ماذا يعلمنا الحج ؟
أمورا كثيرة، منها:
أوَّلاً: تحقيق التوحيد، ففي القرآن سورة سُمِّيت بـ"سورة الحج"، جلُّها تتحدَّث عن التوحيد، والتحذير من الشِّرك بكافَّة صُوَرِه وأشكاله..
ومما جاء في هذه السورة الكريمة قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]، وفيها قولُه تعالى: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، وفيها قوله: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: 34].
الحجُّ هو خاصَّة الحنفيَّة، وسرُّ كلمة التَّوحيد؛ قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وأمَّا الحجُّ، فشأنٌ آخَر، لا يدركه إلاَّ الحُنَفاء الذين ضربوا في المحبَّة بسهمٍ، وشأنه أجَلُّ من أن تحيط به العبارة، وهو خاصَّة هذا الدين الحنيف، حتَّى قيل في قوله تعالى: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ﴾ [الحج: 31]؛ أيْ: حُجَّاجًا، وجعل الله بيته الحرامَ قيامًا للنَّاس، فهو عمود العالَم الذي عليه بناؤه، فلو ترك النَّاس كلُّهم الحجَّ سنةً، لَخرَّت السماء على الأرض؛ هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس، فالبيت الحرام قيامُ العالم، فلا يزال قيامًا ما زال هذا البيت محجوجًا، فالحجُّ هو خاصَّة الحنيفة، ومعونة الصَّلاة، وسِرُّ قول العبد: "لا إله إلا الله"؛ فإنه مؤسَّس على التوحيد المَحْض، والمحبَّة الخالصة"[4].
ولِما للتَّوحيد من أهمية عظيمة، ولِما للشِّرك من أخطار جسيمة؛ فقد استغلَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - "حجَّة الوداع" في الحثِّ على تحقيق التوحيد، والتحذير من الشِّرك بأقواله وأفعاله؛ كما تدلُّ على ذلك عدَّةُ مواقف؛ منها:
1 – التَّلبية: وهي شعار الحجِّ - فقد وحَّد اللهَ فيها، ونفى عنه الشريك، فقال: ((لبَّيْك اللهم لبَّيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك))[5].
2 - الدُّعاء، كما في قوله: ((خير الدُّعاء دعاء يوم عرفات، وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير))[6].
3 - الطَّواف والسعي؛ كما في حديث جابرٍ الطويل، وفيه: "فبدَأ بالصَّفا، فرَقِي عليه حتَّى رأى البيت، فاستقبل القِبلة، فوحَّد الله، وكبَّرَه، وقال: ((لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، لا إله إلاَّ الله وحده...)) قال مثلَ هذا ثلاث مرَّات، حتَّى أتى المروة، ففعل على المروةِ كما فعل على الصَّفا..."[7].
ثانيًا: تجريد النية لله، وإخلاص العمل له وحده: فقد فرضَ الحجَّ على عباده وأرشدهم إلى تجريد النِّية، وإخلاص العمل له وحده؛ فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، ففي هذه الآيةِ الكريمة: "الأمرُ بإخلاصهما - الحجِّ والعمرة - لله تعالى"[8].
فيقصد العبدُ بحجِّه وجْهَ الله ورضوانَه، ولا يقصد به رياءً، ولا سُمعة، ولا مباهاة، ولا فخرًا؛ فهذا إمام المخلصين - عليه الصَّلاة والسَّلام - لَمَّا عزَم على الحجِّ دعا ربَّه، قال: ((اللهم حجَّة، لا رياء فيها ولا سُمعة))[9]، وما ذلك إلاَّ ليرشدنا إلى الإخلاص، ويُحذِّرنا من مفسداته؛ ولأنَّ الإخلاص في الحجِّ عزيز؛ فقد رُوِي أنَّ رجلاً قال لابن عمر - رضي الله عنهما -: "ما أكثر الحاجَّ"؟ فقال ابن عمر: "ما أقَلَّهم!"، ثم رأى رجلاً على بعير على رحل رث خطامه حبال، فقال: "لعلَّ هذا"، وقال شُريح: "الحاجُّ قليلٌ والرُّكبان كثير، ما أكثرَ مَن يعمل الخير، ولكن ما أقلَّ الذين يريدون وجهه!".
