الحج وما يتعلق به

 منزلة الحج في الدين الإسلامي.

أما منزلة الحج من الدين الإسلامي: فهو أحد أركان الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام». فمنزلته من الإسلام منزلة عالية، فهو أحد أركانه ومبانيه العظام.
حكم الحج.
أما حكمه: فإنه فرضٌ بإجماع المسلمين المستند إلى الكتاب والسنة، أي: أن فرضه ثبت بالكتاب العزيز، وبالسنة النبوية، وبإجماع المسلمين.
أما الكتاب: فقال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:97].
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس! إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا». فقام رجل هو الأقرع بن حابس، فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ -أي: أفرض الله ذلك كل عام؟- قال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، الحج مرة فما زاد فهو تطوع".
وأجمع المسلمون على فرضية الحج واشتهر ذلك بينهم، وكان ذلك من المسلَّمات في الدين الإسلامي، حتى إن أهل العلم قالوا: من أنكر فرضية الحج فهو كافر؛ لأن هذا مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فالمسلمون كلهم يقولون: إن الحج ركن من أركان الإسلام.
وهل يجب الحج على الإنسان فوراً أو على التراخي؟ الجواب: يجب فوراً، أي: من حين أن تتم شروط وجوب الحج فإنه يجب أن يؤديه الإنسان ولا يتأخر؛ لأن واجبات الإنسان على الفور، فإن الإسلام لا يدري ما يعرض له، فقد يكون فقيراً بعد الغنى، ويكون سقيماً بعد الصحة، ويكون ميتاً بعد الحياة، إذاً: متى تمت الشروط فبادر ولا تتأخر.
شروط وجوب الحج.
والشروط خمسة: الإسلام وضده الكفر. والعقل وضده الجنون. والبلوغ وضده الصغر. والحرية وضدها الرق. والاستطاعة وضدها العجز.
الأول: الإسلام وضده الكفر، فالكافر لا يجب عليه الحج، ولهذا لو وجدنا كافراً لا نقول له: حج، بل نقول له: أسلم أولاً ثم حج.
الثاني: العقل وضده الجنون، فلو فرض أن إنساناً منذ صغره كان مجنوناً، عنده أموال كثيرة لكنه مجنون، فلا حج عليه ولا يُحج عنه؛ لأنه غير عاقل، فإذا وجدنا أحداً متخلفاً في العقل منذ صغره وعنده مال وعنده أب يمكن يحج به، فإنه لا يجب عليه الحج لعدم العقل.
الثالث: البلوغ وضده الصغر، فلو مات قبل أن يبلغ فإنه لا يحج عنه، لا يجب الحج عنه، لأنه صغير، حتى لو فرض أن هذا الصغير عنده أموال كثيرة ومات فإنه لا يحج عنه منها؛ لأنه لم يجب عليه الحج.
والبلوغ يحصل بالنسبة للرجال بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يتم له خمس عشرة سنة.
الثاني: أن تنبت عانته.
الثالث: أن ينزل المني بشهوة أو احتلاماً.
أما في النساء فتزيد المرأة علامة رابعة وهي: الحيض، فإذا حاضت ولو لم يكن لها إلا عشر سنوات فهي بالغ.
الشرط الرابع: الحرية وضدها الرق، فالرقيق المملوك لا حج عليه؛ لأنه ليس له مال فإن ماله لسيده.
الخامس: الاستطاعة، وهو الشرط الذي ذكره الله في القرآن وجاءت به السنة أيضاً: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران:97] أي: من قدر أن يحج، أما من لم يقدر فلا حج عليه.
ولكن إن كان ذا مال فإنه يقيم من يحج عنه، أي: ينيب من يحج عنه ما لم يرجُ أن يقدر في المستقبل فلا ينيب عنه من يحج عنه، وإذا زال العجز وجب عليه أن يحج بنفسه.
مثال ذلك: رجل عنده مال كثير لكن فيه مرض لا يرجى برؤه، أو كِبر والكِبر لا يرجى زواله، فهل يلزمه أن ينيب من يحج عنه؟ نعم يلزمه؛ لأنه قادر بماله فيلزمه أن يقيم من يحج عنه.
مثال ثانٍ: رجل عنده مال وهو عاجز عن الحج هذا العام، لكن مرضه يرجى أن يشفى منه، فهل يلزمه أن يقيم من يحج عنه، أم ينتظر إلى العام القادم؟ ينتظر إلى العام القادم، ولا يصح أن يقيم من يحج عنه؛ لأنه قادر بنفسه.
