ماذا بعد الحج؟ ماجد البنكاني
إنَّ الحمدَ لله نحمَدُه ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يُضلل فلا هادي له .
وأشهد أنّ لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 102]
وبعد : أخي الحاج الكريم ثبتني الله وإياك على الحق ، بعد أن منَّ الله عليك بنعمة حج بيته الكريم.
وأنت تودع البيت الحرام، ما الذي استشعرته وأنت تتهيأ لمغادرة تلك الربوعالطاهرة؟
لا شكّ أن وداع تلك المعالم الطاهرة شديد على النفس، وخاصة تلك النفوس التي أخلصت لمولاها تعالى وهي تؤدي مناسك الحج.
تذكر وأنت تودع البيت المعظم أنك كنت في أيام طاعات ومواسم قربات وماأسعدها من لحظات، ولكن أخي هل تنقطع الطاعات إذا رجعت إلى وطنك.
افتح صفحة جديدة في حياتك، لتنال صفات أهل الحج المبرور ، فقد قال الحسن البصري رحمه الله: "الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهداً في الدنيا راغباً فيالآخرة".
وقال بعضهم: من علامات الحج المبرور إن ذلك يظهر بآخره فإن رجع خيراً مما كان عرف أنه مبرور.
واعلم أخي الحاج إن دوامك على الطاعات هو مفتاح فلاحك يوم العرض الأكبر .
حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "أدومه وإن قلّ".رواه مسلم.
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته.
فمن علامات الصلاح المداومة على الطاعات وإن قلّت، وهي عليك أن تشبث على عمل صالح فتلزمه وتداوم عليه، ولا تستحقر ذلك عسى الله تعالى أن يكتب لك حسن الختام، ويحفظ لك بركة حجك.
والنفس بطبعها تحب الكسل والراحة، فلا تعطها مناها حتى لا يجد الشيطان إليك سبيلاً ، قال الحسن البصري: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك مداوماً ملّك ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمعفيك.
ولابدّ لك من الصبر على الطاعات وأنت تواصل مشوار حياتك الجديدة ، واصبر أيضاً عن المعاصي، فإن الصبر على الطاعات وعن المعاصي من أرفع درجاتالصبر ، قال ميمون بن مهران: الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية.
وعن الحريث بن قيس قال: إذا أردت أمراً من الخير فلا تؤخره للغد ، وإذا كنت في أمر الدنيا فتوخ، وإذا كنت في الصلاة فقال لك الشيطان أنك ترائى، فزدها طولاً.
فالمبادرة المبادرة ولا تقولن سوف أو سأفعل.
وجاهد نفسك، ولا تضعف كما جاهدتها أيام كنت بتلك الأماكن الطاهرة،
قال الله تعالى: ((وَالَّذيِنَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْدينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنِّ اللهَ لَمَعَ المُحْسنينَ))العنكبوت.
وقال تعالى: ((فَأَمَّا مَن طَغَىَ وَآثَرَ الحَيَاَةَ الدُنيَا (38) فَإنَ الجَحيمَ هي المَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَاف مَقَامَ رَبّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الَّهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّة هيَ المَأْوَى)).النازعات.
ولا يفوتنك أن تكثر من دعاء الله تعالى أن يعينك على الثبات في الطاعات، فأكثر أخي من الابتهال والتوجه إلى الله، أن يسدد خطواتك وأنت تسلك سبيل دينه الحق، وقد كان النبي الأكرم يكثر من سؤال ربه أن يثبته على دينه، سئلت أم سلمة رضي الله عنها عن أكثر دعائه فقالت: "كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنه ليس آدمي إلا قلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ". سلسلة الأحاديث الصحيحة2091.
وفي رواية كان يقول"يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك". صحيح ابن ماجه الألباني.
وإياك أن تنظر إلى نفسك نظرة أهل الغرور، الذين إذا عملوا القليل من الطاعات، رأوا أنفسهم كأنهم أفضل أهل الأرض.
