خطيب الجمعة وتنويع الموضوعات
خطبة الجمعة طريق للهداية والإصلاح:
لا يخفى علينا ما لخطبة الجمعة من الأثر الكبير والفعال في حياة المسلمين؛ لأنها طريق عظيم من طرق الدعوة والهداية والإصلاح للفرد والمجتمع والأمة على حد سواء، فيوم الجمعة من أعظم الأيام وأكرمها عند الله تعالى، ولقد بيَّن القرآن الكريم، والسنة النبوية، ما لهذا اليوم من الشرف والحفاوة والمنزلة العالية في دين الإسلام، حتى إن الله تعالى سمَّى في القرآن سورة باسمه، سورة الجمعة، تتلى في الصلوات والخلوات والختمات إلى يوم الدين، وأمر فيها عباده بالمسارعة والاستجابة لنداء الحق في يوم الجمعة، وتعظيمه وإجلاله، والإعراض عما سواه من زخرف الحياة الدنيا من البيع والشراء وغيره؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 9 – 11].
فإذا كان هذا شرفَ يوم الجمعة وما اشتمل عليه من الصلاة والذكر وخطبة الجمعة، فإننا ندرك من هذا عظيمَ خطبة ذلك اليوم، وعظيم التوجيه للناس فيه والنصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة المؤثرة البالغة؛ ولهذا فإن على خطيب المنبر والجمعة أن يعلم خطر الخطبة والموعظة فيها، وأن يدرك تلك الأمانة الكبيرة التي حُمِّلها في نصح المسلمين وتعليمهم، وأن أي تقصير يقع منه - شعَر أم لم يشعُرْ به - فإنه يضعِف أثر دعوته وخطبته في قلوب الناس وسلوكهم، وهذا ما نلمِسه ونراه في واقعنا المعاصر.
حتى إنك تجد أن كثيرًا من المنابر قد اعتلاها مَن ليس من أهلها، وتكلم عليها مَن لا يُحسِن الكلام ولا التوجيه ولا الإرشاد! بل إن من هؤلاء الخطباء من لا يحفظ القرآن، ولا شيئًا منه، اللهم إلا ما يؤم به الناس في صلاته! بل ومنهم من خرج برسالة الجمعة وخطبتها وموعظتها عن ضوابط الشريعة أحيانًا، حتى جعل منها بابًا للكلام في نصرة مذهبه وحزبه وتفرقة جمع المسلمين! ومنهم من جعل المنبر بابًا للكَسْب والرزق فحسب! ومنهم مَن جعله ترويجًا لبطانة السوء والسياسات الظالمة الجائرة! وغير ذلك من المدلهمَّات والبلايا التي عم ضررها وخطرها على كثير من مساجد المسلمين ومنابرهم؛ ولهذا فإن من الطبيعي جدًّا أن يخرج كثير من المسلمين والجماهير الغفيرة من خطبة يوم الجمعة بلا ثمرة طيبة نافعة؛ فلا استفادوا علمًا ولا موعظة ولا تذكرة ولا بِشارة ولا نِذارة! فيخرج المستمع للخطيب وما حصَّل شيئًا يذكر يهذِّب رُوحه وأخلاقه! أو يزيد في رصيده من الإيمان والعلم والتقوى! وهذا الأثر السيئ في نفوس المسلمين إنما أكثره أو هو بالأساس من ضعف خطيب الجمعة وعدم تمكُّنه من علمه وأداء رسالته التي كلف بها كما ينبغي، وعدم معايشته لواقع الناس وآلامهم وآمالهم، وما هم في حاجة إلى تعلمه ومعرفته من أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، فكلما كان الخطيب أو الداعية غير مؤصل أو راسخ فيما يقول ويعلم، كان الأثر ضعيفًا، والثمرة بعيدة غير مرجوة ولا نافعة.
ولقد ذكَر الإمام ابن القيم رحمه الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُطَبه عامة، وفي خطبة الجمعة خاصة، ما ملخصه: أن هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أنه كان يخطب يوم الجمعة على المنبر بعد اتخاذه، فإذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس وقال: ((السلام عليكم))، وكان إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذِر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وكان كثيرًا ما يخطب بالقرآن، وكان مدار خطبه على حمد الله، والثناء عليه بآلائه ونعمه، وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله تعالى، وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه، مع حرصه صلى الله عليه وسلم في الغالب على الإيجاز، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن طولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خطبته مئنَّةٌ مِن فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، وأقصِروا الخطبة))؛ رواه مسلم.
