يستحب صيام الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة، وعلى ذلك جماهير أهل العلم؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ) ، قالوا يا رسول الله : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) رواه البخاري (969) ، وأبو داود (2438) – واللفظ له – ، والترمذي (757) ، وابن ماجة (1727) .
ولا شك أن الصيام من أفضل الأعمال وأبرّها ؛ فهو داخل في العمل الصالح المستحب في هذه الأيام المباركة بنص هذا الحديث .
وأما حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر ، الذي رواه مسلم ، فقد عارضه ما رواه أبو داود (2437) عن هُنَيْدَةَ بن خالد رضي الله عنه عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عن الجميع قالت : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ " ، قال الشيخ الألباني رحمه الله : " إسناده صحيح " في " صحيح سنن أبي داود " .
وللعلماء في هذه المسألة أقوال ، منها :
أولا : أن عائشة رضي الله عنها أخبرت بما علمت ، وأخبر غيرها بخلاف خبرها ، ومن علم حجة على من لم يعلم . والمثبت مقدم على النافي .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قال الإمام أحمد رحمه الله في التعارض بين هذين الحديثين : إن المثبت مقدم على النافي " انتهى من " الشرح الممتع " (6 /154) .
ثانيا : أن القول مقدم على الفعل ، وحديث ابن عباس من القول ، وحديث عائشة من الفعل ، فيقدم القول لاحتمال خصوصية الفعل ، أو لحصول عذر ، ونحوه .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" القول الصادر من الرسول عليه السلام الموجه إلى الأمة هو شريعة عامة ، أما الفعل الذي يفعله هو، فيمكن أن يكون شريعة عامة حينما لا يوجد معارض له ، ويمكن أن يكون أمراً خاصاً به عليه الصلاة والسلام " .
ثالثا : يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صيام هذه الأيام لعارض من سفر أو مرض أو شغل ونحوه ، فحدثت عائشة رضي الله عنها بما رأته من ذلك .
قال النووي رحمه الله :
" وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ : " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ " ، وَفِي رِوَايَةٍ " لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ " رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ , فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : وَهُوَ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ , وَالْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهن , أَوْ لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَكُلَّهُ فِي بَعْضِهَا , وَيَتْرُكُهُ فِي بَعْضِهَا لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ " انتهى من " المجموع " (6/441) .
وقال الشوكاني رحمه الله :
"تَقَدَّمَت أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الْعُمُومِ , وَالصَّوْمُ مُنْدَرِجٌ تَحْتِهَا . وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ " فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهَا لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , أَوْ أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهَا لَهُ صَائِمًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَدَمَ , عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَوْمِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْفِعْلُ " انتهى من " نيل الأوطار " (4/283) .
رابعا : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك صيام هذه الأيام أحيانا ؛ لأنه كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفرض على الأمة كتركه صلاة التراويح جماعة في رمضان ، وربما ترك الشيء وسهّل فيه شفقة على الأمة .
فقد روى البخاري (1128) ، ومسلم (718) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ ، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ".
قال الحافظ رحمه الله :
" وَاسْتُدِلَّ بِهِ – أي بحديث ابن عباس - عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ ، وَلَا يَرد عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ " انتهى من " فتح الباري " (2/460) .
خامسا : قد قيل إن حديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم تسع من ذي الحجة ضعيف لا يحتج به ، اختُلف فيه على هنيدة : فروى عنه عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أُمَّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُخْتَصَرًا . راجع : " نصب الراية " (2/157) .
وتبقى الحجة في مشروعية صيام هذه الأيام في عموم حديث ابن عباس .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
هل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم صيام عشر ذي الحجة كاملة ؟
فأجاب :
" ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أبلغ من أن يصومها ، فقد حث على صيامها بقوله عليه الصلاة والسلام : ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) ، ومن المعلوم أن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة.
أما فعله هو بنفسه فقد جاء فيه حديثان : حديث عائشة ، وحديث حفصة ، أما حديث عائشة فقالت : " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر قط " ، وأما حديث حفصة فإنها تقول : " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع صيامها " ، وإذا تعارض حديثان أحدهما يثبِت والثاني ينفي، فالمثبت مقدم على النافي ، ولهذا قال الإمام أحمد : حديث حفصة مثبت ، وحديث عائشة نافي ، والمثبت مقدم على النافي .
وأنا أريد أن أعطيك قاعدة : إذا جاءت السنة في اللفظ فخذ بما دل عليه اللفظ ، أما العمل فليس في الشرط أن نعلم أن الرسول فعله أو فعله الصحابة، ولو أننا قلنا : لا نعمل بالدليل إلا إذا علمنا أن الصحابة عملوا به ، لفات علينا كثير من العبادات ، ولكن أمامنا لفظ وهو حجة بالغة واصل إلينا ، يجب علينا أن نعمل بمدلوله ، سواء علمنا أن الناس عملوا به فيما سبق ، أم لم يعملوا به " انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (92 /12).
التعليقات