خَلِيلَيَّ قُطَّاعُ الفَيَافِي إِلَى الْحِمَى --- كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيلُ[10]
ثالثًا: الحج المتابعة: وذلك بأنْ يتعبَّد العبد لربِّه بما شرَعه له في كتابه وفي سُنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا بما يهواه أو يَستحسنه؛ لذلك نرى أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حجته أكَّد على أهمية المتابعة، فقال مخاطِبًا الصحابة: ((لتأخذوا مناسِكَكم؛ فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعد حجتي هذه))[11]، وهو خِطابٌ لجميع الأمة؛ وكأنَّه يقول: تعلَّموا كيفية الحجِّ؛ فأحرِموا من الميقات كما أحرَمْتُ، ولَبُّوا كما لبَّيت، وطوفوا باليت سبعًا كما طُفْتُ، وقِفُوا في عرفات كما وقَفْتُ، وهكذا افعلوا في جميع مناسك الحجِّ، فأدُّوا مناسك الحجِّ كاملةً بشروطه وأركانه، وواجباته وسُنَنه.
وحذَّرهم - عليه الصَّلاة والسَّلام - من اتِّباع الهوى، والابتداع في الدِّين، فقال وهو على ناقته بعرفات: ((ألاَ وإنِّي فرَطُكم على الحوض، وأُكاثر بكم الأُمم، فلا تُسوِّدوا وجهي، ألاَ وإنِّي مستنقِذٌ أُناسًا، ومستنقَذٌ منِّي أناس، فأقول: يا رب، أُصَيحابي، فيقول: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك))[12].
وقد وعى الصَّحابةُ هذا الدَّرس، وطبَّقوه في حياتهم كلِّها؛ فهذا عمر بن الخطاب يُتابع النبِيَّ في كلِّ شيء؛ حتَّى إنه لَمَّا أتى إلى الحجر الأسود قبَّله كما قبَّله رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: "إنِّي لأَعْلم أنَّك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقبِّلك ما قبَّلتُك"[13]، وقد استنبطَ العلماء من هذا الأثر فوائدَ جمَّة؛ منها: "التسليم للشَّارع في أمور الدِّين، وحسن الاتِّباع فيما لم يُكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتِّباع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يفعله ولو لم تُعلم الحكمة فيه"[14]
وعبدالله بن عمر تابَع رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كل شيء، وفعل كما فعل، ولما استلم الحجر الأسود أكَّد على اتِّباعه للسُّنة بقوله: "اللَّهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، واتِّباعًا لِسُنَّة نبيِّك"[15].
فمتابعة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - نجاة، ومخالفتُه فِتنة، فقد رُوي أنَّ رجلاً جاء إلى الإمام مالكِ بن أنس، فقال له: "يا أبا عبدالله! من أين أُحْرِم؟ قال: من ذي الحُلَيفة، من حيث أحرمَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنِّي أريد أن أُحرم من المسجد، فقال: لا تفعل، قال: فإنِّي أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل؛ فإنِّي أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة هذه؟! إنما هي أميال أَزِيدها، قال: "وأي فتنة أعظم من أن ترى أنَّك سبَقْتَ إلى فضيلةٍ قَصُر عنها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟! إني سمعتُ الله يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]"[16].
فللإخلاص والمُتابعة أهميَّة عظيمة؛ فقَبول الأعمال الصَّالحة ورَدُّها متوقِّف عليهما، فإذا وُجِدا قُبِلَت، وإذا فُقدا - كِلاهما، أو أحدهما - رُدَّت؛ لقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]، قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "ولا يكون العمل حسَنًا حتَّى يكون خالِصًا لله - عزَّ وجلَّ - على شريعة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمتَى فقَد العملُ واحِدًا من هذين الشَّرطين، حَبِط وبَطَل"[17].
وقال الفضيلُ بن عياضٍ في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: 2]، قال: "أخْلَصه وأصوبَه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلَصُه وأصوبه؟ قال: "إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا، لم يُقبل، حتَّى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصَّواب: أن يكون على السُّنة"[18].
