روى الإمام مسلم في "صحيحه" (251) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ ) قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ( إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ).
أن هذه الخصال المذكورة في الحديث من إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةِ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، هي من الرباط حقيقة، لغة وشرعا، باعتبار أن الرباط : حبس النفس على الطاعات ، وكفها عن الشهوات والمحرمات ، وهذا يصدق على من واظب على فعل هذه العبادات .
وأما تفسير الرباط في الحديث بأنه رباط المجاهدين على الثغور، فليس بظاهر، وإن قال به بعض أهل العلم، بل الأقرب: أن الرباط هنا: جرى على أصل معناه العام، وهو الملازمة للعمل، والمداومة على الطاعة. ولم يقصد به الرباط الخاص على الثغور، في مقابلة العدو.
وبكل حال؛ فليس في الحديث ما يدل على أن أجر الخصال المذكورة فيه، مساو لأجر المرابطة على الثغور؛ فإن المجاهدين أكثر عملا ، وعرّضوا أنفسهم للقتل ، وأصابهم من التعب والنصب ما لم يصب منتظر الصلاة ؛ فظفروا بذروة سنام الإسلام!!
وقد روى ابن حبان في "صحيحه" (4603) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّهُ كَانَ فِي الرِّبَاطِ، فَفَزِعُوا إِلَى السَّاحِلِ، ثُمَّ قِيلَ: لَا بَأْسَ، فَانْصَرَفَ النَّاسُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَاقِفٌ، فَمَرَّ بِهِ إِنْسَانٌ فَقَالَ: مَا يُوقِفُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَوْقِفُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ) وصححه الألباني في "الصحيحة" (1068)
فبيّن في هذا الحديث أن رباط المجاهد، غير رباط المصلي القائم، فهذا رباط، وذاك رباط، ولكل فضل، والمجاهد أعظم أجرا، وأكثر فضلا.
ويشبه هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم عد خصالا كثيرة ينال بها المسلم الشهادة ، بل قال صلى الله عليه وسلم : : ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) رواه مسلم (1909).
ولا يلزم من ذلك أن يكون مساويا لشهيد المعركة ، بل شهيد المعركة أفضل ، بل شهداء المعركة أنفسهم متفاضلون .
قال النووي رحمه الله:
" واعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام : أحدها : المقتول في حرب بسبب من أسباب القتال ، فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة وفي أحكام الدنيا ، وهو أنه لا يغسَّل ولا يصلَّى عليه .
والثاني : شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا ، وهو المبطون , والمطعون , وصاحب الهدم , ومن قتل دون ماله , وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيداً ، فهذا يغسَّل ويصلَّى عليه وله في الآخرة ثواب الشهداء , ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول… " انتهى.
" شرح مسلم " (2/164)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" والذي يظهر أن المذكورين – في الشهداء خمسة وغيرهم – ليسوا في المرتبة سواء.
ويدل عليه: ما روى أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث جابر ، والدارمي وأحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن جحش ، وابن ماجه من حديث عمرو بن عتبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سئل أي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده وأهريق دمه .
وروى الحسن بن علي الحلواني في ( كتاب المعرفة ) له بإسناد حسن من حديث ابن أبي طالب قال : " كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد ، غير أن الشهادة تتفاضل " انتهى، "فتح الباري" (6/44)
وقال المناوي رحمه الله :
" ( وإن مات على فراشه ) لأن كلا منهما نوى خيرا وفعل ما يقدر عليه ، فاستويا في أصل الأجر ، ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة : استواؤهما في كيفيته وتفاصيله ، إذ الأجر على العمل ونيته ، يزيد على مجرد النية ، فمن نوى الحج ولا مال له يحج به يثاب دون ثواب من باشر أعماله.
ولا ريب أن الحاصل للمقتول من ثواب الشهادة، تزيد كيفيته وصفاته على الحاصل للناوي الميت على فراشه ، وإن بلغ منزلة الشهيد ، فهما وإن استويا في الأجر، لكن الأعمال التي قام بها العامل تقتضي أثرا زائدا وقربا خاصا ، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء" انتهى، فيض القدير" (6/186)
التعليقات