ولكن أخي انظر إلى نفسك دائماً بعين التقصير،فإنك مهما عملت من الصالحات فلن تؤدي شكر الله تعالى في أقل نعمه عليك، وإذا أردت أخي أن تعرف حال الصالحين بعد فعلهم للصالحات فتأمل معي هذه المواقف لتعلم أن عباد الله المخلصين يقرون دائماً بالتقصير.
فهذا رسولنا يعلمنا كيف تكون عبادة الله فكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سألوه قال أفلا أكون عبداً شكوراً؟. رواه البخاري.
وقال والله إنّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة. رواهالبخاري.
أرأيت أخي إذا كان النبي وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو يقومبعبادة مولاه تعالى بهذه الصورة، أيحق لواحد بعد هذا أن يقول: إني عبدت الله حقالعبادة؟!!.
وهذا الصديق أبو بكر بعد توليه الخلافة خطب خطبته المشهورة أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم. قال الحسن البصري بلى والله إنه لخيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه.
ويحكي لنا محمد بن عطاء قال: كنت جالساً مع أبي بكر فرأى طائراً فقال: طوبى لك يا طائر تأكل في هذا الشجر ثم تبعر ثم لا تكون شيئاً وليس عليك حساب، وددت أني مكانك. فقلت له: أتقول هذا وأنت صديق رسول الله؟
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب يقول لو نادى منادٍ يوم القيامة: أيها الناس أدخلوا الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد.
أخي: أهضم نفسك حقها تستقم لك، وإن نظرت إليها بنظرة الكمال، قصّرت بك، حتى يدخلك النقص في أداء الواجبات.
أخي الحاج أختي الحاجة.. إياكم أن تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد تعبها وكدها وسهرها الليالي الطوال، فاحذروا أن تنقضوا العهد، وتخلفوا الوعد؛ وذاك بأنْ تعصوا الله وتقارفوا الذنوب، بعد أن أكرمك بقربه وزيارة بيته، وأداء فرضه، فتزل قدمٌ بعد ثوبتها والعياذ بالله
قال الفضيل بن عياض رحمه الله لبعض من حجّ: يا هذا؛ إنَّ الله تعالى يختم على عمل الحاجّ بطابع من نور؛ فإياك أن تفك ذلك الختم بمعصية الله عز وجل
واعلم أنّ المعاصي تُنغِّص الحياة وتكدِّرها، وتُقسي القلب وتشتته، وتُذهب بهاء الوجه ونوره، وتمحق بركة العمر والرزق، وتفقد صاحبها لذة الطاعة والأُنس بالله
قال ابن الجوزي رحمه الله على العاقل أن يحذرَ مغبّة المعاصي، فإنّ نارها تحت الرماد صيد الخاطر .
والحذر الحذر من ذنوب الخلوات فإنها مصيرها شؤم، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله خاتمة السوء؛ تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس
وحتى نحفظ حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً؛ لا بد من المحافظة على الفرائض والواجبات، وترك المعاصي والذنوب، وحفظ اللسان من الغيبة والنّميمة والكذب، والمجادلة والمخاصمة، وغضّ البصر عن الحرام، فليس كل من حجّ حجّ، ولا كل من اعتمر اعتمر، فكم من أناس ليس لهم نصيب من حجّهم وعمرتهم سوى اسم حاج أو معتمر، ومن تأمل أحوال القوم أيقن ذلك
قال مجاهد لعبد الله بن عمر رحمه الله وقد دخلت القوافل ما أكثر الحاج! فقال ما أقلهم! ولكن قل ما أكثر الركب . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند دفع النّاس من عرفة ليس السابق اليومَ من سبق به بعيره؛ إنما السابق من غـفر له. أي: إنّ الأمر ليس بالكثرة؛ ولكن بالقـبُول .
وبهذا تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأرجو الله أن تكونوا قد انتفعتم به، وأن تعملوا به.وأن يعم به النفع .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد إن لا إله ألا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
التعليقات