حكم الطهارة للإمام أثناء الخطبة

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين وبعد..

المستحب يوم الجمعة لمن يحضر الجمعة أن يدهن، ويمس طيبًا، ويلبس أحسن ثيابه إن كان عنده ذلك، ويغتسل؛ لأن الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، فيستحب أن يكون المقيم لها على أحسن وصف. وقد ذهب فريق من أهل العلم إلى وجوب غسل الجمعة، ولعل وجوبه كان لعلة فارتفعت؛ لما كانوا فيه من ضيق الحال، وغالب لباسهم الصوف، وهم في أرض حارة الهواء، فكانوا يعرقون عند الاجتماع لصلاة الجمعة، أو كانوا عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم، فيؤذى بعضهم بعضًا بالروائح الكريهة، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغسل لعلة، ثم رخص لهم في ذلك عند زوال العلة، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فأينما وجدت العلة وجب الحكم، فيجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال بحيث يتأذى برائحته من حوله. وأما إذا كان نظيفًا وحديث عهد بنظافة وليس في بدنه شيء من الوسخ ولا من الروائح المستكرهة؛ فإنه يكون آكد في حقه.
وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف على أنه سنة مؤكدة. وذكر ابن عبد البر الإجماع قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب([1]).
والطهارة من الحديثين الأكبر والأصغر مما حث الشرع الحنيف على الإتيان بهما حال القيام بعبادة لا يشترط لها الطهارة من الحدثين، ومما استحب له التطهر خطبة الجمعة. فالطهارة من الحدثين ليست شرط لخطيب الجمعة على الراجح من أقوال أهل العلم ويأثم الخطيب إذا خطب الجمعة جنبًا بدون عذر، فإذا انتقض وضوء الخطيب يوم الجمعة وهو يخطب فلا حرج عليه أن يستمر في الخطبة، فإذا أتم الخطبة فهو مخير بأن ينيب أحدًا عنه ليصلي بالناس، فلا يشترط أن يتولى الصلاة من تولى الخطبة، أو يتوضأ بعد الخطبة ثم يصلي بالناس ولا يضره ذلك ما لم يطل الفصل، قال ابن قدامة-رحمه الله-: "وكذلك يشترط الموالاة بين الخطبة والصلاة، وإن احتاج إلى الطهارة تطهر وبنى على خطبته ما لم يطل الفصل"([2]).
 وقد اختلف الفقهاء في اشتراط طهارة الخطيب حال الخطبة من الحدث الأكبر وذلك على قولين:
القول الأول: لا تشترط الطهارة من الحدث الأكبر للخطيب حال الخطبة، واستحبابه أمر متفق عليه.
وبهذا قال الإمام أبو حنيفة وأكثر أصحابه([3])، وهو الظاهر من قول المالكية، حيث أطلقوا القول بصحة الخطبة مع الحدث([4])، وهو قول للشافعية ([5])، ورجحه النووي، وقال به أبو المعالي الجويني([6])، وهو رواية عن الإمام أحمد، والمذهب عند أصحابه([7]). قال ابن قدامة: "قال أحمد في من خطب وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم". "يجزيه" وهذا إنما يكون إذا خطب في غير المسجد أو خطب في المسجد غير عالم بحال نفسه ثم علم بعد ذلك"([8]). وعدم اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر هو ما ذهب إليه الجدّ ابن تيمية، وابن حزم ([9])، وإليه ذهب ابن باز.
استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
 
أن الخطبة من باب الذكر والوعظ والجنب لا يمنع من ذكر الله –تعالى- والاعتبار بالصلاة غير سديد([10]).
القول الثاني: أن الطهارة من الحدث الأكبر شرط للخطيب في خطبة الجمعة، وبهذا قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة([11])، وهو القول الجديد للإمام الشافعي، بل ذكر بعضهم أن خطبة الجنب لا تصح قولا واحدا([12])، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه([13])، قال ابن قدامة: "والأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة من الجنابة فإن أصحابنا قالوا: يشترط قراءة آية فصاعدا وليس ذلك للجنب"([14]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب متطهرًا. قال النووي-رحمه الله-: "دليلنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب متطهرًا وقال صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي"([15])، ([16]).
وبالنظر في هذا الدليل يتضح لنا:
أولًا: أن الخطبة وإن كانت شرطًا للصلاة وأمرًا مرتبطًا بها إلا أنها ليست بصلاة يشترط لها ما يشترط للصلاة.
ثانيًا: أن هذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل على الاستحباب.
قالوا: أن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة كما جاء في بعض الآثار([17])، أو بأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين؛ فيشترط فيهما الطهارة([18])، ولهذا لا تجوز في غير وقت الصلاة، فيشترط لها الطهارة كما تشترط للصلاة([19]).
وبالنظر في هذا الدليل يتضح أن:
أولًا: أن الآثار الواردة في أن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة لم يثبت في ذلك حديث صريح يصح.
ثانيًا: أن اعتبارها بالصلاة غير سديد، فهي تؤدى حال استدبار القبلة، فاستقبال القبلة ليس مشروطًا فيهما([20])، ولا يفسدها الكلام بخلاف الصلاة([21]).
ومن الأدلة أيضًا:
أن قراءة القرآن في الخطبة واجبة، ولا تحسب قراءة الجنب، فلا تصح خطبته([22]).
وبالنظر في هذا الدليل يتضح:
أن وجوب قراءة القرآن في الخطبة محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من أوجبه في الخطبتين ومنهم من أوجبه في الخطبة الأولى ومنهم من يرى أنها سنة([23]).
 