وقال حافظٌ الحكمي - رحمه الله -:
شَرْطُ قَبُولِ السَّعْيِ أَنْ يَجْتَمِعَا* فِيهِ إِصَابَةٌ وَإِخْلاَصٌ مَعَا
لِلَّهِ رَبِّ العَرْشِ لاَ سِوَاهُ * مُوَافِق الشَّرْعِ الَّذِي ارْتَضَاهُ
وَكُلُّ مَا خَالَفَ لِلوَحْيَيْنِ * فَإِنَّهُ رَدٌّ بِغَيْرِ مَيْنِ [19]
رابعًا: ترسيخ عقيدة الولاء والبَراء: فذلك مقصدٌ من مقاصد الدِّين الكُلِّية، وأصلٌ من أصوله العظيمة، وواجبٌ من واجباته الحتميَّة، وخاصة في الشَّعائر والمناسك؛ وذلك ما حقَّقه - عليه الصَّلاة والسَّلام - في حجَّتِه؛ فقَد وافق أهل التَّوحيد والإيمان، فسار - عليه الصَّلاة والسَّلام - في حجَّته على سنَّة إمام الموحِّدين، خليلِ الرَّحمن إبراهيم - عليه السَّلام - وخالف أهل الشِّرك والأوثان؛ حتَّى إنَّه وضع لأصحابه - ولأمَّتِه - قاعدةً عظمية في حجته، فقال: ((هدْيُنا مخالِف هَدْيهم))[20].
وخالَفَ أهل الشِّرك والأوثان في عدة أمور، منها:
1 - التَّلبية: فقد كانوا يَقولون: "إلاَّ شريكًا هو لك، تملِكُه وما ملَك"، فخالفَهم في ذلك، فقال موحِّدًا لله: ((لبَّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك)).
2 - إعمار عائشة في ذي الحجَّة: فقد كان المشركون لا يرَوْن حِلَّ العُمرة إلاَّ إذا دخل صفَر؛ فخالفَهم في ذلك فأعمرَها في ذي الحجَّة؛ كما قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "والله ما أَعمرَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عائشةَ في ذي الحجة إلاَّ لِيَقطع بذلك أمر أهل الشِّرك؛ فإنَّ هذا الحيَّ من قريش، ومَن دان دينَهم، كانوا يقولون: "إذا عفا الوبَر، وبرأ الدَّبَر، ودخل صفَر، فقد حلَّت العمرة لمن اعتمَر، فكانوا يُحرِّمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجَّة والمحرَّم"[21].
3 - الإفاضة من عرفات بعد مغيب الشَّمس، ومن مزدَلِفة قبل طُلوعها: فقد كان المُشرِكون يُفيضون من عرَفات قبل المغيب، ومن مزدلفة بعد الشُّروق؛ فخالفهم في ذلك؛ كما جاء في حديث المِسْوَر بن مَخْرَمة - رضي الله عنه - قال: "خطَبَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعرفات، فحَمِد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعد، فإنَّ أهل الشِّرك والأوثان كانوا يَدْفعون مِن هاهنا عند غروب الشمس، حين تكون الشمسُ على رؤوس الجبال مثل عمائم الرِّجال على رؤوسها، فهَدْيُنا مخالفٌ لِهَديهم، وكانوا يَدْفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشَّمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرِّجال على رؤوسها، فهَدْينا مخالفٌ لِهديهم"[22].
خامسًا: الاستجابة لله ولرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يتجلَّى ذلك من خلال استجابة إبراهيم الخليل - عليه السَّلام - لأمر الله له بأن يُنادي في النَّاس بالحجِّ؛ حيث قال الله له: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].
قال ابن سعدي - رحمه الله -: "وقد فعل الخليلُ - عليه السَّلام - ثم من بعده ابنه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعَيا النَّاس إلى حجِّ هذا البيت، وأبدَيَا في ذلك وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به؛ أتاه النَّاس رجالاً ورُكبانًا من مشارق الأرض ومغاربِها"[23].
ولَم ولن يزال النَّاس يستجيبون لهذا النِّداء الربَّاني، فيأتون بيتَ الله الحرام من كلِّ فجٍّ عميق؛ رجالاً وركبانًا، فُرادى وجماعات، وعندما يَصِلون إلى الميقات يمتَثِلون أمر الله، فيَخْلعون ملابِسَهم المَخِيطة، ويرتدون رداءً وإزارًا، ثم يلبُّون كما لبَّى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويَحْرُم عليهم تجاوزُ الميقات بدون إحرام؛ وبعد أن يُحْرِموا يَحْرم عليهم فعلُ أيِّ شيء يتنافى مع الإحرام، وهو ما يُطلِق عليه الفقهاءُ "محظورات الإحرام"، فيمتنعون عن ارتكاب تلك المَحْظورات؛ استجابةً لأمر الله ورسوله.
سادسًا: تعظيم شعائر الله، واجتناب حرماته: فذلك مما يُربِّيه الحجُّ في قلب العبد؛ فقد قال تعالى في سورة الحج: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].