وكان إذا نهى عن شيء ارتُكِب من بعض الأشخاص، لا يعين أحدًا باسمه، وإنما كان يقول: ((ما بال رجال يقولون كذا وكذا))، وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطَبين ومصلحتهم، وكان يقصُرُ خطبته أحيانًا بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطولَ مِن خطبته الراتبة، وكان يخطب للنساء على حِدَةٍ في الأعياد أحيانًا، ويحرِّضهن على الصدقة والإكثار من الاستغفار.
وقال أيضًا في خصائص يوم الجمعة: "الثانية والعشرون: أن فيه الخطبة التي يُقصَد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جِنانه، ونهيهم عما يقربهم من سخَطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها..التاسعة والعشرون: أنه اليوم الذي ادَّخَره الله لهذه الأمة، وأضلَّ عنه أهل الكتاب قبلهم؛ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما طلَعت الشمس ولا غرَبت على يوم خيرٍ من يوم الجمعة، هدانا الله له، وضل الناس عنه؛ فالناس لنا فيه تبَعٌ؛ هو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد))، وفي حديث آخر: ((ذَخَرَه الله لنا)).
حاجة الخطيب إلى الإعداد والتوجيه والثقافة:
ومن هنا فإن الخُطبة لا تؤتي ثمارها المرجوة التي يكون بها الهداية والتوجيه والإصلاح في المجتمع المسلم إلا إذا كان الخطيب نفسُه على قدر كبير من الفهم والعلم، والإخلاص والبصيرة، ولا يمكنه أن يؤثر في قلوب الناس أو سلوكهم لمجرد الوعظ أو الكلام، لكن عليه أن يكون هو أولًا قدوةً صالحة طيبة في نفسه، ثم يكون على قدر من العلم والثقافة والفهم الشمولي الصحيح لمنهج الإسلام؛ عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وإلا فلن يكون لكلماته ومواعظه أي أثر أو فائدة كما ذكرنا، ويمكن على سبيل الإشارة والمثال أن نذكر بعض الأمور والعوامل النافعة للخطيب الناجح؛ حتى تؤتيَ خُطَبُه ومواعظه ثمارها بإذن الله تعالى، ومن تلك العوامل الضرورية للخطيب ما يلي:
1 - التقوى: مِن أهم صفات الخطيب والداعية التقوى، ويقصد بها كل معانيها من فعل المأمورات، وترك المنهيَّات، والتحلي بصفات أهل الإيمان؛ فتقوى الله سبب عظيم لتحصيل كل خير وهداية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، وأولياء الله هم المتقون، فإذا تحقق الخطيب بهذه الصفة العالية من الاستقامة والتقوى، فإن الله تعالى يجعل له بها الأثر الكبير في قلوب الناس وسلوكهم؛ لِما يرون في الخطيب من موافقة أقوالِه أفعالَه.
2 - الإخلاص: وكذلك يتحلى الخطيب والداعية والمسلم عامة بصفة الإخلاص والصدق في جميع أعماله وأحواله، والإخلاص - كما ذكر أهل العلم - هو: تجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، قال الفُضَيل بن عِياض: هو أخلَصُه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلَصُه وأصوبُه؟! فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنَّة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يَغِلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتَهم تحيط مِن ورائهم)).
وقد قيل: مَن سلِم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله تعالى، نجا؛ ولهذا فإن الإخلاص في الخطيب والداعية أشدُّ تأكيدًا؛ كما قال الإمام المجدد شيخُ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه.
3 -التواضُع: وكذلك على الخطيب والداعية أن يتحلى بصفة التواضع، وخَفْضِ الجَناح للمؤمنين؛ لأن مِن طبائع الناس أنهم لا يقبَلون مَن يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم، ولو كان ما يقوله حقًّا وصدقًا، بل إن الاستعلاء سبب ظاهر في كُرْهِ الحق ورفضه، وقد أمر الله في كتابه الكريم بالتواضع للناس، وعدم التكبر عليهم بمال أو بجاه، أو بحسَب أو بنسَب، أو بعِلم أو بصورة، أو بأيِّ شيء كان، فقال سبحانه: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]، وجاء في الحديث عن عِياضِ بن حمارٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضَعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغيَ أحدٌ على أحد))؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))؛ رواه مسلم.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمَّته المثَل الأعلى في الخُلق والتواضع، حتى إنه كان يسلِّم على الصبيان إذا مر عليهم؛ كما جاء عن أنس رضي الله عنه: أنه مر على صبيانٍ فسلَّم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله؛ متفق عليه.
