كيفية صناعة الدروس
قد يكون من السهولةِ واليُسر إلقاء الدرسِ والموعظة، فهي تحتاجُ إلى قدرٍ من الجرأة ومواجهة النَّاسِ، وممارسة ذلك حتى يتم التعود عليه، لكن من المهم تعلم فنِّ تأليفِ الدرس وصناعته، والتنسيق بين الفقراتِ ليكون درسًا مؤثرًا نافعًا يؤتي ثمارَه اليانعة، وهو ما سنحاولُ إيضاحه في هذه الفقراتِ التالية، وبالله التوفيق:
تعريف الدرس: عن الخطبةِ والمحاضرة من ناحيةِ الحضور ومن ناحية الأسلوب، فلا يُشترط في الدَّرسِ رفع الصوت، وكذا لا يشترط لها براعة استهلال[1]، بل يكفي لها: "الحمدُ له والصَّلاة على الرَّسولِ الكريم"، والدخول في صلبِ الموضوع.
فائدة الدرس: بلا شك فإنَّ الدرسَ له فوائد جمة في حياةِ المستمعين إنْ أحسن الدَّاعي أو الواعظ إعداده إعدادًا جيدًا، وتم إلقاؤه بأسلوبٍ متأنٍّ، وكان تام الوضوحِ والبيان؛ فمن فوائد الدرس:
1/ربط حياة الحاضرين بالمسجد، والعيش في أجوائه؛ حيث نزول السَّكينة، وغشيان الرَّحمة على الجالسِين؛ كما جاء في الحديث[2].
2/فرصةٌ للداعي أن يوطِّدَ علاقتَه مع الجميعِ دون استثناء، والتعرف على أحوالِهم ودعوتهم للهُدى، والالتزام بمعاني الدِّين الحنيف، خاصةً في بلادٍ يخفت فيها نورُ الإسلام.
3/يمكِّن الدرسُ الداعيةَ في أن يتدرَّجَ مع من يدعوهم ويعلمهم أحكام الدِّين وآدابِ الشريعة، حتى يرتقي بهم إلى التقوى والاستقامة على الطَّاعة، فيكونوا أداةَ خير في صلاحِ المجتمع.
هذا وغيره يجعلُ الداعي حريصًا على إتقانِ الدَّرس، والعكوف على إعدادِه كما يتمُّ إعداد بحث، أو أطروحة (ماجستير)، أو دكتوراه لأجلِ مناقشتها أمام أستاذته، ومن الوسائلِ الناقعة في إعدادِ الدرس وتأليف المواعظ ما يلي:
أولاً: التركيز على وحدةِ الموضوع وربطِه بالواقع؛ لأنَّ ذلك يجمع شتاتَ الذِّهن، ويبعدُه عن التشويش، ويخرجُ المدعو من الدرسِ وقد وضح - على أقل تقدير - الموضوعُ في ذهنِه، وثبت في بالِه.
ثانيًا: الاختيار الأمثل مما يهمُّ واقعَ المستمعين، فلا يختارُ لهم دروسًا من نسجِ الخيال، أو يضمن الدرسَ مصطلحاتِ أهل الفلسفة والتصوف، مما يجعلُه في وادٍ ومَن يحدثهم في وادٍ آخر، والمقصود هو اختيار الدرسِ المناسب مع الترتيب، بأن يقدِّمَ الدليلَ من قرآنٍ وسنة، ثم الترغيب والترهيب، ثم الفوائد والمسائل.
هذا بشكلٍ عام.
أمَّا من ناحيةٍ تفصيلية:
1/الإعداد الجيد للدرسِ، ويتم ذلك بأمورٍ منها:
• حفظ مادتِه وما يتضمنه من آياتٍ قرآنية وأحاديث نبوية، وفوائدَ مستنبطة من الدرس، وإن تطلب ذلك كتابة الدرسِ فهو الأفضل، حتى يكون له ملكة على حفظِ الدروس تلقائيًّا.
• كتابة المحاور الرئيسة، والخطوطِ العامَّة في ورقةٍ صغيرة إن خشي النسيان أو الخجل، والنظر إليها عند الحاجة.