وشعائر الله: "أعلام الدِّين الظاهرة، ومنها المناسك كلُّها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158]، ومنها: الهَدايا والقُربان للبيت... فتعظيم شعائر الله صادرٌ من تَقْوى القلوب، فالمُعَظِّم لها يبرهن على تَقْواه وصحَّة إيمانه؛ لأنَّ تعظيمَها تابِعٌ لتعظيم الله وإجلالِه"[24].
وحرماتُه: "كلُّ ما له حرمة، وأمر باحترامه؛ بعبادةٍ، أو غيرها؛ كالمناسك كلِّها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات الَّتي أمر الله العبادَ بالقيام بها، فتعظيمُها إجلالها بالقلب، ومحبَّتُها، وتكميل العبوديَّة فيها، غيرَ مُتهاوِن، ولا متكاسل، ولا متثاقل"[25].
والعبد يحطُّ رحاله في البقاع المقدَّسة، يدعوه ذلك إلى تعظيم شعائر الله، واجتناب حرماته؛ فعلى سبيل المثال عندَما ينظر إلى الكعبة، ويتأمَّل فيما حَباها الله من الجمال والهيبة، يدعوه ذلك إلى تعظيم شعائر الله، واجتناب حرماته؛ كما أشار إلى ذلك - عليه الصَّلاة والسَّلام - حينما خاطب الكعبةَ وهو يطوف بها: ((ما أطيبَكِ وأطيَبَ ريحَك، ما أعظمَك وأعظم حرمتك، والذي نفْسُ محمَّدٍ بيده، لَحُرمة المؤمن أعظمُ عند الله حرمةً منك))[26]، فدِماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم أعظَمُ حرمةً من الكعبة؛ كما أكَّد على ذلك - عليه الصَّلاة والسَّلام - في أكثرَ مِن موقف في حجَّته؛ فقال: ((إنَّ دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))[27].
وإذا دخل العبدُ إلى تلك البقاع المقدَّسة، حرم عليه أن يسفك فيها دمًا كان مباحًا له قبل ذلك، أو يصطاد بها صيدًا، أو يلتقط لُقَطتَها إلاَّ لِمُنشد، أو يقطع فيها شجرة، وما أشبه ذلك.
سابعًا: تحقيق التقوى: فقد شرع الله الشرائع كلَّها لهذه الغاية؛ فعلى سبيل المثال شرع الله الصيام لذلك، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وأيضًا شرَع الله الحجَّ لذلك؛ فقد ذُكِرَت التَّقوى في آيات الحجِّ في عدَّة مواضع؛ كما في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾... ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 196]، وقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 203]، وقال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].
فخيرُ زادٍ يتزوَّد به العبد زاد التَّقوى؛ كما قال ابن رجب - رحمه الله -: "فما تزوَّد حاجٌّ ولا غيره أفضل من زاد التَّقوى، ولا دُعِي للحاجِّ عند توديعه بأفضلَ مِن التقوى، وقد رُوي أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودَّع غلامًا للحجِّ، فقال له: ((زوَّدَك الله التقوى))[28].
وعندما يُسافر العبد يدعو ربَّه بقوله: "اللَّهم إنَّا نسألك في سفَرِنا هذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِن العمل ما ترضى"[29].
فالتَّقوى: "زاد القلوب والأرواح؛ منه تَقْتات، وبه تتقوَّى وترفُّ وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنَّجاة، وأُولو الألباب هم أوَّل مَن يُدرك التوجيه إلى التَّقوى، وخير مَن ينتفع بهذا الزاد"[30].
تَزَوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّكَ رَاحِلٌ *** وَسَارِعْ إِلَى الْخَيْرَاتِ فِيمَنْ يُسَارِعُ
ثامنًا: مراقبة الله: فالعبد حينما يقوم بأداء مناسك الحجِّ يكون في غايةٍ من المُراقبة لله، فهو يراقب الله في إحرامه من الميقات، فلا يتجاوَز الميقات بدون إحرام، ويراقبه في الامتناع عن ارتكاب ما يخلُّ به من المحظورات، ويراقب الله في سعْيِه وطوافه، فلا يزيد فيهما ولا ينقص، ويراقب الله في الوقوف في عرفات، فيقف في الوقت المحدَّد للوقوف، ويحرص على أن يقف في داخل حدودها، لا في خارجها؛ لأنَّه يَعلم أنَّ الوقوف بعرفات رُكْن الحجِّ الأعظم؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحجُّ عرفات))[31].
وقد جاءت الإشارة إلى التحلِّي بالمراقبة في قوله تعالى في آيات الحجِّ: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾[البقرة: 197].