بل ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لا يتأخَّرُ عن قضاء حوائج الناس وضعفائهم، وقد كانت الأمَة من إماء أهل المدينة لَتأخُذُ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت؛ رواه البخاري.
ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم: خدمته في بيته، ومساعدته لزوجاته؛ فعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، يعني: خدمة أهله، فإذا حضَرت الصلاة، خرج إلى الصلاة؛ رواه البخاري.
كما حدثنا عن نفسه وعن تواضعه صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعَث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، قال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكةَ))؛ رواه البخاري.
وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو دُعِيتُ إلى كُراعٍ أو ذِراعٍ، لأجبتُ، ولو أُهدِيَ إليَّ ذراعٌ أو كُراعٌ لقبِلْتُ))؛ رواه البخاري.
ومن هنا، فإن الخطيب إذا شارك الناس فيما فيه الخير والسعادة والسرور لهم، فقد تخلَّق بأعظم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، كما غرس محبة الدِّين والعلماء في قلوبهم، كما ضرب لهم القدوة العملية الواقعية لهم؛ ولهذا فليحذَر الخطيب والداعية المسلم من داء الكبر، وترك التواضع؛ فقد جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة مِن كِبْرٍ))، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: ((إن الله جميل يحب الجمال؛ الكِبْرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس))؛ رواه مسلم.
4 - الحِلْم: كذلك من الصفات المهمة للخطيب والداعية التحلي بالحِلْمِ والرفق والأناة في أقواله وأعماله؛ لأن الشدة والتسرع لا يفيد الخطيب في دعوته وتعليمه للناس، ولا يجعل منه القدوة الصالحة لهم في سلوكهم وأخلاقهم؛ ولهذا مدَح الله عباده المتقين بقوله تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، وقال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43]، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الحِلْمِ أحدَ أصحابه الكرام؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشَجِّ عبدالقيس: ((إن فيك خَصْلتين يحبهما الله: الحِلْم والأناة))؛ رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيقٌ يحب الرِّفقَ في الأمر كله))؛ متفق عليه.
وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويُعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه))؛ رواه مسلم.
ولهذا فإن الحِلْمَ من أجلِّ الصفات، وأعلاها منزلة في أخلاق المسلم، وبه تستقيم الأمور؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زَانَه، ولا يُنزَع مِن شيء إلا شانَه))؛ رواه مسلم.
كما ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التعامل مع المواقف والأخطاء بالحِلْم والرفق؛ كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعُوه وأريقوا على بَوْلِه سَجلًا من ماء، أو ذَنوبًا من ماء؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين، ولم تُبعَثوا مُعسِّرين))؛ رواه البخاري.
بل وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالرفق والتيسير وترك التشديد والتعسير على الناس وعلى أنفسهم من قبل؛ فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا))؛ متفق عليه.
كما عدَّ صلى الله عليه وسلم من لا يتصف بهذه الصفات العظيمة من الحِلْم والرفق والأناة من المحرومين؛ كما روى جرير بن عبدالله رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن يُحرَمِ الرفقَ، يُحرَمِ الخيرَ كله))؛ رواه مسلم.
وكذلك أوصى صلى الله عليه وسلم بترك الغضب والتسرع؛ لأنه ليس من صفات المسلم ولا أخلاقه، ولأنه يتنافى مع الحِلْم والأناة؛ كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((لا تغضَبْ))، فردد مرارا، قال: ((لا تغضَبْ))؛ رواه البخاري.
فالحلم هو ضبط النفس عند الغضب، والنزوع إلى العقل عند ثورة الانفعال، وفيه الحديث: ((ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ؛ إنما الشديد الذي يملِكُ نفسه عند الغضب))؛ متفق عليه.
فعلى الخطيب أن يتحلى بهذا الخُلُق النبيل، وأن يكون قدوة صالحة مع الناس، وفي مجتمعه، ومسجده؛ فإن في هذا الخيرَ كلَّه.
5 - العلم والبصيرة: والعلم مِن ألزم الأمور للخطيب والداعية وأعظمها؛ لأنه المقصود الأعظم مِن البصيرة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [يوسف: 108]، ويكفي في هذا التنبيهُ إلى ترجمة البخاري رحمه الله في صحيحه حين قال: باب العلم قبل القول والعمل، مستدلًّا بقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل العمل؛ لأن العلم مصحِّحٌ لكل نية وعمل، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: (العامل بغير علم كالسائر على غير هدى، وفي مأثور الحكم: مَن تمسَّك بغير أصل زلَّ، ومَن سلك طريقًا بغير دليل ضلَّ).
