أصناف الناس يوم الجمعة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
يوم الجمعة عيد المسلمين الأسبوعي، وخير يوم طلعت فيه الشمس، وفيه خلق الله آدم -عليه السلام-، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج، وفيه أُهبط، وفيه مات، ويوم الجمعة هدى الله إليه هذه الأمة، وأضل عنه اليهود والنصارى، وفيه ساعة استجابة الدعاء، ولا تقوم الساعة إلا فيه؛ ففيه فضائل كثيرة، وما ذكرته منطوق الذي لا ينطق عن الهوى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فليُبحث عن أدلته في مصادره.
والناس إزاء هذا اليوم بين إهمال حقوقه وإعمالها؛ فيحصل لدينا فريقان:
الفريق الأول: أهملوا حقوق هذا اليوم بـ:
1- ترك صلاة الجمعة عمدًا أو تهاونًا: ولا عذر لهم في تركها سوى الاستجابة لنزوات النفس والشيطان، ونذكِّر هؤلاء بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من ترك ثلاث جُمَع تهاونًا بها، طبع الله على قلبه"[1]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لينتهين أقوامٌ عن ودعِهم الجمعات، أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين"[2]؛ فأي داء أعظم من أن يطبع الله على قلب العبد، ويختم عليه ويكون من الغافلين، قد خسر الدنيا والاخرة؟
2- التشاغل عنها بعمل أو بيع: والذي يُخرج العبد من دائرة الإهمال أن يستجيب لأمر الله؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة: 9، 10]؛ فلا حرج في العمل يوم الجمعة، لكن إذا اقتربت الصلاة والإعلان بالأذان الأول لها الذي ينفصل عن الأذان الثاني بغية التأهب لها - فإن على العبد الاستعداد لها؛ لأجل التبكير ونيل الفضل والدرجات، وكم من أناس ونحن في طريق ذهابنا للمسجد يكونون منهمكين في أشغالهم ومهنِهِم، كأن الأمر لا يعنيهم، وإذا رجعنا من الصلاة هم كذلك، ففوَّتوا الخير على أنفسهم، والذي يؤسَفُ له أننا سمعنا بشركات يديرها نصارى يسرحون العمال لأجل الصلاة؛ حفاظًا على حقوق المسلمين، وشركات مملوكة لمسلمين أو يديرونها لا يمتعونهم بهذا الحق؛ فبقيت حقوق هؤلاء العمال في الصلاة في أعناقهم يقاضونهم بها يوم القيامة.
3- الإتيان إلى الصلاة في وقت متأخر: فهؤلاء أحسن حالًا من سابقيهم؛ فعلى الأقل استجابوا النداء، وإن فاتهم فضل التبكير، وربما فاتهم الاستماع للخطبة، وربما آذَوا المصلين بتخطي صفوفهم؛ حيث يأتون متأخرين ويطمعون في المقدمة.
4- إهمال حقوق هذا اليوم في الطهارة والذكر: فيوم الجمعة كما أسلفنا فضائله كثيرة، ويوم لا كالأيام؛ فينبغي تخصيصه بمزيد عناية وعدم إهماله؛ ومن ذلك: التزين للصلاة، ووضع الطِّيبِ، ولبس أحسن الثياب، وقراءة سورة الكهف، والإكثار من الصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، غير أنه نجد من يهمل المذكورات، ولا نصيبَ له في اليوم، وكم خسر هذا العبد من الفضائل والصالحات!
الفريق الثاني: أعطوا لهذا اليوم حقوقه بـ:
1- الاغتسال والتطيب والتزين بأحسن اللباس قبل إتيان الصلاة: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبِسَ من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتيَ المسجد فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي - كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى"[3]؛ فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- تكفير الذنوب بالاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب وغيرها، ولا شك أننا مذنبون ومخطئون، وما أحوجنا إلى تكفير ذنوبنا باتباع إرشادات النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-! فنتطهر أولًا الطهارةَ الحسية لأجل الطهارة المعنوية والتطهر من الذنوب، وكلتاهما مقصودتان للشارع الحكيم.
2- التبكير للصلاة: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرَّب بَدَنَةً، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرةً، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضةً، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"[4]، ولا شك أن درجات المبكِّرين متفاضلة بحسب تبكيرهم إلى المسجد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
3- الاستماع والإنصات وعدم إيذاء أحد: للحديث السابق: "... ولم يؤذِ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي..."، وهناك روايات أخرى تنهى عن مس الحصى أو مجرد نصح الآخرين بالسكوت، واعتبار ذلك لغوًا ينقص الثواب، ويمكن أن نقيس عليها اليوم العبثَ بالهاتف النقال أو الملابس أو زرابي المسجد.
4- الانصراف في سكون والحرص على تبليغ المستفاد من الخطبة للغير: من الأقارب والجيران والمسلمين عمومًا، وتداول موضوع الخطبة في النوادي والمقاهي والمدارس حتى يعمَّ النفع؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فبلَّغها، فإنه ربَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"[5]، وهنا يفرض على الخطيب أن تكون خطبته مما لا بد منه، ويلامس واقع الناس مع الإعداد الجيد والتأثير المطلوب؛ حتى يبقى صداها يتردد بين ساكنة الحي إلى الخطبة اللاحقة.
بهذا نستطيع الاستفادة من يوم الجمعة، والاغتنام من فضائله، ومن ثَمَّ نجد ذلك مبثوثًا في صحيفتنا يوم لا ينفعنا مال ولابنون إلا من أتى الله بالعمل الصالح، وهذا من العمل الصالح الذي نرجو أن نُسَرَّ به في ذلك اليوم.
____________
[1] رواه أبو داود برقم: 1052.
[2] رواه مسلم برقم: 865.
[3] رواه أحمد في المسند برقم: 23571.
[4] رواه البخاري برقم: 881.
[5] رواه الترمذي برقم: 2658.
التعليقات