تاسعًا: الحج يعلنا الزهد في الدنيا: فسفر العبد من بيته، واصطحابُه لما يكفيه من المتاع، يدعوه إلى الزُّهد في الدنيا، وعدم التَّكاثر فيها؛ لأنه يعلم أنَّ هذه الدنيا عمَّا قريبٍ زائلةٌ، وأنه فيها كالغريب أو المسافر الذي يوشك أن يتركها وأن يُفارقها إلى غيرها؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كن في الدنيا كأنَّك غريب، أو عابر سبيل))[32].
وأيضًا خَلْعه لملابسه الرَّاقية - والتي قد تكون غالية الثَّمَن - عند إحرامه، وارتداؤه لرداءٍ وإزار يدعوه ذلك إلى الزهد، كما أنَّ أفضل الحُجَّاج الشُّعث الغُبْر، كما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول: ((إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يُباهي ملائكته عشيَّة عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتَوْنِي شُعثًا غبرًا))[33].
وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قام رجلٌ إلى النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: مَن الحاجُّ يا رسول الله؟ قال: ((الشَّعث التفل))[34].
عاشرًا: يذكُّرنا باليوم الآخر: فخروج العبد من بيته، ومفارقته لأهله وأقاربه، يُذكِّره بمفارقته لهم عند موته، وانتقاله من الحياة الدُّنيا إلى حياة البَرزخ، وتجرُّده من اللباس والزِّينة عند إحرامه من الميقات وارتداؤه لملابس الإحرام، يذكِّره بتجرُّده من ملابس الدنيا وزينتها، واستبدالِ الكفن بذلك، واجتماع الناس وكَثْرتهم وازدِحامهم في موقف عرفات، يذكِّره باجتماع العبَاد بين يدي ربِّ الأرباب لفصل الخطاب.
حادي عشر: يعلمنا الحج كيف نذوُّق حلاوة الذِّكر ولَذَّة المناجاة: فالذِّكر أول المقاصد التي أرادها الله من فريضة الحجِّ؛ كما في حديث أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنما جُعِل الطواف بالبيت، وبين الصَّفا والمروة، ورَمْي الجمار: لإقامة ذِكْر الله في الأرض))[35].
وإذا تأمَّلْنا في رحلة الحجِّ، فسنَجِد أنَّها من بدايتها إلى نهايتها كلها ذِكْرٌ لله - عزَّ وجلَّ - فالعبد يَذْكر الله في عشر ذي الحجَّة "الأيام المعلومات"؛ لقوله: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]، وجاء في حديث ابن عمر: ((ما من أيامٍ أعظم عند الله، ولا أحبّ إليه العملُ فيهنَّ من هذه الأيام العَشْر، فأكثِروا فيهنَّ من التكبير، والتهليل، والتحميد))[36].
ويَذْكره عند خروجه من بيته بأذكار الخروج من المَنْزل، ويذكُره عند ركوبه لراحلته بأذكار السَّفر، ويَذْكره عند إحرامه من الميقات بالتَّلبية، ويذكره في الطَّواف والسَّعي بالأذكار المشروعة فيهما، ويَذْكره عند صعوده إلى عرَفات، وعند وقوفِه فيها، فيناجيه، وينكسر بين يديه، ويتضرَّع بين يديه، ويسأله حاجته؛ فـ: ((خير الدُّعاء دعاء يوم عرفات، وخير ما قُلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))[37].
ويَذْكُره عند الإفاضة من عرَفاتٍ إلى مزدلفة، وعند المَشْعَر الحرام: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 198 - 199].
ويَذْكره عند فراغه من أداء المناسك: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200].
ويَذْكره في أيام التشريق: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203]، وقد جاء في الحديث: ((وإنَّ هذه الأيام أيَّامُ أكلٍ وشرب، وذِكْر الله - عزَّ وجلَّ -))[38].
وهو مع ذلك كلِّه يَقْضي جِلَّ وقتِه في فعل الخيرات، والدلالة عليها، وقراءة القرآن، والدُّعاء بالأدعية الجامعة لخير الدُّنيا والآخرة؛ كقوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
الثاني عشر: الصبر: فالحجُّ من أوَّله إلى آخره يقوم على الصَّبر؛ فحينما يخرج العبدُ من بيته قاصدًا بيت الله الحرام؛ لأداء مناسك يصبر ويُصابر، ويتحمَّل عناء السَّفر، وقيامه بمناسك الحجِّ، وشعائره تحتاج إلى صبر، والطَّواف والسعي، والتنقُّل بين المشاعر، والوقوف بعرفات يحتاج إلى صبر، والحاجُّ يخالط الناس ويصبر على أَذاهم، وذلك أفضل من الذي لا يُخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
الثالث عشر: التواضع: فقد حجَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو في غاية الذُّل والانكسار والتَّواضع لله، فتواضعَ في زاده وراحلته؛ فقد حجَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم، أو لا تساوي[39].