مثال ثالث: إنسان عنده مال وهو قادر ببدنه، فهل يلزمه أن يحج هذا العام، أم نقول له: لك أن تؤخره إلى العام الثاني؟ يلزمه أن يحج هذا العام، ولا يجوز أن يؤخر إلى العام الثاني؛ لأن الحج على الفور.
مثال رابع: إنسان قادر ببدنه لكن ليس عنده مال، فهل يلزمه أن يحج؟ فيه تفصيل: إن كان يقدر أن يمشي ولا تزيد النفقة على نفقة الإقامة؛ فإنه يلزمه أن يحج، كرجل من أهل مكة ليس عنده مال، لكن يستطيع أن يخرج مع الناس إلى عرفة ويرجع، فنقول: يلزمه أن يحج؛ لأن الله قال: ﴿مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران:97] وهذا مستطيع، والحج لا يكلفه زيادة مال، فيلزمه أن يحج.
متى فرض الحج.
متى فرض الحج؟ فرض الحج على القول الراجح: في السنة التاسعة، أو العاشرة، ولم يفرض قبل ذلك، مع أن التوحيد فرض من أول البعثة.
والصلاة فرضت قبل الهجرة، والزكاة فرضت إما قبل الهجرة وبُينت تفاصيلها بعد الهجرة، أو لم تفرض إلا بعد الهجرة.
والصيام فرض بعد الهجرة، والحج تأخر إلى التاسعة أو العاشرة، والحكمة ظاهرة؛ لأن مكة -شرفها الله عز وجل- كانت إلى السنة الثامنة بيد المشركين، يمنعون من شاءوا، ويأذنون لمن شاءوا، حتى إنهم صدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يتم عمرته عام الحديبية، فليس من الحكمة أن يلزم الناس أن يحجوا مع أنهم قد يردون من أثناء الطريق، فتأخر فرض الحج إلى أن فتحت مكة في السنة الثامنة.
سبب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم للحج بعدما فرض.
إذا قلنا: إنه فرض في السنة التاسعة فهل حج الرسول عليه الصلاة والسلام من حين فرض؟ لم يحج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الحج لسببين:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة يتلقى وفود العرب الذين يأتون مسلمين؛ لأن العرب لما فتحت مكة، وفتحت الطائف انكسرت شوكتهم، وصاروا يدخلون في دين الله أفواجاً، فبقي في المدينة يتلقى الوفود ويعلمهم الدين ثم ينصرفون. هذا سبب.
سبب آخر: في السنة التاسعة حج المسلمون والمشركون، فاختار الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون حجته ليس فيها أخلاطٌ من المشركين، ولهذا لما حج أبو بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة بالناس نادى المنادي: ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
إذاً أخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج لسببين:
الأول: البقاء في المدينة لتلقي الوفود.
الثاني: ألا يكون معه أحدٌ من المشركين.
صفة الحج والعمرة.
الحج نوع من الجهاد في سبيل الله؛ بدليل: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: «عليهن جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة». ولهذا كان في الحج تعب بدني وإنفاق مالي كالجهاد تماماً، فهو نوعٌ من الجهاد في سبيل الله، واستنبط بعض العلماء رحمهم الله ذلك من قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۞ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:195-196] فذكر الحج بعد أن ذكر الإنفاق في سبيل الله، وهو إشارة إلى أن الحج نوعٌ من الجهاد في سبيل الله، ولكن لا بد أن نعرف صفة الحج حتى نفعل هذه الصفة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من آداب السفر.
أولاً: يشد الإنسان رحله من بلده إلى مكة، فينبغي أن يتأدب بآداب السفر؛ يكون سمح البال، واسع الصدر، معه النفقة التي تكفيه وتزيد؛ لأنه لا يدري ما يعرض له في الطريق، قد يحتاج شيئاً أو يحتاج مرافقه شيئاً فتكون النفقة معه، وليكن خادم إخوانه في السفر، قال نافع مولى ابن عمر: "صحبت عبد الله بن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني رضي الله عنه" كن خادم أصحابك، فإن ذلك من محاسن الأخلاق، ولهذا قال بعضهم: إنما سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يبينها ويظهرها، حتى إن عمر رضي الله عنه شهد رجلاً عنده يزكي رجلاً ويقول: إنه رجل عدل، وفيه ما فيه، فقال له عمر: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: إذاً أنت لا تعرفه. ولذلك إذا سافرت مع إنسان تبين لك من أخلاقه ما لا يتبين في حال الإقامة.