• من الأفضل أن يكون الدرسُ مما له علاقةٌ بمن يدعوهم، أو حالة اجتماعية سيئة منتشرة فيهم، وذلك من خلالِ التفرس في وجوهِ الحاضرين، فهو أدعى إلى الاستيعاب والتأثير.
كيفية الإعداد:
عادة ما يستعملُ بعضُ الوعَّاظِ دروسًا جاهزة عن طريقِ كتاب، أو الإنترنت، ولكنَّني أنصحُ بأن يعتادَ الدَّاعيةُ الصادق على أن يؤلِّفَ الدرس، ويتعبَ في تحضيرِه، فسيجد لذلك ثمرتَه وآثاره في نفسِه، وفيمن يدعوهم وذلك يتطلَّبُ ما يلي:
• الاعتماد على الأحاديثِ الصحيحة وغيرها؛ مثل كتاب "رياض الصَّالحين من أحاديث سيد المرسلين"، فهو مادةٌ خصبة لدروسِ الواعظ، وكذا شرحه للعلامةِ ابن عثيمين للاستفادةِ من الفوائد والفرائد التي يذكرُها الشيخ - رحمه الله - عقب كلِّ حديث.
• أفضل ما يُحلَّى به الدرسُ تفسيرُ آياتٍ من كتاب الله، ثم بيان أسباب النزول بشكلٍ مختصر، ومن الكتبِ النافعة كتاب: "تفسير ابن كثير" - رحمه الله - فإن أرادَ الحديثَ عن التوبةِ وفضائلها، وما تكفِّرُه من ذنوبٍ وخطايا اختار قولَه - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر : 53]، وقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ... ﴾ [النساء : 48]، وبين أنَّها مقيدة لما أُطلق في الآيةِ الأولى.
ومن الأفضلِ اختيارُ جملةِ آيات تتعلَّقُ بالموضوعِ ليتضحَ المضمون، ولا بأس من التعريجِ على بعضِ الفوائد التفسيرية أثناء تفسير الآيات؛ مثل النداء الموجه إلى النَّاسِ بصفةِ العبودية، ومعنى الإسراف في الذُّنوبِ في الآيةِ المذكورة ونحوه.
• اختيار ثلاثة أحاديث أو أكثر من كتابِ "رياض الصالحين" تتحدثُ عن التوبةِ والمغفرة، وتجمعُ بين الترغيبِ والترهيب، والوعد والوعيد، مع الإشارةِ السريعة إلى ما تتضمنه من فوائد ومسائل؛ ومثال ذلك:
الحديث الأول: ما رواه مسلم في الصحيحِ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لله أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضٍ فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامُه وشرابه، فَأَيِس منها، فأتى شجرةً فاضطجَعَ في ظلِّها قد أَيِسَ من راحلتِه، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذَ خطامَها ثم قال من شدَّةِ الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّةِ الفرح)).
الحديث الثاني: عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((واللَّه، إني لأستغفرُ اللَّهَ وأتوب إليه في اليوم أكثر مِنْ سبعين مرَّة))؛ رواهُ البخاري.
الحديث الثالث: عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ اللَّه تعالى يبسطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مسيء النَّهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشَّمسُ مِنْ مغربها))؛ رواه مسلم.
الحديث الرابع: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا...))؛ متفق عليه.
المستفاد من الدرس:
تعتبر تلك الفقرة من أهمِّ ما يجبُ في الدرس؛ لأنه بها يتضحُ المطلوب من المستمعِ والواجب فعله، وهي مجموع ما جاء في الدرسِ من عبرٍ وعظات وآداب، ويحبذ ذكرُ ذلك على شكلِ مسائل ونقاط، فتقول مثلاً: وهذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ألقيناها على مسامعِكم الكريمة، الدالة على فضلِ التوبة والمسارعة إليها، وما تكفرُه من خطايا وذنوب - دلَّتْ على فوائد ومسائل نستفيدُ منها في حياتِنا اليومية، ونجملُها فيما يلي:
أولاً: أنَّ التوبةَ واجبةٌ من جميعِ الذنوب والمعاصي، ومعناها الرجوع عن الأفعالِ المذمومة إلى الممدوحة، والتوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والعزيمة على عدم العودِ إلى الذنبِ مرةً أخرى، وإذا كان الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن غُفر له ذنوبه يتوبُ في اليومِ مائة مرة فكيف لا نتوبُ نحن وذنوبنا كثيرة وأخطاؤنا عديدة؟!