وحثَّ الناس على التحلِّي بالتواضع، وحذَّرهم مما يتنافى معه، فقال: ((يا أيُّها الناس: ألاَ إنَّ ربَّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجميٍّ على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتَّقْوى))[40]، فأَكْرَمُ الناس عِندَ اللهِ أَتْقاهم.
وكما أنَّ الناس اجتمعوا في صعيدٍ واحد، وقد اتفقوا على شعار واحد، ولباسٍ واحد؛ ويسألون ربًّا واحدًا؛ فذلك مما يحثُّ على التواضع.
الرابع عشر: الرِّفق: فالحُجَّاج يختلفون في أعمارهم، وفي أجناسهم، وفي قوَّتِهم وضعفهم، وإذا كان الشَّأن كذلك فينبغي على القويِّ أن يكون رفيقًا بالضعيف، وخاصة عند الدَّفع من مزدلفة؛ فقد سَمِع رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فقال: ((أيُّها الناس، عليكم بالسَّكينة؛ فإنَّ البِرَّ ليس بالإيضاع))[41]، وأيضًا الرِّفق عند الطواف، وعند رمي جمرة العقبة يوم العيد.
الخامس عشر: البَذْل والعطاء: فالنَّاس ليسوا على درجةٍ واحدة من الجِدَة والغِنَى، بل هم متفاوتون في ذلك، والحاجُّ قد يحتاج إلى أخيه، وقد تَنْزل به نازلةٌ في الحجِّ من مرضٍ، فيحتاج إلى علاج، أو تحلُّ به جائحة فتسرق نقوده، فيحتاج في بلد الغربة إلى مَن يعينه، ومن يقف بجانبه، وقد جاء في حديث جابرٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة)) قالوا: يا نبِيَّ الله، ما الحجُّ المبرور؟ قال: ((إطعام الطَّعام، وإفشاء السلام))[42].
وإذا تأمَّلنا في حال الصالحين السابقين، فسنجد أنَّهم كانوا يحرصون في الحجِّ على مُرافقة الصالحين من ذوي الحاجة؛ فهذا الإمام ابن المبارك كان: "إذا أراد الحجَّ مِن بلده، مرَّ وجمع أصحابَه، وقال: من يريد منكم الحجَّ؟ فيأخذ منهم نفقاتهم، فيضعها عنده في صندوق، ويقفل عليه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسعَ النَّفقة، ويُطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكَّة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعامًا، ثم جمعهم عليه، ودعا بالصُّندوق الذي فيه نفقاتهم، فردَّ إلى كلِّ واحد نفقته"[43].
السادس عشر: الابتعاد عن أذيَّة الآخرين، والتكبُّر عليهم، والبخل، والفسوق، والمُجادَلة بالباطل؛ لقوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، والجدال هو: "المُماراة والمنازعة والمخاصمة؛ لكونها تثير الشرَّ، وتوقع العداوة، والمقصود من الحجِّ: الذلُّ والانكسار لله، والتقرُّب إليه بما أمكن من القربات، والتَّنَزُّه عن مقارفة السيِّئات؛ فإنه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنَّة، وهذه الأشياء - الفُسوق والجِدال - وإن كانت ممنوعةً في كل زمان ومكان، فإنه يتغلَّظ المنع عنها في الحج"[44].
السابع عشر: الحج يذكر أمتنا بأنَّ لها تاريخًا مجيدًا، وسلفًا عظيمًا، ويربْطُها بذلك: فعندما يحطُّ الحاجُّ رحاله في تلك البقاع المقدَّسة، يتذكَّر مَن عاش في تلك البقاع، ومن سار فيها، يتذكَّر خليل الرحمن إبراهيم - عليه السَّلام - حينما وضع زوجتَه هاجرَ وابنَها الرضيع إسماعيلَ في صحراء مكَّة، وما حصل لهما من شدائد وابتلاءات، وما منَحَهما بعد ذلك من هبات وكرامات، ويتذكَّر إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان قواعد البيت الحرام، ويتذكَّر إبراهيم وهو ينادي في الناس جميعًا أن يحجُّوا إلى بيت الله الحرام، ويتذكَّر أيضًا خاتم النبيِّين - عليه الصَّلاة والسَّلام - في حجته الشهيرة مع عشرات الآلاف من أصحابه؛ وهو يمرُّ بأودية مكَّة وشِعابها، وهو يذكِّر الصحابة بمن سبقه من الأنبياء؛ كما في حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: سِرْنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين مكَّة والمدينة، فمرَرْنا بوادٍ فقال: ((أيُّ واد هذا؟)) فقالوا: وادي الأزرق، فقال: ((كأنِّي أنظر إلى موسى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكر من لونه وشعره شيئًا لم يحفظه داود - واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي))، قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنيَّة، فقال: ((أي ثنية هذه؟))، قالوا: هرشى - أو لفت - فقال: ((كأنِّي أنظر إلى يونس على ناقةٍ حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته ليف خلبة، مارًّا بهذا الوادي ملبيًا))[45].