الإحرام من الميقات.
فإذا وصلت إلى الميقات فأحرم، لا تتجاوز الميقات وأنت تريد الحج أو العمرة إلا محرماً، واغتسل كما تغتسل للجنابة، ثم طيب بدنك بالطيب، على الرأس وعلى اللحية، ثم البس الإحرام، والإحرام: إزار ورداء للرجال، أما النساء فليس لهن ثياب معينة، ولتلبس المرأة ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثياباً تلفت أنظار الرجال إليها، ثم تلبي فتقول: لبيك اللهم عمرة، وتركض أو تمشي وأنت لا تزال تلبي، وترفع الصوت بالتلبية إذا كنت رجلاً، وأما المرأة فلا ترفع صوتها، إلى أن تصل إلى مكة.
دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت.
ثم إذا وصلت إلى مكة تدخل المسجد الحرام وتقول عند دخوله ما تقوله عند أي مسجد، فتقول: «باسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك». ثم تقصد الحجر الأسود وتستلمه -أي: تمسحه- وتقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وإن تيسر أن تقبله مع الاستلام فهو حسن، وإن لم يتيسر لا الاستلام، ولا التقبيل فالإشارة تكفي باليد اليمنى، وليس كما نشاهده من العوام يمد يديه جميعاً، إنما باليد اليمنى، ثم تنطلق من الحجر لتجعل الكعبة عن يسارك وتدور إلى أن تصل الحجر، وإذا مررت بالركن اليماني وهو الركن الذي يليه الحجر فاستلمه -أي: امسحه- بدون تكبير، فإن لم تستطع فلا تشر إليه؛ لأن ذلك -أعني التكبير عند استلام الركن اليماني، والإشارة إليه عند تعذر استلامه- لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعبادات مبناها على التوقيف، وقل بين الركن اليماني والحجر الأسود: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201] وإذا حاذيت الحجر مرة ثانية فقل: الله أكبر فقط.
وفي بقية الطواف الطائف يقول ما شاء من ذكر، ودعاء، وقراءة قرآن؛ لأن المقصود أن تشتغل بما يقربك من الله عز وجل، إن شئت أن تقرأ قرآناً فاقرأ، أو أن تذكر الله فاذكر الله، أو أن تسبح فسبح، أو أن تكبر فكبر، كما تشاء، حتى تتم سبعة أشواط، وبذلك انتهى الطواف.
واعلم أنك بهذا الطواف -وأقصد بذلك الرجال- يسن لك سنتان:
السنة الأولى: أن تضطبع بردائك، ومعنى الاضطباع: أن تجعل الرداء وسطه تحت الإبط وطرفيه على العاتق الأيسر في جميع الطواف.
وأن ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى، والرمل هو: سرعة المشي مع مقاربة الخطى، وهذا إن تيسر، أما إذا كان هناك زحام فإن الإنسان لا يتمكن من الرمل إلا بتأذٍ يقع عليه أو تأذٍ يقع منه.
وإذا أتممت سبعة أشواط فتقدم إلى مقام إبراهيم واقرأ وأنت متجهٌ إلى مقام إبراهيم قول الله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة:125] ثم صلّ ركعتين، تقرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون مع الفاتحة، وفي الثانية قل هو الله أحد مع الفاتحة، وخفف الركعتين، ولا تدع بعدهما، بل دع المكان لغيرك، وإذا سلمت فإن تيسر أن تعود إلى الحجر الأسود وتستلمه فافعل، وإن لم يتيسر فلا إشارة.
السعي بين الصفا والمروة.
