جملة من آداب الخطيب
ينبغي أن يكون صحيح العقيدة، من أهل السنَّة والجماعة، لا مشبِّهًا ولا معطِّلاً، ويكون مقدِّمًا المنقول على المعقول، فإن قصر معقوله عن منقوله؛ عُلّم أن ذلك من تقصيره، لا أن المنقول يكون على خلاف معقوله.
وينبغي أن يكون ذا سيرةٍ سديدة، وطريقةٍ حميدة، غير متهافتٍ على الدنيا ومراتبها، صابرًا على آفاتها ونوائبها، مراقبًا لله - سبحانه - في سرِّه وجهره، راضيًا عنه في عسره ويسره، مغتنمًا نشاطه، مهتمًّا بتقصيره وجبره، محافظًا على العمل بما أمر به في نفسه وخاصَّته، محبًّا لأهل الله تعالى، مبغِضًا لأهل مخالفته، حذرًا من زخارف الدنيا وزينتها، غير مُلْتَهٍ بعبيدها وشهوتها، كارهًا لرفعتها وشهرتها، قائمًا بفرائض الله وحدوده، قاصدًا على محاذره ومحدوده، مقبلاً على الله، معرضًا عمَّا سواه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا قعدة قاعد، ولا قومة قائم.
فصل في آدابه الظاهرة:
ينبغي أن يكون ذا سكينةٍ ووقار، ومسكنةٍ وإخباتٍ واعتبار، ودعاءٍ وتوجُّهٍ واستبصار، واعترافٍ وإنابةٍ واستغفار، معظِّمًا لحرمات الله وشعائره، محقرًا لمحذوراته ومخالفة شرائعه، إن قام قام لله، وإن قعد قعد له، وإن تحرك تحرك له، وإن سَكَن سَكَن له.
أمْرُه تَبَعٌ لأمر ربه، وهواه تَبَعٌ لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عاذرٌ من عذر الله، ولا يقنِّط المذنب من رحمة الله، ولا يؤمِّن الطائع من مكر الله، محبٌّ لرُخَص الله، غير مفرِّطٍ في شيءٍ من عزائم الله، محبِّبٌ خلقَ الله إلى الله، ومحبَّبٌ إليهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير أئمتكم الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، شرُّ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإمام وفد ما بينكم وبين ربكم؛ فقدِّموا خياركم وأخِّروا شراركم)).
فصل في آدابه الحُكْمِيَّة الشرعيَّة الخاصَّة به فقط:
ينبغي أن يكون عالمًا بأحكام الخُطْبَة والصلاة، وشرائطهما ومصحِّحاتهما، ومبطلاتهما وجوابرهما، وكيفيَّاتهما وتكملاتِهما، ولا يشترط أن يكون عالمًا مجتهدًا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا أن يكون مُفْتيًا في جميع الأحكام، ولا حبرًا لجميع الأنام؛ فإن ذلك من صفات الكمال، لا من صفات الصِّحَّة والإبطال، لكن يجب على أولياء أمور المسلمين ألاَّ يقدِّموا عليهم إلاَّ مَنْ يختارونه ويرتضونه؛ لأن المصلحة فيها راجعةٌ إليهم في دينهم ودنياهم.
وينبغي لولاة الأمر ألاَّ يجبروهم على الصلاة خلف مَنْ يكرهونه، ولا على سماع خطبته والاقتداء به، خصوصًا إذا كان ظاهر الفسق، لاهيًا باللهو والطرب واللعب والمجون، والعشق غير المصون، الحامل على شغل القلب والجوارح عن الطاعات، حتى يصير جنونُهُ مجنونًا.
روينا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ ليلة أسريَ بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقاريضَ من نار! قلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباءُ من أمَّتكَ، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم))!!
ومن كان هذا وصفه؛ كيف يجوز أن يُجعل وُصْلَةً بين الخَلْق وبين الله؟! وكيف يجوز لولاة الأمر الجرأة على الله، وهم لا يرتضون أن يجعلوا بينهم وبين رعاياهم إلاَّ الأمناء على دولتهم ومملكتهم؟! فكيف يكون الأدنى للمؤمنين وخالقهم، والأعلى لنفوسهم ومصلحتهم؟!!
ونظرُ الشَّرع في جميع الأمور ردُّ الدنيا إلى الدِّين، لا ردُّ الدِّين إلى الدنيا؛ ولهذا قال الصحابة - رضي الله عنهم -: "مَنِ ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا يعني: الصلاة أَحْرَى أن نرتضيَه لدنيانا"؛ يعني: الخلافة المتعلِّقة بأحكام الدنيا الشرعية.
والكتاب العزيز ناطقٌ بالاعتبار والاستبصار في ردِّ الدنيا وأحكامها إلى الآخرة ودوامها، فعكسوا الأمور، ووقعوا في المحذور، وإذا فسد أمر الصلاة فسد الدِّين كله، ولهذا كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصَّى به وحث عليه: الصلاة، والحيوان من البهائم والأرقَّاء ونحوهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهَ الله، الصلاةَ وما مَلَكَتْ أيْمانُكُم)).
وحذَّر من الأئمَّة المضلِّين، وحثَّ على الوصية والاتِّباع للأئمة الرَّاشدين، وجعلهم محبِّين محبوبين؛ فكيف يقدِّم المبغِضون للمؤمنين، المبغوضون، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا، وهم مرذولون بين الأنام وفي كل مكانٍ صُقْعًا صُقْعًا؟!
وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ ولَّى رجلاً من عِصابةٍ، وفي تلك العِصابة مَنْ هو أرضى لله منه؛ فقد خان الله ورسوله، وخان المؤمنين)).
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من أميرٍ يسترعيه الله رعيةً، ثم لا يجهد لهم وينصح لهم؛ إلا لم يدخل معهم الجنة)).
وكيف يُقدَّم في أمور الدين بالجاه والدولة، ويُقطع على الخَلْق السعيُ والحيلة؟! وإذا انقطع أمرهم من الأسباب؛ كيف ينقطع من ربِّ الأرباب؟! وإذا لم يَشْكِ ولاةَ الأمور رعاياهُم؛ شكوهم إلى الله وجأروا إليه، وهو سبحانه مجيبٌ دعاء المضطرِّين، رادٌّ لهفةَ الملهوفين.
التعليقات