ويتذكَّر أيضا الأوامر والزَّواجر والتوجيهات والوصايا التي أوصى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بها أصحابَه، ويستحضر ذلك في كلِّ زمان ومكان يمرُّ به، فيفعل فيه ما فعله - عليه الصَّلاة والسَّلام.
وعندما يذهب إلى مسجده في المدينة، يصلِّي ركعتين، ثم يسلِّم عليه، وعلى صاحِبَيه أبي بكرٍ وعمرَ، ثم يزور مسجد قباء، ويصلِّي فيه ركعتَيْن، وله أن يزور قبورَ الصَّحابة في البقيع؛ فذلك مما يذكر الأمَّة بتاريخ أولئك الأجلاَّء التي بذَلوا أنفسَهم وأموالهم رخيصةً في سبيل نُصرة دين الله، فيذكرهم بخير، ويترضى عنهم جميعًا.
الثامن عشر: الحج يعمق فينا الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية: فالحُجَّاج يجتمعون على اختلافٍ بينهم في اللُّغة والجنس والعِرْق واللَّون والوطن، في مكانٍ واحد، وزمان واحد، ومَظْهَر واحد، يسألون ربًّا واحدًا، ويتَّجِهون إلى قبلةٍ واحدة، ولغايةٍ واحدة؛ فذلك مما يعمِّق الأخوَّة الإيمانيَّة في نفوسهم، ويكون مَدْعاة لهم إلى الوحدة الإسلاميَّة وَفْق منهج الله المستمَدِّ من كتابه وسنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
التاسع عشر: النظام والانضباط: فللحجِّ مواقيتُ مكانيَّة وزمانية يجب التقيُّد بها، وعدمُ الإخلالِ بها، أو التَّساهلِ فيها، وله أركانٌ وواجبات يجب الإتيان بها كما هي، من غير زيادة أو نقصان، وله محظورات يَحرُم اقترافُها.
العشرون: الحج يحثنا على إنجاز الأعمال أولاً بأول، وعدم تأخيرها: يتَّضح ذلك من خلال قيام الحُجَّاج بإنجاز الأعمال أولاً بأول، وعدم تأخيرها؛ عملاً بقاعدة: "لا تؤخِّر عمل اليوم إلى الغد"؛ ففي كلِّ يومٍ من أيام الحجِّ يعملون أعمالاً تختلف عن اليوم الذي قبله، ولا يؤخِّرون عمل يومٍ ليوم آخَر، بل هم في حركةٍ مستمرَّة، وعملٍ دَؤوب، فينجزون أعمالاً كثيرة في أيام قليلة.
الحادي والعشرون: فقه التعامل مع الخِلاف والمُخالِف: فعندما نتأمَّل في مناسك الحجِّ، نجد أنَّ لها أشكالاً مختلفة؛ فمِن الحُجَّاج من يحجُّ مُفرِدًا، ومنهم من يحجُّ قارِنًا، ومنهم من يحج متمتِّعًا، وذلك أفضل، ونجد أنَّ الحُجاج يختلفون في أعمال يوم النَّحر؛ فمنهم من يحلق، وذاك أفضل، ومنهم من يُقَصِّر، ومنهم مَن يقدِّم الهَدْي على الرَّمي، ومنهم يفعل العكس؛ ولا حرج عليهم في ذلك، ويختلفون في مغادرة مكَّة والخروج منها، فمنهم المتعجِّل، ومن المتأخر: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203]، ومع اختلافهم في ذلك نجد أنَّهم إخوة متحابُّون في الله، ولم يحصل بينهم شجارٌ ولا خِصام، ولا تَدابُر، ولا تقاطُع، كما أنَّه لم يحصل قبل ذلك بين الصَّحابة - رضوان الله عليهم - والله الموفِّق.