ثم اتجه إلى الصفا لتسعى بين الصفا و المروة ، فإذا دنوت من الصفا فاقرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] وإن شئت فزد: أبدأ بما بدأ الله به. هذا تقوله إذا أقبلت على الصفا وليس إذا صعدت، وتقوله أول مرة ولا تقوله عند المروة، ثم اصعد الصفا واتجه إلى القبلة وارفع يديك وادع الله عز وجل واذكره بما ورد، ثم انحدر من الصفا متجهاً إلى المروة، فإذا حاذيت العلم الأخضر وهو العمود الأخضر وفوقه نجفات خضر؛ فاركض بقدر ما تستطيع، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسعى شديداً تدور به إزاره، وهذا مشروط بما إذا لم يكن زحام، فإن كان زحام فعلى ما تستطيع، ولا تسع سعياً شديداً فتتأذى وتؤذي، حتى تصل إلى المروة ، فإذا وصلت إليها فاصعد عليها واستقبل القبلة وارفع يديك وقل كما قلت على الصفا؛ حمداً وذكراً ودعاء، ثم انزل منها متجهاً إلى الصفا، تمشي في موضع المشي وتركض في موضع الركض، فإذا أقبلت على الصفا فلا تقرأ الآية، إنما تقرأ إذا أقبلت على الصفا أول مرة، وتصعد على الصفا وتدعو الله عز وجل بما دعوت به في أول شوط، حتى تتم سبعة أشواط.
الحلق أو التقصير.
ثم تحلق أو تقصر، لكن إذا كان وقت الحج قريباً فالتقصير أفضل في العمرة ليتوفر الشعر للحج، وبهذا تحل حلاً كاملاً.
فصارت العمرة الآن: إحرام، وطواف، وسعي، وحلق أو تقصير، تتم الآن وتحل من كل شيء حرم عليك بالإحرام.
الإحرام للحج إذا دخل يوم الثامن من ذي الحجة.
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، فأحرم من مكانك الذي أنت فيه، إن كنت في مكة فمن مكة، وإن كنت في منى فمن منى، وإن كنت في عرفة فمن عرفة، أو في أي مكان أحرم منه، واغتسل، والبس ثياب الإحرام، وتطيب كما فعلت عند إحرام العمرة، وتقول: لبيك اللهم حجاً، ولا تقول عمرة، وتبقى في منى محرماً تصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، كل صلاة تصليها في وقتها، لكن قصراً، فتصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، أما المغرب فثلاث، والفجر ركعتان.
الوقوف بعرفة.
ثم إذا طلعت الشمس اليوم التاسع تذهب إلى عرفة، تنزل بمكان يسمى (نمرة) كان الناس ينزلونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فيه حتى زالت الشمس، لكن الآن يصعب جداً أن تنزل فيه، والنزول فيه سنة وليس بواجب.
فإذا زالت الشمس يوم عرفة فصلِّ الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان وإقامتين، ويحسن أن تستمع إلى خطبة الإمام في مسجد نمرة، وهذا سهل في الوقت الحاضر، اجعل عندك راديو في الخيمة وافتحه على الإذاعة السعودية ثم استمع؛ لأن الخطبة في يوم عرفة سنة، وإذا انتهى الخطيب فأذن وصلِّ الظهر ركعتين والعصر ركعتين، وتبقى الآن متفرغاً للذكر والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك.
ربما يقول قائل: إذا بقيت من هذا الوقت إلى الغروب أدعو الله وأذكر الله وأقرأ القرآن ربما أتعب، فنقول: هذا حقيقة، لكن إذا وجدت من نفسك تعباً فاسترح لأكل، أو شرب، أو نوم، أو ما أشبه ذلك، ولكن احرص على أن يكون آخر النهار -نهار يوم عرفة- وقتاً للتفرغ لعبادة الله؛ للذكر، والتسبيح، وقراءة القرآن، ولقد جربت شيئاً نافعاً لا يحصل فيه ملل ولا كسل، وهو أن تقرأ القرآن بتدبر فتسأل عند آية الرحمة، وتتعوذ عند آية الوعيد، وتسبح عند آية التسبيح، والقرآن فيه وعد، ووعيد، وتسبيح، وهنا لا تمل؛ لأنك سوف تقرأ القرآن وتمشي فلا تمل ولا تتعب.
المبيت بمزدلفة.
فإذا غربت الشمس فاتجه إلى مزدلفة -المشعر الحرام- وتبيت بها، ولكنك تصلي من حين أن تصل إلى مزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين مجموعة، إلا أنك إذا تأخر بك السير وخشيت أن ينتصف الليل قبل أن تصل إلى مزدلفة؛ وجب عليك أن تصلي ولا تؤخر إلى ما بعد نصف الليل، وتبيت في مزدلفة، ثم تصلي الفجر إذا طلع الفجر، وتذكر الله تعالى قليلاً حتى تسفر جداً.
