مع فشو الجهل، وتسويد الناس وفق معايير غير علمية ولا شرعية، برز مجال الخطابة كواحد من المجالات التي مسها الضعف، حتى صار ذلك ثابتا بين المسلمين، ومما يدل على ذلك، أن المسلمين صاروا يحتفون عبر الزمن ببعض الخطباء الذين ملأت أخبار فصاحتهم، وعلو شأنهم في البيان والبلاغة كل مكان، ولم يكن هذا الاحتفاء يشبه احتفاء العرب في القدم بميلاد خطيب مفّوه أو شاعر مبجّل، لما لهم من دور في قيادة الجموع وسياستها، بل إن الاحتفاء المعاصر ببعض الخطباء سببه ندرة الخطيب الراقي الموسوعي والمثقف والمؤثر، خاصة مع اتساع مساحة العالم الإسلامي، واقتراب عدد المسلمين من ألفي مليون مسلم.
لقد صار النقد الموجه للخطبة والخطباء أمرا شائعا وراسخا في الوعي الجمعي للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويعرف هذا كل من طاف بقاع العالم الإسلامي، حيث تتكرر الشكوى من انهيار الخطابة، وابتعادها عن أداء الدور المنوط بها، فالخطابة هي في النهاية وسيلة ذات أبعاد وأهداف متنوعة، نحصرها في ما يلي على سبيل المثال لا الحصر.
1-الخطابة تهدف إلى تذكير المسلمين أسبوعيا بغايات وجودهم في الحياة الدنيا.
2- إعادة ربط المسلمين بالعبادات والفرائض وشعائر الإسلام الكبرى، وهذا من أعظم أهداف الخطبة، وقد أصيب هذا الهدف في مقتل، ففئة من الخطباء قد أهملوا الحديث فيه؛ ولأسباب غير موضوعية، فصار المسلم لا يسمع خطبة عن الزكاة، أو الحجاب، أو الكبائر، أو الحج، أو الصوم، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا نادرا، حتى شاع الجهل بأركان الإسلام والشعائر الكبرى، ولا شك أن شيوع الجهل بالمعلوم من الدين بالضرورة، أمر له عواقب وخيمة خطيرة في حياة المسلمين، وهذا ما يفسر ضعف التزام المسلمين بالكثير من العبادات، وفئة من الخطباء تتحدث في هذه المواضيع، ولكن على خجل، فلا تحرك فكرا، ولا توقظ ضميرا، ولا تقوي بصيرة، ولا تنعش الإيمان، أما الفئة الثالثة، فلم تراعي معاني التجديد، عند الحديث في هذه المواضيع، بل راحت تعتقد أن التجديد في هذا الجانب هو الإتيان فقط بأساليب جديدة في التناول والعرض، بينما التجديد الحقيقي هو الذي يعود بالعبادات إلى معانيها الحقيقية التي جاء بها الإسلام، وكما تديّن بها السلف الصالح، بعيدا عن ما التصق بالإسلام من خرافات وأساطير وتشويه وبدع، ولو جُدّد هذا الميدان، لحصل الوثبة الإيمانية والحضارية في دنيا المسلمين.
3-الخطبة تذكير للمسلمين بمعاني المسؤولية؛ ولهذا أوجب الله -تعالى- على المسلمين جميعا، حضورها، يستوي في ذلك الراعي والرعية، وتسقط كل الفوارق في ذلك، والناظر في أحوال الخطبة والعلاقة بينها وبين هذا المقصد يجد أنه يكاد لا يظهر في الخطبة، وفي واقع الخطيب والجمهور.
4- صياغة التصورات، وهذا أنبل هدف، فالصراع الفكري بين المسلم وغيره لم يتوقف يوما، ولا يزال مستمرا وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فهل نبالغ إن قلنا أن الغزو الثقافي والفكري قد نجح في ضربنا في عقر دارنا وعمق أفكارنا؛ لأننا نستقبل مئات الملايين من المسلمين كل جمعة دون أن نصحح تصوراتهم وفق ما جاء به الإسلام الحنيف؟
5- تشكيل الوجدان، العاطفة والمشاعر لا تقل أهمية عن العقل في التعاطي والتفاعل مع أحداث الحياة، ومن الأهداف التي وضعت الخطبة لأجلها، تشكيل وجدان المسلمين نحو مختلف قضايا الحياة، خاصة في القضايا السياسية والاجتماعية، وهذا ما لا نراه حاضرا في الخطبة في ربوع العالم الإسلامي عامة، والعالم العربي خاصة، حيث صارت الفضائيات بما فيها من برامج ومسلسلات وأفلام وحصص تشكل وجدان المسلمين، وصارت الرياضة تشكل الوجدان المجتمعي، حتى خربته تخريبا جعل المسلمين يتقاتلون لأجل لعبة ومباراة في كرة القدم، بل انتصارا لمن يخالفونهم في الدين ويعادونهم، ولم يعد من المستغرب قيام خصومة كبرى بين شعبين لأجل لعبة أو مباراة كرة، بعد أن تم اختطاف صناعة الوجدان من الخطباء لصالح من لا صلة لهم بالواقع ولا يرون المستقبل.
