الخطابة في العصر الحديث
ودَّعنا الخَطابة في العصر العباسي، وتركناها في نهاية ذلك العصر وهي في ركود وضعف، ثم سارت عجلة الزمان بالخَطابة، فلم تصادف رقيًّا كالذي صادفَته من قبل في عصورها الزاهرة، حتى وصلت إلى العصر الحديث، في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي).
وقد "ظلت الخَطابة في أول هذا العصر على ما كانت عليه في آخر العصر العباسي لا تتعدى الجوامع والبيع، ولا يقوم بها إلا فئة جاهلة ناقلة" [1].
ثم لم تلبث كثيراً حتى قامت أسبابٌ وثارت دواعٍ، حرّكتها من ركودها، وبعثت الحياة في كيانها، وأخذت تدخل في حقبة جديدة من الانتعاش، وطور من الحياة أكثر نشاطًا، ويمكن أن نرصد - في ضوء الاستقراء والاستنتاج - أبرز هذه الدواعي التي نشّطت الخَطابة في هذا العصر على النحو التالي:
1- في هذا العصر ابتليت كثير من البلاد الإسلامية باجتياح أوروبي لها، وتسلُّطٍ أجنبي عليها، فيما عرف بالاستعمار، وقد هبّت تلك البلاد لمقاومة المستعمر الأجنبي بكل ما تستطيع، وقامت حركات التحرر في أرجاء الوطن الإسلامي في العصر الحديث لطرد الغاصب المحتل، حتى كُلِّلت مجهوداتها بالنجاح، والظفر بالاستقلال، وقد دفعت ثمنا باهظا في مكافحة سلطان الاستعمار الأغشم، وفقدت مئات الألوف من خيرة أبنائها، الذين سقطوا شهداء في ساحات الجهاد والشرف، وما خبر الجزائر التي قدّمت مليونا من أبنائها - نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء - عنا ببعيد.
ولا شك أن مثل هذا الجو قد أتاح للخَطابة أن تزدهر وتنشط، وللخطباء أن يبرزوا، ويخطبوا في جموع الناس ويحمِّسوهم لتحرير الأوطان والدفاع عن الحرمات والمقدسات.
2- ثم إنه قامت في هذا العصر دعوات إصلاحية، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحارب البدع، والمادية الجارفة، وتعمل للتمكين لدين الله في الأرض، وتطبيق شرعه في كافة المجالات كما أمر الله تعالى، مثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، وبطبيعة الحال، استعان أصحاب تلك الدعوات بالخَطابة، وعولوا عليها في نشر مبادئهم، وترويج أفكارهم، فكان لها خطباء يجوبون الأقطار، ويخطبون في الجماهير لإقناعهم واستمالتهم إلى صفوفهم.
3- وبالإضافة إلى هذا فهناك المؤسسات والجامعات الدينية التي تأخذ على عاتقها نشر الإسلام والدعوة إلى تعاليمه، وإعداد الدعاة الذين يقومون بواجب الدعوة والوعظ والإرشاد، والتعليم الديني، فكان لهذه المؤسسات كالأزهر الشريف في مصر، والزيتونة في تونس وغيرهما في بلاد أخرى دور في إمداد الخَطابة برجالها وخطبائها، من العلماء والدعاة إلى الله.
4- وقد ظهرت في بعض البلدان التي سرت فيها روح الاستقلال، ونعمت بالحرية ، وتنفست بنسماتها؛ أحزاب، وكان لكل حزب خطباؤه ودعاته، الذين يتبنون الدعوة إلى أفكاره ومبادئه، ويحاولون التأثير في الجماهير واستمالتهم نحوهم، وإقناعهم بمبادئهم.
5- وكذلك فهناك المحافل، وما يدور فيها من مدح أو تهنئة، أو تأبين، أو إثارة قضايا اجتماعية، وسياسية، ونحوها، وفي مثل هذه المحافل والأندية وما يشبهها كالمجالس النيابية يبزغ نجم الخَطابة، ويعلو صوتها.