ثانيًا: دلت الأحاديث على محبةِ الله للتوبةِ، وفرحه بها أشدُّ فرحًا ممن فقد مادةَ حياتِه من الطَّعامِ والشَّراب ثم وجده بعد اليأس، وعلى العبدِ ألاَّ يقنط من الرَّحمة، وييئس من المغفرة.
ثالثًا: على المسلمِ أن يلتفتَ إلى عيوبِه وأخطائه فيتداركها، وإلى نفسِه فيزكيها بالطَّاعات، وأن يأسفَ على ما قصَّر في حياتِه، فيكثر من الطَّاعاتِ والحسنات قبل أن يُحالَ بينه وبين التوبةِ، إمَّا بالموت، أو طلوع العَلاماتِ الكبرى؛ مثل طلوع الشمس من المغرب ونحوها.
رابعًا: أعظمُ ما يعين المسلمَ على التوبةِ ترك قرناء السوء، وهجر أصحابِ المعصية، وأن يتبرأ من صاحبها، فإن كانت مالاً ردَّه، أو حدًّا مكنه منه، أو غيبة استحلَّه منها، وليتأمل الذي قتل مائة نفس، فإنه هجرَ قريةَ السُّوء، وانطلق يحدوه الأمل إلى القريةِ الصَّالحة حتى قبلَ الله توبتَه.
ومن المناسبِ أن يختمَ درسَه بدعاءٍِ قصير، يسأل اللهَ فيه قبول التوبةِ والعفو، ثم يحمد الله على أن وفَّقَه وهداه إلى الخير، ويصلِّي على محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين.
وكذا لو أراد الداعية المسلم عملَ درسٍ في مسألةٍ فقهية يتبعُ نفسَ النهج والأسلوب، فيتناول مسألةً فقهية كالوضوءِ وفرائضه والصلاة وشروطِها بشيءٍ من الإسهابِ والتفصيل، وبما يناسب الحالَ والمقال، شريطةَ ألاَّ يدخل في خلافِ الفقهاء، ويُستحسَنُ في نهايةِ الدرس أن يبينَ الحكمَ الفقهي الرَّاجح، إن كان من أهل القدرةِ والكفاءة، وبعدها يبينُ فوائد الأحاديث المتعلِّقةِ بالموضوع، ليخرجَ المستمعُ وقد استفاد من الدَّرس.
ملاحظة:
هذه بعضُ الأمورِ الهامة التي يجبُ على المدرِّسِ أن يراعيها في درسِه ومواعظه، ليكون ناجحًا في إلقائه وأسلوبه، أشرنا إليها في بحوثٍ سابقة ليتمَّ الكلام والفائدة:
1/ألا يسرع في حديثِه، بل يتأنَّى ويتمهل، وألا يرفع صوتَه؛ لأنَّ موضعَ ذلك الخطبة لا الدرس، وقد كان من هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - "أنَّه إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا حتى تُفهم"[3]، وهذا الأسلوب النبوي له فوائد؛ حيث يعطي فرصةً للدَّاعي في أن يتذكَّرَ بقيةَ الحديث، أو تظهر له فائدة، وفيه فائدة للسَّامعِ ليستوعبَ ما يُلقى إليه.
2/أن يستعملَ من الشَّواهدِ ما يحتاجُ إليه بالقدرِ المطلوب، ولا يكثر حتى لا يحتاج إلى التَّكرار في مواعظِه اللاحقة.