----------------------------
[1] "مجموع الفتاوى" (1/ 216) ن/ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
[2] رواه مسلمٌ (2577) من حديث أبي ذر.
[3] "تفسير القرآن العظيم" (5/ 364)، ن/ دار الكتب العلمية.
[4] "مفتاح دار السعادة" (2/ 4)، ن/ دار الكتب العلمية.
[5] رواه البخاريُّ (1475)، ومسلمٌ (1218) من حديث جابر - رضي الله عنه.
[6] رواه الترمذي (3585) وحسَّنه الألباني في "صحيح الترمذي" (2837).
[7] رواه مسلم (1218).
[8] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص (90) ن/ مؤسسة الرسالة.
[9] رواه ابن ماجه (2890)، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1122).
[10] "لطائف المعارف"، ص (236) ن/ دار ابن حزم.
[11] رواه مسلم (1297).
[12] رواه ابن ماجه (3057) من حديث عبدالله بن مسعود، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (2481).
[13] رواه البخاري (1597).
[14] فتح الباري (3/ 463)، ن/ دار المعرفة.
[15] رواه الطبراني في "الأوسط" (5/ 79).
[16] "الاعتصام"، ص (174) الشاطبي، ن/ دار ابن عفان.
[17] "تفسير القرآن العظيم" (4/ 266)، ط/ العلمية.
[18] "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 373) ن/ دار عالم الكتب.
[19] "مَعارج القبول" (1/ 44) ن/ دار ابن القيم، ومعنى "بغير مَين"؛ أي: شك.
[20] رواه البيهقيُّ في "السنن الكبرى" (5/ 125)، واللَّفظ له، والحاكم في "المستدرك" (2/ 304)، وقال: "هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
[21] روه أبو داود (1987) وحسَّنه الألباني في "صحيح أبي داود" (1750)، ومعنى: "عفا الوبَر"؛ أي: كَثُر وبر الإبل الذي حلق بالرِّحال أثناء السفر عليها للحجِّ، ومعنى: "برأ الدَّبَر" تعافى ما كان يحصل للإبل من جرح ونحوه؛ نتيجة الحمل عليها ومشقَّة السفر؛ [ينظر "فتح الباري" (3/ 426)، ن/ دار المعرفة].
[22] رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 125) والحاكم في "المستدرك" (2/ 304) وقال: "هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
[23] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص (536).
[24] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص (538).
[25] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص (537).
[26] رواه ابن ماجه (3932) عن عبدالله بن عمر، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2441).
[27] رواه مسلم (1218).
[28] رواه الترمذي (3444) وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (3579) وانظر: "لطائف المعارف" (235).
[29] رواه مسلم (1324) من حديث ابن عمر.
[30] "في ظلال القرآن" (1/ 179)، ن/ الشروق.
[31] رواه الترمذي (2975) من حديث عبدالرحمن بن يعمر، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1703).
[32] رواه البخاريُّ (6416) من حديث عبدالله بن عمر.
[33] رواه أحمد (7049) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1868).
[34] رواه الترمذي (2998) وابن ماجه (2896)، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1131).
[35] رواه أبو داود، (1888) وحسَّنه الأرناؤوط في "جامع الأصول" (1505)، وقال حسين سليم أسد: "إسناده حسن"، كما في تعليقه على "مسند الدارمي"، رقم (1853).
[36] رواه أحمد (5423)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1248).
[37] رواه الترمذي (3585) وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي" (2837).
[38] رواه أبو داود (2813) من حديث نبيشة الهذلي، وصححه الألبانيُّ في "السلسلة الصحيحة" (1713).
[39] الحديث رواه ابن ماجه (2890) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (2337).
[40] رواه أحمد (22978). وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2963).
[41] رواه البخاريُّ (1671) والإيضاع: الإسراع.
[42] رواه أحمد (14073) وصحَّحه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1104).
[43] "لطائف المعارف"، ص (233).
[44] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص (91).
[45] رواه مسلم (166) و"ثنيَّة هرشى" جبَلٌ على طريق الشام والمدينة، قريب من الجحفة، و"الجؤار" رفع الصَّوت، والناقة الجعدة: كثيرة اللحم، و"الخطام" حبل يُجعَل في أنف الناقة؛ لِتُقاد به، والخلبة: الليف؛ [ينظر: "شرح صحيح مسلم" (2/ 229) ن/ دار إحياء التراث العربي].
التعليقات