ويشمل العلمُ الفهمَ الدقيق لما جاء في الكتاب والسنَّة، وسير السلف الصالح، وفهوم أهل العلم والفقه علمًا وعملًا.
وفي أهمية البصيرة والعلم يقول العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله: إن الدعوة إلى الله على غير علم خلافُ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن اتبعه، استمعوا إلى قول الله تعالى آمرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، فقال: ﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]؛ أي إن مَن اتبَعه صلى الله عليه وسلم فإنه لا بد أن يدعو إلى الله على بصيرة، لا على جهل، وتأمَّل أيها الداعية لله قول الله تعالى: ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [يوسف: 108]؛ أي: على بصيرة في ثلاثة أمور:
الأول: على بصيرة فيما يدعو إليه، بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبًا، وهو في شرع الله غير واجب، فيُلزِم عباد الله بما لم يُلزِمْهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرمًا، وهو في دِين الله غيرُ محرَّم، فيحرم على عباد الله ما أحَلَّه الله لهم.
الثاني: على بصيرة في حال الدعوة؛ ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال له: ((إنك ستأتي قومًا أهل كتاب))؛ ليعرف حالهم ويستعدَّ لهم؛ فلا بد أن تعلم حال هذا المدعو، ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله؛ لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال، وكان عليك لقوة جدله، صار في هذا نكبة عظيمة على الحق، وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع))، فهذا يدل على أن المخاصم، وإن كان مبطِلًا، قد يكون ألحن بحجته من آخر، فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم، فلا بد أن تكون عالمًا بحال المدعو.
الثالث: على بصيرة في كيفية الدعوة؛ قال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وبعض الناس قد يجد المنكَر فيهجم عليه، ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق؛ لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيسَ، قد يكون في تلك الساعة ما يطفئ لهيب غَيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غَيرته وغَيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلًا لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى، وإذا كان هذا، أعني تزوُّد الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هو مدلولَ النصوص الشرعية - فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات؛ لأنك كيف تدعو إلى الله - عز وجل - وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، لا تعلم شريعته، كيف يصحُّ أن تكون داعية؟! فإذا لم يكن الإنسان ذا علمٍ فإن الأَوْلى به أن يتعلم أولًا، ثم يدعو ثانيًا، قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلِّغوا عني ولو آية))، فالجواب: لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((بلغوا عني))، إذًا فلا بد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو ما نريده، ولسنا عندما نقول: إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول: إنه لا بد أن يبلغ شوطًا بعيدًا في العلم، ولكننا نقول: لا يدعو إلا بما يعلم فقط، ولا يتكلم بما لا يعلم؛ اهـ.
فالمقصود أن الخطيب والداعية أيضًا إذا ما امتلك رصيدًا نافعًا ومعينًا على رسالته من العلم، فلا ريب أن هذا تثبيت لقدمه، ورسوخ له في خطابه ودعوته، وأذكر أني كنت أتحدَّث يومًا عن فضل قيام الليل وفوائده، حتى وقفت مع حال النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وتعبُّده لربه في الليل، وذكرت حديث عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال ابن عمير: حدِّثينا بأعجبِ شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: ((يا عائشة، ذرِيني أتعبَّد لربي))، قالت: قلت: والله إني لأحبُّ قُربك، وأحب ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلةَ آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكَّرْ ما فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 190]...))؛ رواه ابن حبان، وهو حديث حسن كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله.
فلما انتهينا من الصلاة.. فوجئتُ بأحد المصلين يأتي إليَّ مِن خارج المسجد، وكان رجلًا حسن الصورة والهيئة، فسلَّم عليَّ في عجل، ثم قال: شكرًا يا شيخ على الخطبة الجميلة، ولكن حضرتك قلت في الحديث كلمة: (يا عائشة، ذريني أتعبَّد لربي)، وهي ليست في الحديث، وأنا أقول له: سأراجعه، أبشِر! ولكن هل حضرتك تحفظ الحديث؟ فما اهتم بكلامي، وإذ به قد مضى وكأنما تسوقه الريح! فلم يجلس ليقدم نصيحته كما ينبغي، ثم إنه قرأ بعض كلمات الحديث بلهجة عامية جدًّا، تدل على كونه من عامة الناس في العلم! فلا هو قدم نصيحة صحيحة بآدابها، ولا هو جلس ليسمع مني ردي أو جوابي على كلامه.