6- ثم إن النظام القضائي الحديث، وطريقة التقاضي والتخاصم التي نعهدها حاليا، أسهَم في إنعاش الخَطابة، حيث جرت العادة أن يوكِّل كُلٌّ من المتخاصمين محاميا عنه، كما يقوم وكيل النيابة بعرض الجريمة، وإثباتها إذا كان من داع لهذا، فهذه الأطراف: المحامون ورجال النيابة؛ « كلٌّ يحاول جذب القضاء إلى فكرته، وإقرار دعواه وإجابة طلبه » [2]، فوكيل النائب العمومي يجتهد في تقديم الأدلة المثبتة للدعوى، والقرائن المعززة لمطالبه، والمحامي يسعى لتبرئة موكله مما ينسب إليه، أو إثبات حق يدعيه، ونحو ذلك، وفي هذا الميدان تترافع النيابة والمحامون، وكلٌّ يعتمد التأثير الخطابيّ بالصوت والإلقاء، والإشارات، وجمال الشارة وقوة التعبير، وفصاحة الأسلوب؛ أداة فعالة، وعُدّة أساسية لكسب الموقف، وبلوغ المراد، وقد حمل هذا كثيرًا من المشتغلين بالمحاماة على التمرن على الخَطابة، وتمكن منهم أناس من النبوغ فيها وامتلاك ناصيتها.
7- وفي هذا العصر - وبفعل التقارب بين دول العالم وشعوبه - صارت تعقد بين الحين والآخر مؤتمرات إقليمية وعالمية، بالإضافة إلى المؤتمرات المحلية، تتعرض لمناقشة مختلف القضايا والمشكلات، ولاشك أن هذه المؤتمرات تشهد تباينًا في وجهات النظر بين دولة وأخرى، أو شعب وآخر بسبب اختلاف البيئات والثقافات والأديان، وكل ممثل لدولة يحرص على استمالة الجميع لما يراه، وإقناعهم بما تعتنقه دولته، ولا ريب أن هذا الوضع يتطلب الخطباء اللُّسْنَ [3] والفصحاء المقاويل [4]، والمتكلمين المؤثرين، ومن هنا تهتم كل بلدة بأن يكون لديها أمثال هؤلاء الخطباء.
8- ثم إن الحاجة الدائمة إلى الوعظ، والتعليم الديني وإقامة الشعائر الإسلامية للمسلمين؛ يعد من دواعي الخَطابة، وعوامل رواجها ليس فقط في هذا العصر، بل في كل العصور وفي كل مكان به مسلمون، وإن كان هذا المجال من مجالات الخَطابة، وهذا الداعي من دواعيها، يتقلب بين مد وجزر، وانكماش وازدهار، نظرًا لأسباب معينة؛ لكنه - على كل حال - يبقى عاملًا مُهمًّا من عوامل وجود الخَطابة، على الأقل لاستمراره وعدم انقطاعه، فخطب الجمعة وغيرها كالعيدين لا تتوقف، ونأمل أن تكون الخَطابة في هذا الميدان أحسن حالًا، وأكثر حيوية وجاذبية مما هي عليه الآن.
ولقد تنوعت أغراض الخَطابة في هذا العصر، وتباينت أنواعها، فكانت هناك الخَطابة السياسية، والاجتماعية، والوعظية، والقضائية، بالإضافة إلى خطب المحافل المشتملة على مدح أو تهنئة أو رثاء وتعزية، ونحو ذلك.
وهكذا شهدت الخَطابة في العصر الحديث ازدهارًا ونشاطًا، بسبب العوامل التي أشرنا إليها وغيرها، وبرز في ساحتها خطباء مشاهير من أمثال عبد الله النديم، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، وغيرهم كثير.
............................................................................
[1] تاريخ الأدب العربي ص 480.
[2] الخَطابة. الشيخ أبو زهرة. ص 169.
[3] لسِن فلان: فصُح وبلُغ فهو لَسِن وهي لَسِنة، وهو ألْسَن وهي لَسْناء جمع لُسْن. وأَلْسَنَ فلانٌ فَصُح وتكلم كثيرًا. ولاسَنَه ناطَقَه وقاوله. ويقال: كانت بينهما ملاسنة. المعجم الوسيط 2 /857.
[4] المِقْوال: التقوالة، وهو الكثير القول اللسن. السابق 2 /797.
التعليقات