6- بناء المواقف، وهذا من الأهداف التي يتفق كل المسلمين على أن الخطابة لم تعد تصنع مواقف المسلمين، ولعله بالمثال يتضح المقال، فالخطيب الذي يرى جراح المسلمين في بلد مسلم كسوريا، ويرى القتل والتهجير المستمر لسبع سنوات، ثم لا يحصى له أهل الحي خطبة واحدة، فهذا مما يوضح انهيار هذا الهدف، والدليل على أن مواقف المسلمين تأثرت تأثرا شديدا بغياب هذا الهدف، أن المسلمين اليوم أبعد الناس عن التفاعل مع قضاياهم؛ فحتى القنوت في النوازل، وهو موقف علمه الإسلام للمؤمنين، حتى يجعلهم دائمي الصلة بإخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، هذا القنوت هو أحد أبرز المواقف التي فشلت الخطابة اليوم في صناعتها، فكانت النتيجة تعمق جراح المسلمين.
ولعل الملاحظ أيضا –دائما في صناعة المواقف- أن المسلمين وقد هجروا في مختلف أصقاع الأرض خاصة في العالم العربي، لم يجدوا الموقف الذي وجده المهاجرون حين هجرتهم إلى المدينة النبوية، حيث استقبلهم الأنصار وقاسموهم الأهل والمال والديار، فما الذي يجعل الملايين من المسلمين هائمين على وجوههم، تتقاذفهم الأمواج، وشرط الحدود وجماركها، لو كان الخطباء أحرارا وصناعا للمواقف؟.
7-تصحيح الواقع، يقر الإسلام مبدأ هاما، وهو مبدأ التغيير والتقرير، وقد صاغه الطاهر ابن عاشور –رحمه الله- فقال: “الإسلام تقرير وتغيير”، فهو يقر الصالح من الأخلاق، ويقر الصالح من التحالفات والمعاهدات، كما أقرّ حلف الفضول، وأقر العديد من المكارم التي بقيت عند العرب، ولم يهدم كل ما عندهم، وهذا مبدأ عظيم، أما بدأ التغيير، فهو يغيّر الفاسد من العادات، والسيء من الأخلاق، ويبدل حتى الأسماء التي فيها تشاؤم وطيرة، ويغير الأحكام الجائرة ويبطلها، فأبطل ربا الجاهلية، وألغى النسيء، وهدم مآثر الجاهلية، وهذه هي رسالة الإسلام باختصار أينما حل وكان، تقرير للصالح من الأعمال والعادات والأحوال، وتغيير للباطل من الأحكام، والجائر من العادات، والحقيقة أن هذا المبدأ من أجل وأعزّ ما يفتخر به الخطيب ويزداد به شرفا، فهو في مسجده وحيه وقريته ومدينته ودولته صالحُ مصلحٌ ومغير نافع، ما ظهر خير يوافق شرع رب العالمين إلا أقرّه، وبت فيه، وبين للناس حكمه على ضوء شريعة الإسلام العظيمة، وما ظهر فساد في المجتمع الصغير أو الكبير إلا سارع لجمع النّاس وخطب فيهم، ليبدد الغبش الذي التصق بالحقائق، ويثبت النّفوس على المكارم، ويزيل عن الفهوم ما علق بها من شبهات، يحارب العادات الأجنبية الفاسدة، ولا يتسامح مع العادات المحلية الراكدة، وإن داهم الواقع غازٍ مجرم دعا النّاس إلى تغيير واقعهم والحفاظ على وحدتهم لدفع عدوهم، ولعمري إنّ هذا من أجل أهداف الخطابة في الإسلام لمن استقرأ تاريخها الطويل، فأين الخطابة والخطباء اليوم من هذا المقصد الجديد، الذي تقوم عليه رسالة الإسلام؟
ولأن الحديث هنا عن المهارة في الخطابة، فإننا سنلتزم الحديث عن المهارة بعيدا عن المواضيع الأخرى ذات الصلة بالخطابة.
ونقصد بالمهارة هنا: مهارة صناعة الخطبة وإدارتها، حيث سيكون الحديث في الورقات القادمة مفصلا أيما تفصيل؛ لنعود بالخطبة إلى أصولها، ومرابطها الأولى؛ حتى يظهر للمسلمين حقيقة الخطبة، ويظهر للخطباء حقيقة الضعف الذي تعيشه الخطبة في عصرنا هذا.
التعليقات