بعث أسامة إلى مشارف الشام
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من حجة الوادع، شد الرحال عائدًا إلى المدينة المطهرة، واستقر الركب النبوي بالمدينة، لا ليأخذ حظًا من الراحة، بل ليستأنف الجهاد والدعوة إلى الله وفي سبيل الله .
وكان أول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته، أن جهز جيشًا لغزو الروم. وكان من خبر هذه الغزوة ما نقصه عليك في هذه السطور .
كان كبرياء دولة الروم قد جعلها تأبى حق الحياة على كل من آمن بالله ورسوله، وتمنع كل من أراد أن يدين بدين الإسلام، وينفك من أسر الجاهلية. وقد حملها هذا الموقف المتجبر والمتنعت على قتل كل من كان يريد أن يدخل في الإسلام من أتباعها، كما فعلت ب فَرْوَة بن عمرو الجُذامي ، الذي كان والياً على مَعَان من قِبَلِ الروم .
ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة التي أبدتها دولة الروم، فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيشًا عظيمًا للحد من كبرياء هذه الدولة، ولكسر غطرستها وتحطيم جبروتها. فشرع في شهر صفر من السنة الحادية عشرة من الهجرة، بتجهيز هذا الجيش، وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة ، وأمره أن يتوجه نحو البلقاء من أرض الشام، بقصد إرهاب دولة الروم، ومن ثَمَّ إعادة الثقة إلى قلوب العرب المقيمين على حدود تلك الدولة .
ولما كان أسامة شابًا، لا يتجاوز الثامنة عشر من العمر، فإن المنافقين أكثروا القول في تأميره وتوليته أمر قيادة الجيش الإسلامي، وشاع بينهم القيل والقال، واعترضوا على أن يقود الرجال الكبار شاب لم يبلغ مبلغ الرجال في مثل سن أسامة رضي الله عنه. وقد بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك، فخرج على الناس، وقال: ( إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده ) رواه البخاري ، وفي رواية أخرى، أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتنفيذ بعث أسامة ، فقال: ( فأنفذوا بعث أسامة ) فحسم صلى الله عليه وسلم الموقف، وأمر بالمضي في تسيير جيش أسامة .
ثم أخذ الناس يلتفون حول أسامة ، وينتظمون في جيشة، وخرج معه جميع المهاجرين والأنصار، ونزلوا مكانًا يسمى ( الجُرْف ) على بعد خمسة كيلو مترات ونصف من المدينة المنورة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزمتهم التريث، حتى يعرفوا ما الله قاضٍ في أمر رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، رجع أسامة من معسكره، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مستلقيًا في فراشه، قد أخذ المرض منه كل مأخذ، فطأطأ أسامة رأسه، وقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، ثم جعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة ، قال أسامة : فعرفت أنه يدعو لي. وفي اليوم التالي نشط رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه، فتوجه إلى أسامة قائلاً له: اغد على بركة الله، فودعه أسامة ، وخرج إلى معسكره .
وقد قضى الله سبحانه أن يكون هذا البعث آخر بعث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. إذ في هذه الأثناء، عظم الخطب واشتد الحال برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام الجيش في مكانه، ينتظر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتاهم نبأ وفاته عليه الصلاة والسلام .
وبعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واستقر الأمر ل أبي بكر رضي الله عنه، أوعز ل أسامة - الذي كان لا يزال مرابطًا على حدود المدينة، في مكان يقال له: ( ذو خشب ) - بالمسير لوجهته. وكانت الردة قد انتشرت في صفوف بعض قبائل العرب. وقد أشار كثير من الناس على الصديق أن لا يبعث جيش أسامة ؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم. إلا أن أبا بكر لم يبالِ بالأقوال التي كانت تفضل تجميد الجيش؛ وأيضًا لم يكترث بالآراء التي ارتأت أن يستبدل ب أسامة غيره؛ بل أطلق قولته المشهورة، التي تدل على صلابة موقفه، وقوة عزيمته، قائلاً: ( والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله، ما رددت جيشًا وجَّهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله ) وفي رواية أنه قال: ( لو ظننت أن السباع تخطفني، لأنفذت بعث أسامة ، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته ) ووجه أسامة لإتمام المهمة التي أوكلها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وخرج الصِّديق يودع الجيش أسامة ماشيًا. ولما أراد أسامة أن ينزل ليركب أبو بكر رضي الله عنه، اعترضه أبو بكر قائلاً: والله لا نزلتَ، ولا ركبتُ. وما عليَّ أن أغبَّر قدمي في سبيل الله ساعة، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترتفع له، وتُرفع عنه سبعمائة خطيئة. ثم ودع أبو بكر الجيش، وأوصاهم خيرًا فيما هم مقدمون عليه، وقال ل أسامة : اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونهض أسامة للأمر الذي كُلِّف به خير قيام، وانتهى إلى ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل لا يمر بقوم ولا قبيلة يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ومنعة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن نَدَعُهم حتى يلقَوا الروم. فلقوا الروم، فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين غانمين .