ومثله صاحبنا الآخر، إلا أنه قد بدَا عليه بعض علامات التدين الظاهرة، وما انتهيت من صلاة الجمعة حتى بادر إليَّ قائلًا: يا شيخنا، لو تكرمت الحديث الذي ذكرته في الخطبة غير صحيح، وغير كامل! يقصد حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
فقلت متعجبًا: كيف يا أخي غير صحيح وغير كامل؟! فقال: الحديث أوله كما أعرفه أنا: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا"، فتبسمت، ثم قلت: يا أخي، جزاك الله كل خير، وبارك فيك، لكن أنت تتكلم عن حديث آخر، وهو صحيح، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم))؛ رواه مسلم.
كما أن هذا الحديثَ صحيح أيضًا، لكنه عند الترمذي، وقد ذكرت ذلك في موضوع الخطبة، فأصَرَّ على قوله، وطلب مني أن أراجع الحديث بعد عودتي! فما كان مني إلا أن قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان، ألهذا الحدِّ وصل حالنا!
فإذا تصور الخطيب وجود مثل هذه التصرفات والمشكلات من أناس يسمعون من هنا وهناك، بلا ضابط أو تبصر، وكان متثبتًا من علمه وثقافته وموضوعه، فإن هذا العلم يكون سببًا في رسوخه وبصيرته، فليست كل نصيحة صحيحة، ولكن هذا لا يعني أن يغتَرَّ الخطيب بنفسه أو بعلمه! كلا؛ لأنه ربما يكون قد أخطأ يقينًا في مسألة ما، فعليه بقبول النصيحة الصحيحة والمهذبة في مكانها ومن أهلها، فالغرض التنبيه على أهمية العلم والبصيرة للخطيب والداعية معًا.
6 - تنويع الموضوعات والاختيار المبكر وحُسن الأداء لخطبة الجمعة: لأن التنويع في اختيار الموضوعات من الأساليب المهمة والناجحة والمؤثرة كثيرًا بالنسبة لخطيب الجمعة، بل وجعل الجماهير ممن يحرصون دائمًا على الحضور مبكرًا لذلك الخطيب الموفق، والاستفادة من موضوعاته وخطبه النافعة والمتنوعة؛ لأن هناك بعض الخطباء - هداهم الله ووفقهم لرضاه - دائمًا ما يكررون الخطب التي ربما سمعها الناس عشرات بل مئات المرات دون جديد أو مفيد! نعم هناك أصول وقواعد في العقيدة والشريعة والأخلاق يجب أن تظل محطَّ التذكير والتعليم والهداية، إنما نقصد أن الخطيب لا يركز على جانب واحد من الموضوعات ويترك غيره أيضًا مما يكون الناس في أشد الحاجة إليه، بل لا بد من التوازن والاعتدال والحكمة والتنويع.. ومثال ذلك: أن يحافظ الخطيب على الكلام في أبواب العقيدة وحدها؛ في الأسماء والصفات، أو الجنة والنار، وهذا جيد؛ لأنها الأساس ولا ريب، لكن البقاء على هذا فقط كل خطبة وكل موضوع لن يعلم الناس أمر دينهم، بل يجب أن نضع الأساس، ثم ننتقل معه إلى بقية شرائع وعبادات الإسلام، فمرة يتكلم خطيب الجمعة عن الجنة يرغب ويشوق، ومرة عن القبر والنار ينذِر ويحذِّر، ومرة عن الصلاة، ومرة عن الزكاة، ومرة عن الصيام، ومرة عن الحج، ومرة عن الكبائر، ومرة عن الأخلاق؛ كالصدق والأخوَّة والبِر والوفاء بالعهد والوعد ومعاملة الناس بالإحسان إليهم والتقوى وبذل المعروف وغيرها من الموضوعات، فهذا هو المقصود، أما أن يثبت الخطيب على باب واحد من الإسلام، فهذا يتكلم في العقيدة وفقط! والآخر في الأخلاق وفقط! وثالث في العبادات وفقط! فلا ريب أن الناس تمَلُّ هذا ولا ترغبه، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأحسنه وأتمه، قال ابن القيم رحمه الله: "الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جِنانه، ونهيهم عما يقربهم من سخَطه وناره - فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها.. وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطَبين ومصلحتهم، وكان يقصُرُ خطبته أحيانًا بحسَب حاجة الناس"؛ اهـ.
