عدم جواز التقدم للإمامة دون إذن القائمين على المسجد
إذا دخل الإنسان مسجد حي في قرية أو مدينة فلا يجوز له أن يتقحم الإمامة ، ولو كان يرى نفسه فقيها قارئا وأولى من غيره بالإمامة ، إلا أن يستأذن من المتولين على شؤون المسجد ، فيأذنوا بذلك ، أما من غير استئذان فلا يجوز ، لأسباب كثيرة ، منها :
أولا :
ما ورد عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ العُقَيْلِيِّ ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ ، رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالَ :
" كَانَ مَالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ يَأْتِينَا فِي مُصَلاَّنَا يَتَحَدَّثُ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ يَوْمًا ، فَقُلْنَا لَهُ : تَقَدَّمْ ، فَقَالَ : لِيَتَقَدَّمْ بَعْضُكُمْ حَتَّى أُحَدِّثَكُمْ لِمَ لاَ أَتَقَدَّمُ . سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلاَ يَؤُمَّهُمْ ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ ) رواه الترمذي في " السنن " (رقم/356) وقال : حسن صحيح . وبوب عليه بقوله : باب ما جاء فيمن زار قوما فلا يصل بهم . وضعف الحديث بعض العلماء .
ثانيا :
مقام الإمامة مقام جليل عند الله عز وجل ، ومقام رفيع عند المسلمين ، ومثله لا يُتولى بتقدم من شاء من الناس تحت أوهام العلم والحفظ ، وإنما لا بد من ترتيب خاص لهذا الشأن بالتوافق على الأفقه والأحفظ ، والتوافق على من ينوب عنه حال غيابه ، وأما التقدم بغير استئذان فمجاوزة فضولية لا تراعي هذا المقام الجليل .
ثالثا :
هذا الحكم الشرعي هو لازم الأدب والخلق الرفيع أيضا ، فالغريب على أهل الحي أو أهل المسجد يتواضع في غربته ، ويحفظ للناس خصوصيتهم التي يسيرون عليها ، فلا يجترئ عليها ، والأدب يعني أن تحفظ للناس مقاماتهم ومنازلهم ووظائفهم التي يقومون عليها ، ولا تخالف ذلك تحت ذريعة العلم أو الفقه ، بل العلم والفقه يعنيان التأخر أو الاستئذان ، وليس الهجوم على الإمامة .
وفي هذا روى البيهقي في " السنن الكبرى " (3/ 180) من طريق ابن جريج قال : " أخبرني نافع قال : أقيمت الصلاة في مسجد بطائفة المدينة ، ولابن عمر قريبا من ذلك المسجد أرض يعملها ، وإمام ذلك المسجد مولى له ، ومسكن ذلك المولى وأصحابه ثَم ، فلما سمعهم عبد الله جاء ليشهد معهم الصلاة ، فقال له المولى صاحب المسجد : تقدم فصل . فقال عبد الله : أنت أحق أن تصلي في مسجدك مني ، فصلى المولى ".
ثم روى البيهقي أيضا من طريق هزيل بن شرحبيل قال : " جاء ابن مسعود إلى مسجدنا فأقيمت الصلاة ، فقلنا له : تقدم ، قال : يتقدم إمامكم ، قال : فقلنا : إن إمامنا ليس ههنا ، قال : يتقدم رجل منكم " .
فتأمل هذه الأخلاق الرفيعة من الصحابة الكرام ، كيف قدم ابن عمر مولاه ، وقدم ابن مسعود رجلاً من أهل المسجد ، رغم أنهما من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذلك إلا حرصا على امتثال الحكم الشرعي ، وتحقيق مقصده الأخلاقي .
رابعا :
أن التقدم من غير استئذان فيه مفاسد كبيرة ، تورث الشقاق والنزاع في بيوت الله ، وتحدث فتنا واضطرابا في المساجد ، مآلها التدابر بين المصلين ، والانشغال عن الصلاة بمقاطعة هذا المتقدم للإمامة بغير إذن ، وسؤاله عن شخصه وسبب تقدمه .
خامسا :
في التزام هذا الأدب أيضا قطع للطريق على المبتدعة أو الفسقة الذين قد يستغلون الغفلة والثغرة ، فيقدمون أنفسهم أئمة للناس في المساجد التي يزورونها ، يتطلبون الرياء والسمعة وتزكية أنفسهم ، أو نشر بدعتهم ، وترويج أشخاصهم . والناس في غنى عن هذه المفاسد كلها لو التزموا هذا الأدب الشرعي .
لذلك كله ، فالواجب أن تبقى متأخرا ، تنتظر من يتولى الإمامة من أهل المسجد ؛ فإن كنت لا بد فاعلا، فعليك بسؤالهم واستئذانهم قبل التقدم للإمامة .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" إمام المسجد الراتب أولى من غيره " انتهى من " المغني " (2/151) .
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي :
" عندنا رجل يؤمنا في الصلاة ، ويفرض نفسه علينا دون أن يشاور أحدا في الأمر ، رغم أن خلفه من هو أقرأ للقرآن منه ، وأعلم بالسنة منه ، فما حكم الصلاة خلف هذا الرجل ؟
فأجاب :
الواجب على هذا الرجل ألا يفرض نفسه على الناس ، بل يشاورهم ، إن أرادوه تقدم بهم ، وإن لم يريدوه ترك ، والواجب أيضا أن يقدر من خلفه ، فإذا كان من خلفه أقرأ منه وأعلم منه ، فالواجب أن يكونوا مقدمين عليه ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ) وفي رواية : ( سلما ) .
فلا يجوز له أن يفرض نفسه عليهم ، بل يجب عليه أن يدع هذا الأمر شورى بينهم ، فإذا رأى أعيان الجماعة وخواصهم تقديمه تقدم ، وإن رأوا تقديم غيره ممن هو أفقه منه أو أقرأ منه : فذلك هو الأولى والأفضل ، وليس له أن يفرض نفسه على الناس ، وإذا كان المسجد له مسؤول من الأوقاف ، أو غير الأوقاف ، فالمسؤول هو الذي بيده الأمر ، الأوقاف تنظر أو المسؤول نفسه الذي هو الوكيل عليه والقائم عليه ؛ لكونه هو الذي بناه وعمره ، المقصود إذا كان له مسؤول فالمسؤول ينظر في الأمر ، وإذا كان ليس له مسؤول : فالجماعة ينظرون في الأمر ، ويختارون من هو أفضل في دينه وتقواه وأفضل في علمه وقراءته ، ولا يقبلون لأحد أن يفرض عليهم نفسه.
والصلاة صحيحة إذا صلى بهم ، لكنه على خطر ؛ لأنه جاء الوعيد في حق من أم قوما وهم له كارهون ... فينبغي له الحذر والبعد عن مثل هذا الأمر إلا برضا الجماعة وتقديمهم له " .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر " (12/ 53 بترقيم الشاملة) .
التعليقات