حكم الاستناد والاعتماد على شيء في الصلاة

القيام في الفريضة: فرض على القادر، لا تصح الصلاة بدونه، فإن لم يستطع القيام، أو كان القيام يزيد في مرضه، أو شق عليه مشقة شديدة، جاز له القعود؛ لما روى البخاري (1050) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : "كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/ 106): " أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلي جالسا. وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وزاد: (فإن لم تستطع فمستلقيا) ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقرة: 286] » . وروى أنس قال: سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس، فخدش أو جحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده. فحضرت الصلاة، فصلى قاعدا، وصلينا خلفه قعودا متفق عليه.
وإن أمكنه القيام، إلا أنه يخشى زيادة مرضه به، أو تباطؤ برئه، أو يشق عليه مشقة شديدة، فله أن يصلي قاعدا. ونحو هذا قال مالك وإسحاق.
وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه، فليصل جالسا. وحكي عن أحمد نحو ذلك.
ولنا قول الله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: 78] . وتكليف القيام في هذه الحال حرج، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا لما جحش شقه الأيمن، والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام بالكلية؛ لكن لما شق عليه القيام سقط عنه، فكذلك تسقط عن غيره. وإذا صلى قاعدا فإنه يكون جلوسه على صفة جلوس المتطوع، جالسا على ما ذكرنا.
فصل: وإن قدر على القيام، بأن يتكئ على عصى، أو يستند إلى حائط، أو يعتمد على أحد جانبيه، لزمه؛ لأنه قادر على القيام من غير ضرر، فلزمه، كما لو قدر بغير هذه الأشياء" انتهى.
والاستناد نوعان:
1-الاستناد القوي بحيث لو زال ما استند عليه سقط، هو بمنزلة ترك القيام، عند الجمهور، فإن كان في الفريضة مع العجز عن القيام فلا حرج، وإن كان مع القدرة على القيام بطلت الصلاة.
2-الاستناد الضعيف بحيث لو أزيل ما استند عليه لم يسقط، وهذا مكروه لغير حاجة، فإن كان لحاجة لم يكره.
قال ابن النجار الفتوحي، رحمه الله، في جملة مكروهات الصلاة:
" (واستناد) إلى جدار أو نحوه؛ لأنه يزيل مشقة القيام. وإنما يكره إذا كان (بلا حاجة) إليه؛ " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسن وأخذه اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه " . رواه أبوداود. انتهى، من "شرح المنتهى" (2/ 180).
وقال الشيخ عبد الله بن أحمد المقدسي، رحمه الله:
" (و) يُكره (أنْ يستندَ بلا حاجةٍ) إلى نحوِ جدارٍ ونحوِه؛ لأنَّه يزيلُ مشقَّةَ القيامِ.
فلا يُكره مع الحاجةِ؛ لأنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما أسَنَّ، وأخذَه اللَّحمُ، اتخذَ عمودًا في مصلَّاه يعتمدُ عليه. رواه أبو داود.
(فإن استندَ بحيثُ يقعُ لو أُزيلَ ما استنَدَ إليه، بطلتْ) صلاتُه لأنَّه كغيرِ قائمٍ. هذا مع عدمِ الحاجةِ، أمَّا معها فلا يضرُّ الاستنادُ مطلقًا.
والحاجةُ: كضعفٍ، وكِبرٍ، ومشقَّةٍ". انتهى، من "شرح دليل الطالب" (1/338).
فصرح هنا بالصورتين، وأنه مع الحاجة: لا يضر صلاة المعتمد، مطلقاً؛ يعني: في الصورتين جميعا.
والحديث عند أبي داود (948) من حديث أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ رضي الله عنها، وصححه الألباني.
قال ابن رسلان رحمه الله: " والعمود عمود البيت والخباء ونحو ذلك" انتهى من "شرح أبي داود" (5/ 173).
وفي "الموسوعة الفقهية" (4/ 104): " الاستناد إلى عماد - كحائط أو سارية - في صلاة الفريضة للقادر على القيام مستقلا دون اعتماد. للفقهاء فيه اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول: يرى الحنفية، والمالكية، والحنابلة منعه، وهو قول للشافعية. قالوا: من اعتمد على عصا أو حائط ونحوه بحيث يسقط لو زال العماد، لم تصح صلاته، قالوا: لأن الفريضة من أركانها القيام، ومن استند على الشيء، بحيث لو زال من تحته سقط: لا يعتبر قائما.
أما إن كان لا يسقط لو زال ما استند إليه، فهو عندهم مكروه، صرح به الحنفية، والمالكية، والحنابلة. قال الحلبي في شرح المنية: يكره اتفاقا - أي بين أئمة الحنفية - لما فيه من إساءة الأدب وإظهار التجبر. وعلل ابن أبي تغلب - من الحنابلة - للكراهة بكون الاستناد يزيل مشقة القيام.
والاتجاه الثاني: قول الشافعية المقدم لديهم: أن صلاة المستند تصح مع الكراهة، قالوا: لأنه يسمى قائمًا، ولو كان بحيث لو أزيل ما اعتمد عليه لسقط.
والاتجاه الثالث: أن استناد القائم في صلاة الفرض جائز. روي ذلك عن أبي سعيد الخدري وأبي ذر رضي الله عنهما، وجماعة من الصحابة والسلف" انتهى.
أما الاستناد القوي في النفل، فلا حرج فيه، فإن كان لعذر، فله الأجر كاملا، وإن كان لغير عذر، فقد ذكر بعض السلف أنه ينقص من أجره بقدر ما اعتمد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ رواه النسائي (1659)، والترمذي (371)، وابن ماجه (1230)، وصححه الألباني.
ورواه مسلم (735) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم": "وهذا الحديث محمول على صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم، وأما إذا صلى النفل قاعدا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه بل يكون كثوابه قائما. وأما الفرض فإن صلاها قاعدا مع قدرته على القيام لم يصح، فلا يكون فيه ثواب بل يأثم به. قال أصحابنا: وإن استحله كفر وجرت عليه أحكام المرتدين، كما لو استحل الزنى والربا أو غيره من المحرمات الشائعة التحريم. وإن صلى الفرض قاعدا لعجزه عن القيام أو مضطجعا لعجزه عن القيام والقعود، فثوابه كثوابه قائما لم ينقص باتفاق أصحابنا، فيتعين حمل الحديث في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعدا مع قدرته على القيام، هذا تفصيل مذهبنا وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث" انتهى.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "شرح مسلم" (3/ 149): " وأما الاتكاء على العصىّ لطول القيام في النوافل، فما أعلم أنه اختلف في جوازه والعمل به، إلا ما روي عن ابن سيرين فى كراهة ذلك.
وقول مجاهد: ينقص من أجره بقدر ذلك، هو من باب قوله: " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم "" انتهى.
ولعل مراد مجاهد: أنه ينقص من أجر قيامه، لا من أجر صلاته كلها. فالله أعلم.
التعليقات