سرية بئر معونة
في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، وقعت حادثة لجمع من خيار الصحابة وقرائهم رضي الله عنهم وأرضاهم، لقوا فيها ربهم، وهم ثابتون على دينهم، موقنون بوعد ربهم لهم.
إنهم جمعٌ من الصحابة بلغوا سبعين صحابيًّا، كانوا من زهَّادِ الصحابة، ومن خيار المسلمين وفضلائهم، كان الصحابة يسمونهم القراء؛ لكثرةِ قراءتهم للقرآن، وتهجدهم به في الليل.
كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، ويضعون الماء في المسجد للمسلمين، ويطعمون فقراء الصحابة من طيب كسبهم؛ جرت عليهم محنةٌ عظيمة، وابتلاء كبير، وغدر بهم المشركون، فثبتوا على دينهم حتى لقوا الله تعالى غير مبدلين ولا مغيرين.
وملخصُ خبرهم: أن أبا براء عامر بن مالك المدعو "ملاعب الأسنَّة" قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم ولم يَبْعُد، وقال: "يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجدٍ رجوت أن يستجيبوا لك، ويتبعوا أمرك"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أخاف عليهم أهل نجد)) فقال: "أنا جارٌ لهم أن يعرض لهم أحد"، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين من الأنصار شببةً يسمون القُرَّاء، وأمَّر عليهم المنذرَ بن عمرو الساعدي، فلما نزلوا ببئر معونة عسكروا بها، وسَرَّحَوا ظهرهم، وبعثوا حرامَ بن ملحان رضي الله عنه بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّ الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعن حرامًا بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه، ورأى الدم، قال حرام: "فزتُ ورب الكعبة".
ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَّية ورِعْلٌ وذكوان، فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعبَ بن زيد بن النجار فإنه ارتُثَّ بين القتلى - أي حمل من أرض المعركة جريحًا-، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضَمْري والمنذر بن عقبة بن عامر في سَرْح المسلمين، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذرُ فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأُسر عمرو بن أمية الضَمْري، فلما أَخْبَرَ أنه من مضر جزَّ ابن الطفيل ناصيته، وأعتقه عن رقبةٍ كانت على أمه.
وقد وقعت كرامة لأحد القتلى رآها عدوّ الله عامر بن الطفيل فقد جاء في صحيح البخاري ان ابن الطفيل لما أسر عمرو بن أمية الضَّمْري أشار إلى أحد القتلى فقال: "من هذا؟"، فقال له عمرو بن أمية: "هذا عامر بن فُهيرة"، فقال: "لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع"، وجاء في رواية أخرى أن قاتله أسلم وقال: "دعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فُهيرة".
وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم لمقتلهم حتى قال أنس رضي الله عنه: "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَدَ على شيء ما وجد عليهم"؛ فقد كان عددهم يُوازِي عدد قتلى أحد، إضافة إلى أنهم من القرَّاء العبَّاد، وقد قتلوا غدرًا وغيلة؛ ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قَتَلَتهم شهرًا كاملاً؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبرُ مقتل أصحابه وغدر بني سليم بهم قنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياءٍ من أحياء العرب، على رعْل وذكوانَ وعُصَّيه وبني لحيان".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا مُتتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو عليهم، على حي من بني سليم، على رعل وذكوان وعصيَّة، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه"؛ رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وقد أخذ العُلماء من ذلك مشروعية القنوتِ في الصلوات الخمس في النازلة العظيمة تنزل بالمسلمين، كما أخذوا مشروعية الدعاء على المشركين المحاربين.
التعليقات