إن بعض الموضوعات لا بد أن تطرح وترسخ في قلوب وعقول المصلين على اختلاف طبقاتهم؛ وذلك بالحديث عنها لعدة خطب متوالية؛ مثل مفهوم العبودية لله، والاستسلام لنصوص الوحيين: القرآن والسنة، وتعظيم السنة، وتعظيم الصحابة، واحترام الأجيال المفضلة، وبيان محاسن الإسلام وفضائله، وذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في سلمه وحربه، وإبداء الرأي الشرعي فيما يجِدُّ من أحداث، وبث روح الأخوَّة والتعاون، ونَبْذ الفُرقة والخلاف... إلى غير ذلك من الموضوعات التي ليس مجال تفصيلها في هذا الخاطرة، وإنما قصدنا الذي نريد الوصول إليه هو استشعار المسؤولية الملقاة على عاتق العالم والداعية الذي يرقى المنابر ليتكلم باسم الإسلام وفي بيت من بيوت الله.
كذلك على الخطيب مراعاة أمر آخر، ألا وهو: التبكير، وحسن الإعداد لموضوع الخطبة، وكونه مناسبًا لحال المخاطبين والمصلين في بلده؛ لأن عدم التبكير قبل يوم الجمعة بأيام يضعف الخطيب فيما يقدمه للناس على منبره؛ لأنه لم يستوعب الموضوع جيدًا، ولم يستحضر أدلته من الكتاب والسنة كما ينبغي أن يكون، بل ربما تجد خطيبًا يستدل بالأحاديث الضعيفة وربما الموضوعة في خطبته، ويبني الموضوع كله عليها وهي باطلة من أصلها!
ومما يساعد الخطيب على هذا أيضًا مطالعة القرآن وكتب التفاسير، وكذلك كتب الحديث والسنة النبوية، وكذلك مطالعة كتب الأخلاق والفقه والعقيدة والسيرة النبوية، وتكوين مكتبة صغيرة نافعة، يتخير منها ما يناسب من الموضوعات والخطب، ويراجع منها صحة الأحاديث فيها، ومن سأل أهل العلم والشأن عرَف الكتب والمصنَّفات النافعة في هذا، لكن إجمالًا يمكن للخطيب أن يكون عنده مثلًا مختصر "تفسير ابن كثير"؛ كمختصر العلامة أحمد شاكر، أو نسيب الرفاعي، أو "التفسير الميسر" لجماعة من أهل العلم، و"تفسير ابن سعدي"، وكتاب "رياض الصالحين" وشرحه للعلامة العثيمين، وكتاب "الفقه الميسر" لمجموعة من العلماء من مجمع الملك فهد، و"أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة" لمجموعة من العلماء، و"الدروس المهمة لعامة الأمة" لابن باز، و"عقيدة أهل السنة والجماعة" و"زاد الداعية" و"مجالس رمضان" للعلامة العثيمين، و"منهاج المسلم" للجزائري، و"توجيهات إسلامية" و"كيف نربي أولادنا" و"تكريم المرأة في الإسلام" و"القصص النبوي الصحيح" لجميل زينو، و"مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة، و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي، وكتب الإمام ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب ومؤلفات العلامة ابن باز والعثيمين والألباني - رحمهم الله - جميعًا، وكذلك السلسلة الصحيحة والضعيفة لمعرفة صحيح الأحاديث من ضعيفها، وصحيح الترغيب والترهيب، و"مختصر الرحيق المختوم" للمباركفوري في السيرة النبوية، وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، وفتاوى نور على الدرب، ومؤلفات وخطب الشيخ ابن باز، والشيخ العثيمين، وصالح الفوزان، وغيرها من الكتب النافعة والجامعة.
كذلك هناك أمور أخرى ليس هذا مجالها؛ كأن ينسِّقَ الخطيب موضوعاته بحيث تنساب معه تدريجيًّا إلى عقول الجماهير وقلوبهم، واهتمامه بحسن مظهره وسمته واتباع السنة النبوية في ذلك، وعدم الإطالة المملة، أو التقصير المخل في خطبته، وكذلك ضبطه لصوته وأدائه، وغير ذلك من مسائل مهمة يحتاجها الخطيب والداعية.. وحسبنا هذه الإشارات اليسيرة على سبيل النصح والتوجيه، ومَن طالع كتب الفقه الإسلامي، وكتب الدعوة وفقهها - علِم المنهج الأكمل والأتم الذي ينبغي على الداعية عامة، والخطيب خاصة، لنجاح خطبته ودعوته، والله الهادي إلى سواء السبيل.
التعليقات