حكم إقامة الجماعة الثانية في المسجد وصوره المتعددة
إقامة الجماعة الثانية في المسجد له عدة صور ، بعضها ممنوع وبعضها جائز .
والصورة التي ينبغي أن نتفق على منعها هي : إذا كانت هذه الجماعة تقام باتفاق مسبق من هؤلاء ، كما لو اتفق جماعة على الحضور إلى المسجد بعد انتهاء الإمام من الصلاة ثم يصلون جماعةً ، ومثلها أيضا في المنع : إذا كانت الجماعة الثانية شيئا راتبا في المسجد ونظاماً معمولاً به ، كما لو قيل مثلاً : إن الجماعة الأولى تقام الساعة كذا ، والجماعة الثانية تقام الساعة كذا ، ويكون هذا شيئا راتباً .
فهاتان الصورتان لا إشكال في النهي عنهما ، لما فيهما من تفريق جماعة المسلمين ، وتثبيط الناس عن الحضور إلى الجماعة الأولى .
أما إذا أقيمت الجماعة الثانية في المسجد من غير اتفاق ، كما لو دخل جماعة إلى المسجد بعد انتهاء الإمام من الصلاة فصلوا جماعة ، فهذه الصورة فيها خلاف بين العلماء ، والصحيح جوازها بل استحبابها ، لما فيها من تحصيل ثواب الجماعة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وهو يذكر صور إقامة الجماعة الثانية في المسجد : " فأما الصورة الأولى ، بأن يكون في المسجد جماعتان دائما ، الجماعة الأولى والجماعة الثانية ، فهذا لا شك أنه مكروه إن لم نقل : إنه محرم ؛ لأنه بدعة ؛ لم يكن معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
ومن ذلك ما كان معروفا في المسجد الحرام سابقا قبل أن تتولى الحكومة السعودية عليه ، كان فيه أربع جماعات ، كل جماعة لها إمام : إمام الحنابلة يصلي بالحنابلة ، وإمام الشافعية يصلي بالشافعية ، وإمام المالكية يصلي بالمالكية ، وإمام الأحناف يصلي بالأحناف .
ويسمونه : هذا مقام الشافعي ، وهذا مقام المالكي ، وهذا مقام الحنفي ، وهذا مقام الحنبلي ، لكن الملك عبد العزيز جزاه الله خيرا لما دخل مكة ، قال : هذا تفريق للأمة ، أي : أن الأمة الإسلامية متفرقة في مسجد واحد ، وهذا لا يجوز ، فجمعهم على إمام واحد ، وهذه من مناقبه وفضائله رحمه الله تعالى .
فهذا الذي أشار إليه أحد المحاذير ، وهو تفريق الأمة .
وأيضا : أنه دعوة للكسل ؛ لأن الناس يقولون : ما دام فيه جماعة ثانية ننتظر حتى تأتي الجماعة الثانية ، فيتوانى الناس عن حضور الجماعة مع الإمام الراتب الأول ".
ثم ذكر الصورة الثانية فقال :
" وأما الصورة الثانية ، أن يكون عارضا ، أي أن الإمام الراتب هو الذي يصلي بجماعة المسجد ، لكن أحيانا يتخلف رجلان أو ثلاثة أو أكثر لعذر ، فهذا هو محل الخلاف .
فمن العلماء من قال : لا تعاد الجماعة ، بل يصلون فرادى .
ومنهم من قال : بل تعاد ، وهذا القول هو الصحيح ، وهو مذهب الحنابلة ، ودليل ذلك :
أولا : حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله ) رواه أبو داود (554) والنسائي (843) وهذا نص صريح بأن صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده ، ولو قلنا : لا تقام الجماعة لزم أن نجعل المفضول فاضلا ، وهذا خلاف النص .
ثانيا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالسا ذات يوم مع أصحابه ، فدخل رجل بعد أن انتهت الصلاة ، فقال : ( من يتصدق على هذا فيصلي معه ؟ ) فقام أحد القوم فصلى مع الرجل . رواه الترمذي (220) وهذا نص صريح في إعادة الجماعة بعد الجماعة الراتبة ، حيث ندب النبي عليه الصلاة والسلام من يصلي مع هذا الرجل ، وقول من قال : إن هذه صدقة ، وإذا صلى اثنان في المسجد وقد فاتتهما الصلاة فصلاة كل واحد منهما واجبة . فيقال : إذا كان يؤمر بالصدقة ، ويؤمر من كان صلى أن يصلي مع هذا الرجل ، فكيف لا يؤمر من لم يصل أن يصلي مع هذا الرجل ؟!
الصورة الثالثة : أن يكون المسجد مسجد سوق ، أو مسجد طريق سيارات ، أو ما أشبه ذلك ، فإذا كان مسجد سوق يتردد أهل السوق إليه فيأتي الرجلان والثلاثة والعشرة يصلون ثم يخرجون ، كما يوجد في المساجد التي في بعض الأسواق ، فلا تكره إعادة الجماعة فيه ، قال بعض العلماء : قولا واحدا ، ولا خلاف في ذلك ؛ لأن هذا المسجد من أصله معد لجماعات متفرقة ؛ ليس له إمام راتب يجتمع الناس عليه " انتهى من "الشرح الممتع" (4/227- 231).
والذي نوصي به إخواننا هو التناصح والسعي لجمع الكلمة ونبذ الاختلاف والفرقة ، وترك حظ النفس ، والمحافظة على هذه الشعيرة التي هي من أسباب الاتحاد والائتلاف ، فكيف تجعل وسيلة للخلاف والفرقة .
ولنا قدوة في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فقد أنكر على عثمان رضي الله عنه إتمامه الصلاة بمنى ، ومع ذلك أتم الصلاة ، فلما سئل عن ذلك قال : ( الْخِلافُ شَرٌّ ) رواه أبو داود (1960).
ومما يدل على أهمية السعي في تأليف القلوب ، أن جماعة من أهل العلم نصوا على جواز ترك الإمام بعض السنن لمصلحة تأليف الجماعة ، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ولو كان الإمام يرى استحباب شيء , والمأمومون لا يستحبونه , فترَكه لأجل الاتفاق والائتلاف ، كان قد أحسن . مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة . كالمغرب : كقول من قاله من أهل العراق . والثاني : أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها , كقول من قال ذلك من أهل الحجاز . والثالث : أن الأمرين جائزان , كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما , وهو الصحيح . وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله , فلو كان الإمام يرى الفصل , فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب ، فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة , ولألصقتها بالأرض ; ولجعلت لها بابين , بابا يدخل الناس منه , وبابا يخرجون منه ) فترك الأفضل عنده ; لئلا ينفر الناس .
وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأمّ بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (2/118).
التعليقات