وهذا إذا كان الخطيب خارج المسجد، فإن كان داخله فإنه يحرم عليه اللبث فيه للخطبة، إلا إذا كان غير عالم بحال نفسه ثم علم بعد ذلك، أو كان متوضأ، فإن فعل صحت الخطبة مع الإثم، لأن الخلل حصل بأمر خارج عن الخطبة([24]).
كما اختلف الفقهاء في اشتراط طهارة الخطيب حال الخطبة من الحدث الأصغر، وذلك على قولين:
القول الأول: لا تشترط الطهارة من الحدث الأصغر للخطيب حال الخطبة، بل تستحب.
وهو مذهب الجمهور وبهذا قال الإمام أبو حنيفة وأكثر أصحابه([25])، والمالكية([26])، وهو القول القديم للإمام الشافعي([27])، ورواية عن الإمام أحمد، وهي المذهب عند أصحابه، وعليها أكثرهم([28]).
واستدل أصحاب هذا القول على الاستحباب بأدلة منها.
أولًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عقيب الخطبة، لا يفصل بينهما بطهارة، فدل على أنه كان متطهرًا، والاقتداء به إن لم يكن واجبًا فهو سنة([29]).
ثانيًا: أنه لو افتقر إلى الطهارة لافتقر إلى استقبال القبلة كالصلاة([30]).
ثالثًا: أنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم تكن الطهارة فيه شرطًا كالأذان([31])، والمحدث لا يمنع من ذكر الله –تعالى- لكن يستحب في حقه الطهارة.
رابعًا: أنه إذا استحبت الطهارة للأذان، فاستحبابها للخطبة أولى([32]).
خامسًا: لأنه لو لم يكن متطهرًا احتاج إلى الطهارة بين الصلاة والخطبة، فيفصل بينهما، وربما طول على الحاضرين فشق عليهم([33]).
القول الثاني: تشترط الطهارة من الحدث الأصغر للخطيب حال الخطبة.
وبهذا قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة([34])، والإمام الشافعي في الجديد، وهو الصحيح عند أصحابه([35])، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه([36]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفصل بين الخطبة والصلاة بطهارة، فدل على أنه كان متطهرا([37]).
وبالنظر في هذا الدليل يتضح أنه مجرد فعل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب فضلا أن تكون شرطًا لصحة الخطبة، بل على الاستحباب.
قالوا: أن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة، كما جاء في بعض الآثار، ولهذا لا تجوز غير وقت الصلاة، فيشترط لها الطهارة كما تشترط للصلاة([38]).
وقد ذكرنا أن الآثار الواردة في أن الخطبة بمنزلة شطر الصلاة لم يثبت في ذلك حديث صريح يصح.
قالوا: أن الخطبة ذكر شرط في الجمعة، فشرط فيه الطهارة، كتكبيرة الإحرام([39]).
وبالنظر في هذا الدليل يتضح:
أنه قياس مع الفارق؛ لأن الإحرام جزء من الصلاة، فيشترط لها ما يشترط لسائر الصلاة، بخلاف الخطبة فليست كذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------
([1]) التمهيد (10/79).
(([2] المغني (2/156).
([3]) انظر: المبسوط (1/ 346)، وبدائع الصنائع (1/263).
([4]) انظر: الكافي (1/251).
([5]) انظر: روضة الطالبين (1/532).
([6]) نهاية المطلب في دراية المذهب (2/544).
([7]) انظر: المغني (2/154)، والفروع (2/90).
([8]) المغني (2/151).
([9]) المحلى (5/66).
(([10] انظر: بدائع الصنائع (1/263)، ونهاية المطلب في دراية المذهب (2/544).
([11]) انظر: بدائع الصنائع (1/263).
(([12] انظر: روضة الطالبين (1/ 533)، والمجموع (4/515).
(([13] المغني (2/151).
( ([14]المغني (2/151).
( ([15]المجموع (4/515-516)، ولعل الإمام النووي-رحمه الله- أخذ ذلك من استقراء حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يثبت عنه أنه فصل بين الخطبة والصلاة بطهارة.
(([16] جزء من حديث رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث (9/107) رقم: (7246).
([17]) روى أبو داود عن أنس بن مالك - رجل من بنى عبد الله بن كعب إخوة بنى قشير - قال أغارت علينا خيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتهيت - أو قال فانطلقت - إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يأكل فقال "اجلس فأصب من طعامنا هذا". فقلت: إني صائم. قال "اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام إن الله تعالى وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى". والله لقد قالهما جميعًا أو أحدهما قال فتلهفت نفسى أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال الألباني: حسن صحيح (1/291) رقم: (2410).
(([18] انظر: بدائع الصنائع (1/263)، نهاية المطلب في دراية المذهب (2/544).
(([19] انظر: بدائع الصنائع (1/263).
(([20] انظر: نهاية المطلب في دراية المذهب (2/544).
(([21] انظر: بدائع الصنائع (1/263).
([22]) انظر: المجموع (4/515).
(([23] انظر: المغني (2/151).
(([24] انظر: كشاف القناع (2/34)، والمغني (2/151).
(([25] انظر: بدائع الصنائع (1/263)، والفتاوى الهندية (1/146).
([26]) انظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 332).
([27]) انظر: روضة الطالبين (1/532).
([28]) انظر: شرح منتهى الإرادات (1/316)، المغني (2/151).
(([29] المغني (2/151).
(([30] المجموع (4/515).
(([31] المغني (2/151).
(([32] المغني (2/151).
( ([33]المغني (2/151).
(([34] انظر: بدائع الصنائع (1/263).
(([35] المجموع (4/515).
(([36] المغني (2/151).
(([37] المبدع (2/159).
(([38] بدائع الصنائع (1/263).
([39]) المبدع (2/159).
 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.