هل نحن صائمون؟!
د.خالد راتب
الصيام إمساك عن المفطرات وما في معناهما من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنيةٍ، هذه هي حقيقية الصيام في الشرع، وكل مسلم حقَّق الإمساك بهذا المعنى فصيامه صحيح، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول صيامه مقبول، فقبول العمل أمره موكول إلى الله، كما أن الله لا يقبل العمل إلا من طائفة واحدة، وهي الطائفة التي حقّقت المقصد من العمل، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27).
فمدار العبادات كلها قائم على التقوى، فالتكاليف الشرعية بمختلف أشكالها لا بد أن ترسّخ في الإنسان المعاني السامية، وتصنع منه إنسانًا تقيًّا نقيًّا؛ فالصلاة تطهّر باطن المسلم وظاهره، وتطهّر كذلك المجتمعات، ولكن بشرط أن نقيم الصلاة إقامة كاملة بأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45) .
والزكاة كذلك تنزع الشح والبخل وتحقق الفلاح للأفراد والمجتمعات، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)، وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9).
ولا يتم التطهر الشامل للأفراد والمجتمعات إلا إذا أدى المسلمون زكاة أموالهم دون مَنٍّ أو أذى، فإن ذلك يبطل الصدقات ويمحق البركات، ويزرع الحقد والحسد والبغضاء بين أفراد المجتمع؛ لذا قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} (البقرة:264).
والحج رحلة إيمانية يتحصل فيها العبد إذا أداها أداء صحيحًا على خير زاد – بشرط أن يفطم النفس عن الفسق والرفث والجدال..: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197).
والصيام جامعة إيمانية وروحية وعلمية مليئة بالأسرار والحكم والغايات؛ حيث التقوى والإيمان والاحتساب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
وعمومًا فمقصد العبادات كلها التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21).
ورمضان فرضه الله بصيغة الكتابة، وهناك ثلاثة أشياء في القرآن والأوامر الربانية جاءت بصيغة الكتاب:
الأمر الأول: الصيام: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة:183).
الأمر الثاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}(البقرة:178).
الأمر الثالث: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (البقرة:216).
ثلاثة أمور: صيام، وقصاص، وقتال.
يقول العلماء: إن جعل الصوم مع القتل والقصاص مشعر بأهمية الصوم وعظمته، وأنه لا يقبله ولا يتحمله ولا يرضخ له ولا يحبه إلا المؤمن.
بين صيام العادة والعبادة:
يمر رمضان على الأمة الإسلامية كضيف عزيز، فيفرح به المؤمن فيه بفضل الله وبرحمته؛ فيصوم نهاره إيمانًا واحتسابًا، ويقوم ليله إيمانًا واحتسابًا، فهو عبد مشغول برضاء مولاه وسيده، فيدع طعامه وشرابه وشهوته من أجل المعبود الحق؛ لأنه يعلم أن الصوم لله وهو يجزي به، قال صلى الله عليه وسلم، :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك".[1]
فشعور الإنسان بالعبودية لله عز وجل، والاستسلام لأمره وحكمه، هو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام : 71].
وصيام العبادة هو الذي يربّي النفس، ويعوّدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالصيام يربي قوة العزيمة وقوة الإرادة، ويجعل الإنسان متحكمًا في أهوائه ورغباته، فلا يكون عبدًا للجسد، ولا أسيرًا للشهوة، وإنما يسير على هدي الشرع، ونور البصيرة والعقل، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالأنعام لبطنه وشهوته، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته.
كما أن صيام العبادة يربي في الإنسان المواساة والتكافل الإنساني بمعناه الشامل، ويجعل منه إنسانًا رقيق القلب، طيّب النفس، ويحرّك فيه الإيمان، ويفجّر فيه الطاقة الروحية، ليشعر بشعور إخوانه، يشعر بألمهم وأحزانهم، فيعطي المحروم، ويواسي الفقير، ويرحم الصغير ويعطف على المسكين، ويقف بجوار الضعيف.. وتجود نفسه الخيّرة الكريمة بالخير والبر التي هذّبها شهر الصيام؛ لذا كان – صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة".[2]
هذا هو الصائم في رمضان الذي أمسك قلبه عن الشرك والحقد والغل والحسد، وغير ذلك من أمراض القلوب، وغسل قلبه بالحب والود والتعاطف والتواد، فكان أنموذجًا حيًّا لحديث رسوله –صلى الله عليه وسلم- :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". [3]
وبذلك يجعلنا الصيام وغيره من العبادات كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه.[4]
إن الصائم الحقيقي الذي أمسكت جوارحه عن الحرام؛ عن الغيبة والنميمة، والبهتان وأدناس اللسان واليد والجوارح، كما أمسكت عن الحلال في الوقت الذي أمرها الله فيه بذلك.
صام إيمانًا واحتسابًا، وقام الليل في رمضان كله ولم تفتر عزيمته إيمانًا واحتسابًا، وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، قرأ القرآن وذكر الرحمن ودعا بالليل والنهار.. وامتثل لأوامر ربه ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، واجتهد في العشر الأواخر من رمضان فجدَّ واجتهد وشد المئزر، واعتزل النساء كل ذلك إيمانًا واحتسابًا، وإرضاء لربه.
هذا هو الصيام الحقيقي فهل نحن صائمون؟!!
هل من أطلق لسانه في أعراض الناس ولم يحفظ لسانه وجوارحه من الزور يُعد صائمًا؟ عن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".[5]
هل من أمضى نهاره في النوم وضيَّع حقوق الله والعباد، ومن سهر الليالي على المنكرات والمحرمات وأضاع أفضل أوقات العمر، الليالي التي يعتق الله فيها الرقاب من النيران يعد صائمًا؟ ورمضان شهر الجهاد والاجتهاد، وقد كان – صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، ففي مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، وقال الألباني: حديث صحيح: "كان رسول الله– صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره".
فلا بد أن تسأل نفسك من أي أصناف الصائمين أنت؟!
فهناك صنف صام عن الطعام والشراب والشهوات ولم يصم عن المحرمات، فكان صومه بهتانًا وزورًا. فاحذر هذا الصنف.
وهناك صنف ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجَر مع الله، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ﴾ (الكهف:30).
وصنف صام في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى. فمن أي الصائمين أنت؟!
[1] ) أخرجه مسلم - كتاب الصيام - باب فضل الصيام-.
[2] ) أخرجه البخاري- كتاب الصوم- باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان-، ومسلم –كتاب الفضائل- باب كان النبى -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير من الريح المرسلة-.
[3] ) أخرجه البخاري- كتاب الأدب- باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم – كتاب البر والصلة والآدب- باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم-.
[4] ) أخرجه البخاري -كتاب الصلاة -باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره – ومسلم- كتاب البر والصلة والآدب- باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم-.
[5] ) أخرجه البخاري – كتاب الصوم - باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم-.
التعليقات