أحوال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- في رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فإن شهر رمضان شهر عظيم مبارك، جعله الله موسمًا للخيرات، وزادًا للتقوى والبركات، اختصه الله -سبحانه- بنزول القرآن في ليلة هي خير من ألف شهر، وافترض علينا صيامه، وسَنَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيامه، ولن يفلح العبد إلا إذا اتخذ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة وقدوة طيبة، فينظر في صلاته وصيامه وهديه وسائر عمله، فيجتهد أن يعمل بعمل النبي صلى الله عليه وسلم ويهتدي بهديه.
وإن المتدبر في أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان يجد أنه لم يكن حاله في رمضان كحاله في غيره من الشهور، فقد كان برنامجه اليومي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر المبارك مليئاً بالطاعات والقُربات؛ وذلك لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة خصَّها الله -تبارك وتعالى- بها، وميَّزها عن سائر أيام العام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان قد غُفر له من تقدم من ذنبه، إلا أنه أشد الأمة اجتهاداً في عبادة ربه -تبارك وتعالى- وقيامه بحقه.
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إلى جانب أدائه للصلوات في مواقيتها، وصيامه لرمضان، يكثر في هذا الشهر من أنواع العبادات، فكان جبريل - عليه السلام- يدارسه القرآن في رمضان، وكان يتأثر بذلك فيكون أجود ما يكون في رمضان إذا لقيه جبريل - على الرغم من أنه كان أجود الناس في غيره-، فتراه يكثر من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة والذكر، والاعتكاف فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة" [رواه البخاري (3220)].
وكان يهتم اهتماماً خاصّاً بالعشر الأواخر من رمضان فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"[رواه البخاري (1920)؛ ومسلم (1174)].
وعنها - رضي الله عنها - أيضاً: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده"[ رواه البخاري (1922)؛ ومسلم (1172)].
وكل ذلك ليجمع قلبه لمناجاة ربه، ويتفرغ لذكره ومناجاته، وسأل أبو سلمة بن عبد الرحمن عائشة - رضي الله عنها -: كيف كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً, فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: ((يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي)) [رواه البخاري (1909)؛ ومسلم (738)].
وربما خصَّ رمضان بما لا يخص به غيره من الشهور من العبادة، حتى إنه ربما واصل الصيام يومين أو ثلاثة ليتفرغ للعبادة فعن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر)) قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله قال: ((إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقين)) [رواه البخاري (1862)؛ ومسلم (1102)].
وكان من هديه - عليه الصلاة والسلام - تعجيل الفطر، فقد ثبت عنه من قوله وفعله أنه كان يعجل الإفطار بعد غروب الشمس قبل أن يصلي المغرب فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) [رواه البخاري (1856)؛ ومسلم (1098)].
وكان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء، فقد جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي؛ فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات؛ فإن لم تكن حسا حسوات من ماء" [رواه أبو داود (2356)؛ والترمذي (696)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (9126)].
وأما السحور فكان يحث عليه، ويخبر بأنه بركة، ويحث على تأخيره فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) [رواه البخاري (1823)؛ ومسلم (1095)].
وكان يؤخره حتى ما يكون بين سحوره وبين صلاة الفجر إلا وقتاً يسيراً قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية كما ثبت ذلك في الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيد بن ثابت تسحرا, فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة فصلى, قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" [رواه البخاري (551)].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم- لا يتحرج من أن يقبِّل أزواجه وهو صائم، ويباشرهن مباشرة من غير جماع لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه"[رواه مسلم (1106)].والمباشرة والتقبيل يفعلهما الصائم إذا كان مالكا لشهوته،وإلا فلا وخصوصا الشباب ومن كان حديث عهد بزواج.
وربما جامع أهله بالليل فأدركه الفجر وهو جنب، فيغتسل ويصوم ذلك اليوم لحديث عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدركه الفجر في رمضان من غير حلم فيغتسل ويصوم" [رواه البخاري (1829)؛ ومسلم (1109)].
ولم يكن يعتبر رمضان شهر كسل وفتور بل ربما جاهد - صلى الله عليه وسلم- في رمضان، بل إن المعارك الكبرى قد قادها -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ومنها بدر وفتح مكة فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبره: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزا غزوة الفتح في رمضان"[ رواه البخاري (4026)].
وكان يصوم -صلى الله عليه وسلم- في سفره تارة، ويفطر أخرى، وربما خيَّر أصحابه بين الأمرين فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد أفطر، فأفطر الناس" قال أبو عبد الله - أي البخاري -: "( الكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة ماء بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلا )، [رواه البخاري (1842)].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" [رواه مسلم (1116)].
فهذا هو هديه -صلى الله عليه وسلم-، وتلك هي طريقته وسنته، وما أحوجنا إلى الاقتداء والتأسي به -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كله، فلنسدد ولنقارب، ولنعلم أن النجاة في اتباعه والسير على منهجه, نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا اتباعه ظاهراً وباطناً, والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
التعليقات