رمي الجمار.
ثم تنزل إلى منى، وأول ما تفعل رمي جمرة العقبة -إن تيسر- بسبع حصيات تكبر مع كل حصاة: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والسنة ألا تلقط الحصى من مزدلفة ولكن القطها من منى، ولو عند الجمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الجمرة وأمر ابن عباس أن يلقط له سبع حصيات، فالتقطها من هناك، أما ما ورد عن بعض السلف أنها تلقط من مزدلفة، فإنما قالوا ذلك ليكون الإنسان مستعداً للرمي من حين أن يصل إلى منى؛ لأنه ليس كل أحد يتيسر له أن ينزل في منى ويلقط الحصى، أو أن يأمر من يلقط له الحصى، فقالوا: خذ الحصى معك من أجل أن تذهب وترمي من حين أن تصل، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم -يا إخواننا- رمى جمرة العقبة وهو على بعيره ولم ينزل، وقد قال العلماء رحمهم الله: إن رمي جمرة العقبة تحية منى كالركعتين تحية المسجد.
النحر والطواف والسعي والمبيت بمنى.
فإذا رميت الجمرة فانحر الهدي، وهذا هدي التمتع، ثم احلق رأسك كاملاً، ثم البس الثياب؛ لأنك حللت من جميع محظورات الإحرام إلا النساء، وتطيب.
ثم تنزل إلى مكة فتطوف طواف الإفاضة بثيابك؛ لأنك حللت من لبس الإحرام تطوف سبعة أشواط بدون رمل، تشمي مشياً عادياً، ثم تسعى بين الصفا و المروة على حسب ما سمعتم أولاً، ثم ترجع إلى منى وتبيت بها.
مسائل مهمة تتعلق بالحج.
ولننظر الآن بعد الانصراف من مزدلفة والوصول إلى منى فعلنا عدة أمور:
أولاً: رمي جمرة العقبة.
ثانياً: النحر.
ثالثاً: الحلق.
رابعاً: الطواف.
خامساً: السعي.
فهل للإنسان أن يقدم بعضها على بعض؟ اسمع فتوى النبي عليه الصلاة والسلام: "ما سئل عن شيء يوم العيد قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج».
وعلى هذا نأخذ أمثلة: رجل انطلق من مزدلفة إلى مكة رأساً وطاف وسعى ثم عاد ورمى، فإن ذلك يجوز.
رجل رمى ثم حلق قبل أن ينحر، فنقول: يجوز.
رجل نزل إلى مكة ليطوف ويسعى فوجد المطاف ضيقاً جداً، فسعى قبل أن يطوف، فإن ذلك يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم ولا أخر يومئذٍ -أي: يوم النحر- إلا قال: "افعل ولا حرج".
ثم يبيت في منى ليلة أحد عشر، وليلة اثنى عشر، وليلة ثلاثة عشر، هذا إن تأخر، وإن تعجل فيبيت ليلة أحد عشر، وليلة اثنى عشر، وبعد الزوال في الأيام الثلاثة يرمي الجمرات الثلاث، فيرمي الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة، والصغرى هي أول ما يليك إذا نزلت إلى مكة، ترميها بسبع حصيات، تكبر مع كل حصاة، ثم تبعد عن الزحام والحصى، وتقف مستقبلاً القبلة رافعاً يديك تدعو الله عز وجل دعاءً طويلاً حسب ما تستطيع، ثم الوسطى ترميها مثلها، وتقف بعدها وتدعو الله تعالى دعاءً طويلاً، ثم جمرة العقبة ولا تقف، ثلاثة أيام بعد الزوال، وبذلك تم الحج.
فإذا أردت السفر إلى بلدك فلا تخرج حتى تطوف الوداع، ولنأخذ الآن أمثلة:
رجل دفع من عرفة قبل الغروب، فلا يجوز له ذلك، بل يجب أن يبقى في عرفة حتى تغرب الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في عرفة حتى غربت الشمس، ولو كان الدفع قبل الغروب جائزاً لدفع الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أرحم بالأمة وأرفق بهم أن يدفعوا في النهار، وفي وقت ليس هناك أعمدة كهرباء، فلما انتظر حتى غربت الشمس، وحل الظلام، ولم يدفع قبل ذلك، علمنا أن البقاء في عرفة إلى الغروب واجب؛ ولأن الإنسان إذا دفع قبل الغروب خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ووافق هدي المشركين؛ لأن المشركين يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على الجبال كالعمائم على رءوس الرجال، أي: إذا قاربت الغروب مشوا.