وقد ثبَّت الله بهذا الموقف من أبي بكر رضي الله عنه أقوامًا كثيرة على الإسلام، وعاد كثير من الذين ارتدوا إلى إسلامهم. وكان خروج بعث أسامة في ذلك الوقت من أكبر المصالح للإسلام والمسلمين. وكان فراغه من بعثه هذا في أربعين يومًا .
وقد تضمن هذا البعث المبارك الكثير من الدروس والفوائد، نشير إلى بعض من ذلك فيما يأتي:
أولاً: علو همة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصه على الجهاد في سبيل الله، حيث ما فتئ بعد وصوله إلى المدينة عائدًا من الحج، حتى أخذ يعد العدة لإرسال بعث جديد، لنشر دعوة الحق، وحماية دولة الإسلام .
ثانياً: اختياره صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه للمهام الصعبة، وعدم الاكتراث بحداثة سنِّه مع توفر الكفاءة فيه، فكبر السن لا يهب الأغبياء عقلاً، والصغر لا ينقص الأتقياء فضلاً. وقد قال الشاعر:
فما الحداثة عن حلم بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
لقد كان زيد بن حارثة رقيقًا، وهو والد أسامة - قائد البعث المبارك - وهو في أصله مولى، وكان أسامة رضي الله عنه فتى صغيرًا في حدود الثامنة عشر من عمره. ومع ذلك فلا الصغر ولا الرق القديم منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجعله أميرًا على عامة الصحابة - وفيهم أصحاب الهجرة وأصحاب النصرة - في غزوة مهمة كانت وجهتها خارج جزيرة العرب، ومهمتها مواجهة دولة عظمى كدولة الروم! ولئن وَجَد المنافقون، والذين في قلوبهم مرض في تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم مثارًا للتعجب والاستنكار، فإن شريعة الإسلام لا تقيم اعتبارًا لمعايير البشر، ولا تقيم وزنًا لمقاييس الجاهلية، وهل جاء الإسلام إلا ليحطم تلك المعايير الجاهلية، وليقضي على تلك المقاييس البشرية، التي يستخدمها الناس للمفاضلة بين البشر، وقياس درجة التفاوت بينهم .
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد في أسامة رضي الله عنه مزية، جعلته أولى من غيره بقيادة الجيش في هذه الغزوة. وإذا كان الأمر كذلك، فليس على المسلمين - والحال كما ذكرنا - إلا السمع والطاعة، وإن أُمِّر عليهم عبد حبشي. ولذلك كان أول عمل قام به أبو بكر رضي الله عنه بعد توليته الخلافة، هو تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنفاذ جيش أسامة إلى وجهته التي أرادها له الرسول عليه الصلاة والسلام. وخرج أبو بكر رضي الله عنه برفقة الجيش بنفسه ماشيًا - وهو خليفة المسلمين - و أسامة راكبًا، وبقي معه إلى أن تجاوز الجيش حدود المدينة. ثم استأذن منه في إبقاء عمر رضي الله عنه إلى جواره لمساعدته في تسيير أمور الدولة، فأذن له أسامة بذلك. ولقد رجع أسامة رضي الله عنه من هذه الغزوة منصورًا ظافرًا. وكان في تسيير ذلك الجيش نفع عظيم للإسلام والمسلمين .
ثالثاً: مبادرته صلى الله عليه وسلم لمعالجة الأمور بسرعة، وعدم التأخر في بيان ما يُحتاج إليه. يظهر ذلك في تصرف النبي صلى الله عليه وسلم عند سماعه كلامًا حول إمرة أسامة رضي الله عنه، وصعوده المنبر، وبيانه أهلية أسامة ، وأنه أهل لما أُسند إليه .
رابعاً: ويُستخلص من هذا البعث الكريم عِظَم ومدى المحبة التي كان الصحابة رضي الله عنهم يحملونها في قلوبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد تجلت هذه المحبة من خلال تريثهم في التحرك لملاقاة الروم عند اشتداد مرضه، وانتظارهم لما سيسفر عنه هذا الأمر .
خامساً: حكمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وموقفه الصلب في إنفاذ جيش أسامة ، رغم كل الصعاب والظروف التي ترافقت وتزامنت مع إرسال بعث أسامة إلى مشارف بلاد الشام لمواجهة الروم. فلم يلتفت أبو بكر لتلك الآراء والأقوال التي كانت تريد أن تثنيه عن المضي في إرسال جيش أسامة إلى الوجهة التي أرادها له رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه عندما أراد أن يبدي رأيًا في هذا، وثب عليه - وكان جالسًا - فأخذ بلحيته، وقال له: ( ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أنزعه ) .
لقد كان هذا البعث - كما ذكرنا - آخر البعوث المباركة التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يودع حياة الدعوة، وقبل أن يسلم راية الجهاد لصحابته الكرام، وقبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، بعد أن كان قد أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح للأمة غاية النصح، وجاهد في الله حق الجهاد .
التعليقات