3/الوضوحُ وتمام البيان هو الغايةُ من الدروسِ ليتمكَّنَ السَّامعُ من العملِ والتطبيق، ولذلك يحذر الدَّاعيةُ من الأحاديث المتشابهة دون تسليطِ الضَّوء عليها، وبيان ما يفسرها من أحاديث أخرى؛ ومثاله حديث: ((من قال: لا إله إلا الله دخل الجنَّة))[4]، فيظن السَّامعُ أنَّ قولها كافٍ، والحقيقة أنَّ كلمة التوحيد لها شروطٌ جاء تفسيرها في أحاديث عدة.
4/يفضل ألاَّ يتجاوز الدرسُ في المقدارِ الزمني 10 دقائق؛ لأنَّ إطالةَ الدرس يورثُ المللَ والسآمة، إلا إذا أضفى عليه ما يشوِّق، ورأى في الحاضرين رغبةً إلى ذلك، المهم أن تكونَ الدروسُ هادفةً غير طويلة مملة ولا قصيرة مخلة، إذا سمعها الجالسُ جنى منها الفائدة بسهولة.
5/الارتجاليةُ في إلقاء الدرس وجاهزيةُ المادة وقعُه على النَّفسِ كبيرٌ، وليتمكَّن من مراقبةِ أحوال المستمعين، ولا يشغله عمايحدثهم شاغل.
6/المبادرة إلى التطبيقِ والعمل أفضل وسيلة للتأثيرِ وحمل المدعوين إلى العمل، وهذه آفةُ دعاتِنا اليوم - إلاَّ من عصم الله - فترى بعضَهم يحذِّرُ من الغيبةِ والنميمة وهو على رأسِ من يقعدُ في مجالسِ اللغو، وينهاهم عن البخلِ وجمع المال واكتنازه وهو يخاصِمُ ويعادي على الدرهمِ والدِّينار، وفي تلك الحالة لن تجدَ له آذانًا صاغية، بل يكون سببًا للنفورِ والبعد عن الدِّين، والله المستعان.
7/التلطف والرأفة بمن يدعوهم، وألاَّ تكون عنده روحُ الاستعلاء، والتفضل على من يدعوهم، وكأنَّه مسلَّطٌ عليهم، أمَّا هو فمبرأ من العيوب، ومن شأنِ ذلك أن يجعلَه في معزلٍ عن محيطِه، وربما سبَّب فعله هذا هجر المساجد بسبب أفعالِه وتصرفاته السيئة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على خاتم أنبيائه ورسله؛ محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
....................................
[1]- لو اختار براعة استهلال قصيرة غير طويلة تناسبُ المقام، وتشير إلى الموضوعِ فلا بأس به؛ مثاله في التوبة وفضائلها: "الحمد لله الذي فتح بابَ التوبة لجميعِ العباد، والصلاة والسلام على خيرِ البرية والعباد، الهادي إلى البر والرحمة والرَّشاد، وعلى آله وصحبِه إلى يوم التناد، وبعد.
[2]- رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رقم الحديث: (2699).
[3]- رواه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - رقم الحديث: (95).
[4]- جاء تفسير ذلك في حديثِ عبادة بن الصامت؛ حيث قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في نهايةِ الحديث: ((أدخله الله الجنَّةَ على ما كان من العمل))، وفي حديثِ عتبان في البخاري ومسلم: ((فإنَّ الله حرَّمَ على النَّار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجهَ الله))، وهو طرفٌ من حديثٍ طويل أخرجه الشيخان، يقول القاضي عياض كما في فتحِ المجيد ص (56): "ما ورد في حديثِ عبادة يكون مخصوصًا لِمَن قال ما ذكره - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثِه، فيكون له ما يرجحُ على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرَّحمة ودخول الجنة لأول وهلة" انتهى، وكذلك مما يدلُّ على ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله)) في حديثِ عبادة، معناه "من تكلَّم عارفًا بها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، فلا بدَّ من العلم واليقين والعمل بمدلولها"، ذكر ذلك صاحب كتاب "فتح المجيد" ص (46)، طبع دار القلم بتعليق سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله.
التعليقات