أن عدنان جد النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من كساها، غير أن الثابت تاريخيًّا أن أول من كساها هو "تبع أبي كرب أسعد" ملك حمير سنة 220 قبل الهجرة، وكان تبّع هو أول من كسا الكعبة كسوة كاملة؛ حيث كساها "الخصف"، ثم تدرج في كسوتها حتى كساها "المعافير" وهي كسوة يمنية، كما كساها "الملاء" وهي كسوة لينة رقيقة، ثم تبعه خلفاؤه من بعده فكانوا يكسونها "الوصايل" وهي أثواب حمر مخططة، و"العصب" وهي أثواب يمنية يعصب غزلها، أي: يجمع ويشد: وأخذ الأمراء في تقديم الهدايا إليها من الأكسية المختلفة، وكلما جاءت كسوة طرحت سابقتها إلى أن جاء عهد "قصي بن كلاب" ففرض على القبائل رفادة كسوتها سنويًا، وما زالت قريش تقوم بكسوة الكعبة حتى فتح مكة؛ حيث أتيح للرسول صلى الله عليه وسلم كسوة الكعبة بالثياب اليمنية ومن بعده أبو بكر الصديق، ثم كساها عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان "القباطي المصرية"، وهي أثواب بيضاء رقيقة كانت تُصنَع في مصر، وحظيت مصر بشرف صناعة كسوة الكعبة منذ أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وحتى عام 1382هـ؛ إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة لما تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها بإنشاء مصنع خاص بالكسوة تمر خلاله الكسوة بست مراحل، هي: الحزام، والنسيج اليدوي، والصباغة، والنسيج الآلي، والطباعة، والستارة الداخلية.
الصفا والمروة:
الصفا: جبل صغير وأكمة صخرية تقع في الجهة الجنوبية الشرقية من الكعبة.
و(الصفا): الحجارة المُلْس، وهي التي يبدأ منها السعي.
والمروة: كذلك أكمة صخرية تقع في الجهة الشمالية الشرقية من الكعبة.
و(المروة): الحجر الأبيض الذي تقدح منه النار، وهي التي ينتهي عندها المسعى.
وأصل المسعى أنه لما نفد الماء من هجر، وبدأ إسماعيل –عليه السلام- بالبكاء من العطش، راحت أمه تبحث عن الماء؛ أخذًا بالأسباب، والإنسان يتسع نظره لما حوله إذا ارتقى مكانًا عاليًا؛ خاصة إذا كان ما حوله هو فضاء واسع؛ كالصحراء، فوجدت أقرب ما يكون منها هو الصفا والمروة، فأخذت تصعد عليهما، وتجري بينهما بحثًا عن الماء؛ لتضرب بنظرها إلى ما يمكن أن تلتقطه عيناها، وإذا مرت ببطن الوادي بينهما أسرعت، ولما قطعت الشوط السابع سمعت همسًا من جهة وليدها، فذهبت لتطمئن عليه لتجد الماء يتفجر من تحت قدميه؛ فخلد الله –سبحانه وتعالى- هذه الحادثة، وجعلها من شعائره سبحانه التي يجب على كل مسلم أن يعظمها، وقد كان المسلمون قبل فتح مكة يتحرجون من السعي بينهما لوجود صنمين على الصفا والمروة، وكان المشركون قد وضعوا على جبل الصفا صنمًا يقال: إساف. وعلى المروة: نائلة. يتمسحون بأعتابهما عند السعي، فأزال الله عنهم هذا الحرج بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]، وبعد فتح مكة حطم الرسول هذه الأصنام وهو يقرأ: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} [الإسراء: 81]، وقد كانت الصفا والمروة خارج عمارة المسجد الحرام قبل التوسعة السعودية الأولى، فلما بدأت التوسعة أدخل المسعى ضمن بناية المسجد الحرام، وتم تحسين المسعى الذي يبلغ طوله 395 مترًا، وعرضه 20 مترًا.
التعليقات