خطبتا جمعة… وهذا ما كان!
ذهبت لأداء صلاة الجمعة في جامع بعيد عن سكني، بغية الالتقاء بأحد المصلين فيه من طلاب المنح، والتنسيق معه لأجل تخريج أحاديث رسالة علمية أعدها غيري، وكنت الوسيط بينهما لا أقل ولا أكثر. المهم أن الخطيب ارتقى المنبر، وخطب عن الطهارة وأحكامها بتفصيل دقيق. تبين لي أني أعرف الخطيب، ويعرفني، دون وجود تواصل بيننا. كانت فرصة طيبة للاستماع إلى ذلكم الشيخ المفسر المبارك.
قابلت الباحث بعد الصلاة، وأعطيته المادة، وربطت بينه وبين كاتب الرسالة، ثم انصرفت ومعي أبنائي. تسارع الفتيان الاثنان نحو السيارة -وهما دون البلوغ بقليل- وركبا في المقاعد الخلفية، والبسمة تملأ محياهما، وهما يكتمان الضحك، وقد التزما الصمت. تغافلت عمّا هم به من صمات، وسألتهما جريًا على عادتي: ماذا قال الخطيب؟ وماذا استفدتم من الخطبة؟ فتدافعا الجواب أول الأمر إلى أن انطلقا بالكلام، لذلك استثمرت الحديث معهما بهذه المناسبة لتوضيح أحكام وآداب شرعية يحتاجها الأبناء في مثل عمرهما، وكنت فيما سبق على استعداد لانتهاز أي فرصة من أجل إنجاز هذا الواجب الأبوي. كان أبي -رحمه الله- يستثمر صلاة الجمعة، وذهابنا المشترك إليها، في هذا المسار التربوي المؤثر.
ثم شاء الله أن أحضر احتفالًا كبيرًا ضحوة السبت اللاحق لتلك الجمعة -كان السبت حينها أول يوم عمل-. حين جلست في مكاني المحدد، لمحت الخطيب على يميني، فبادرت للسلام عليه قبل بدء الحفل. أخبرته بما كان من أمري والأبناء يوم أمس، وشكرته على خطبته التعليمية الواضحة، وقلت له: لقد خلصتني من معضلة البحث عن مدخل لهذا الموضوع الحرج. طبعًا سر خطيبنا من الخبر، والله يفيض عليه من توفيقه وعونه.
وفي الأسابيع الماضية لم أجد موقفًا قريبًا عند الجامع الذي أصلي فيه كل جمعة. ولأن الوقوف في مكان قصي يصعب عليّ بسبب حرارة الشمس، فقد بحثت عن أقرب جامع، وصليت فيه. أعجبتني الخطبة المختصرة الواضحة، وأسلوب الخطيب المتميز راق لي أكثر. بعد ركوب السيارة وجهت لأبنائي السؤال الذي يتهربون منه غالبًا؛ لأنه يكشف عن مدى تركيزهم وحضور أذهانهم إبان الخطبة!
تفاجأت حين أجابني أحدهم، وهو الأكثر تهربًا، والأبرع في التفلت من السؤال والجواب! تعجبت من جوابه الدقيق عن مضمون الخطبة مع أن موضوعها أكبر من عمره فيما أحسب. أردفت بسؤال ثان غير معهود مني بعد الخطب، إذ قلت لابني هذا: ما الذي أعجبك في أسلوب الخطيب؟ فقال: كأنه يتحدث إلينا في مجلس! لم نشعر بأنها خطبة جمعة طوال الوقت. الحقيقة أن هذا الملحظ لفت نظري؛ فالخطيب يستعمل لغة فصيحة لكنها مفهومة جدًا، ليس فيها لفظ غريب أو وحيش، ولا تعبير بعيد المرامي والأغوار، مع أنه يستطيع صنع ذلك قطعًا. وفوق ذلك يتوقف الخطيب مرات يسيرة أثناء الخطبة؛ ليحادث الناس مباشرة دون نظر للخطبة المكتوبة معه، فيشد الانتباه إبان وقفاته الموفقة تلك.
بعد تلك الخطبة بيوم، ذهبت لعيادة أحد الأصدقاء المرضى -شفاه الله وعافاه-، وبيته قريب من موقع الجامع السابق. ولأن صاحبنا أحبَّ بقاءنا عنده، واستأنس بأحاديثنا معه، قلت لهم ضمن سياق الجلسة حكايتي مع الخطيب المجاور لهم. علّق أحد الحاضرين المشاركين في الزيارة بما خلاصته أنه يصلي في هذا المسجد من شهور، وأنه منبهر من الخطيب وأسلوبه وتفاعله مع المصلين حتى في تعليقاتهم بعد الصلاة والخطبة، حتى أنه ربما جعل إحدى خطبه حول موضوع مهم، بناء على حديث أحد المصلين معه عقب الفراغ من الصلاة.
بناء على ذلك، تواصلت مع الخطيب المجتهد شاكرًا داعيًا بعد أن عرفت سبل التواصل معه.
إن شكر المحسنين وذوي الفضل والمروءات واجب لهم، وواجب للمجتمع لأنه يكثر المحاسن فينا، ويشيع عبادة الشكر وهي عبادة عظيمة جديرة بألّا نغفل عنها. إن يوم الجمعة وخطبته لهما أحكام وآداب وأجور، وما أجدرنا بالمسابقة إلى التطبيق واغتنام الثواب.
إن خطبة الجمعة تكاد أن تصبح الوسيلة الوحيدة لتعليم الناس في بلدان ومجتمعات، والله يوفق الخطباء لجعلها منبر تعليم صغار العلم قبل كباره، وترسيخ الأخلاق، وبث كثير من المسائل التي لا يدركها بعض الناس إلّا من على منبر الجمعة الطيب المبارك.
التعليقات