رجل دفع من مزدلفة قبل أن يصلي الفجر، فهذا جائز، لا سيما في عصرنا هذا من أجل الزحام، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في آخر اليوم لئلا يزحمهم الناس، وفي وقتنا الآن الزحام شديد، فلك أن تدفع قبل الفجر من مزدلفة وترمي، متى وصلت ترمي ولو كان قبل الفجر بساعة أو ساعتين.
لكن رجل لم يدفع من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، كذلك يجوز، لكن لا يفعل إلا لعذر؛ كتعطل السيارة، أو فقد بعض الأصحاب فيبقى يبحث عنهم مثلاً، وإلا فليدفع قبل أن تطلع الشمس؛ لأن تأخير الدفع من مزدلفة حتى تطلع الشمس يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويوافق هدي المشركين، فقد كان المشركون إذا وقفوا في مزدلفة يقولون: أشرق ثبير كيما نغير.
رجل أخر الرمي حتى غابت الشمس في يوم أحد عشر، ويوم اثنا عشر، فإن ذلك جائز، ولك أن ترمي إلى الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت أول الرمي وسكت عن آخره، فدل هذا على أن الأمر واسع، لا سيما في أوقاتنا هذه، الجمع كثير، والغشم كثير، وعدم المبالاة كثير، وتجد الواحد يأتيك كالجمل الصائل الهائج يريد أن يرمي -على زعمه- الشيطان، وربما يأخذ أحجاراً كبيرة يرمي الشيطان على زعمه، وسُمع بعضهم وهو يلعن الجمرة، ويقول: لعنك الله أنت الذي فرقت بيني وبين زوجتي. سبحان الله! هذا جهل عظيم، ولذلك يجب أن ننزع هذه العقيدة الباطلة من أفكار الناس، ونقول: رمي الجمرات منسك من مناسك الحج، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله».
رجل جمع أيام التشريق في آخر يوم، لم يذهب يوم أحد عشر ولا اثنا عشر، جعلها كلها جميعاً في آخر يوم، هذا لا يجوز إلا لعذر؛ كما لو كان الإنسان بعيداً في أطراف منى ويشق عليه أن يتردد كل يوم، فنقول: لا بأس، اجمع الأيام الثلاثة في آخر يوم، ولكن ابدأ بالترتيب، ارم ثلاثاً عن يوم أحد عشر، وثلاثاً عن يوم اثنا عشر، وثلاثاً عن يوم ثلاثة عشر، فترمي الأولى ثم الوسطى ثم العقبة.
امرأة يشق عليها الزحام ولا يرجى أن تتأخر حتى يخف، فهل لها أن توكل؟ الجواب: نعم لها أن توكل، وكذلك الشيخ الكبير له أن يوكل، والمريض له أن يوكل، وضعيف البنية له أن يوكل؛ لأن الزحام شديد لا سيما في اليوم الثاني عشر لمن أراد أن يتعجل؛ لأنه في هذا اليوم يحصل زحام شديد، والمرأة لا تتحمل فلتوكل.
رجل عزم على أن يتعجل ويخرج من منى، لكن حبسه السير، ازدحام السيارات حبسه حتى غابت الشمس فماذا نقول له؟ نقول: سر ولو غابت الشمس؛ لأنك حبست ضرورة.
رجل أو امرأة خاف من الزحام إذا رمى في أول الوقت يوم اثنا عشر، ثم تعجل فأخر الرمي حتى خف الزحام ولم يخف الزحام إلا بعد الغروب فرمى ودفع، فإن ذلك يجوز؛ لأن هذا التأخير ضرورة، فهو كمن نام عن صلاة أو نسيها يصليها إذا ذكرها، وهذا نقول: ما دام لا يتحمل الزحام وأخر حتى غابت الشمس، ومن نيته القطعية أنه متعجل وليس متأخراً، نقول: إن الله تعالى يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16] ويقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78].
أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً.
بقي الكلام على محظورات الإحرام، ولكن الوقت لا يتسع، فليؤجل -إن شاء الله- إلى اللقاء القادم ونتكلم عليه.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.