عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج
الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزًا وحصنًا، والبيتَ العتيق مثابةً للناس وأمنًا، ونسب البيت الحرام إلى نفسه تشريفًا له وتكريمًا، وجعل الزيارة والطواف حجابًا من العذاب ومُجْنَأً، والحجَّ المبرور كفارةً وجنَّة، والصلاة على محمد نبي الرحمة، وسيد الأمة، وعلى آله وصحبه، قادةِ الحق، وسادةِ الخلق، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
وهو سوق القُرُبات، وموسم الطاعات، ينادي بأجور عظيمة، وهبات كريمة، تحثُّ النفوس الزاكية، والهمم العالية؛ للمسارعة بالفوز بالجنان، وتحقيق الغفران؛ كما صحَّ عن سيد بني عدنان - صلى الله عليه وسلم - : ((مَن حجَّ، فلم يَرفث ولم يَفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه))؛ متفق عليه، عن أبي هريرة.
وعنه: قال - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))؛ متفق عليه، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال: ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور ))؛ رواه البخاري.
فلئن سار القوم وقَعَدنا، وقَرُبوا وبَعُدْنا، فما يُؤَمننا أن نكون ممن قال الله – تعالى - فيهم: ﴿ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ﴾ [التوبة: 46].
فاللهمَّ، سَلِّم! سلم! ولكن رحمة الله واسعة، والرجاء فيه لا ينقطع، فمَن فاته الحجُّ هذا العامَ، فعسى الله أن ييسر له في عامه القادم، فليعقد العزم على أدائه، وليصدق النيّة؛ لينال ثوابه من الدرجات العليّة.
وعلى مريد الحج الإلمام بأحكامه وصفته الشرعية، من أركان وواجبات ومستحبات، ويعرف محظوراته، فيؤدي نُسكًا كاملاً، فيرجى له حينَها مَحْوُ السيئات، وإقالة العثرات، والجواز على الصراط، مع مراعاة أن تكون النفقةُ حلالاً، واليدُ خاليةً من أعمال الدنيا، التي تشغل القلب، وتُفَرق الهمَّ؛ حتى يكون الهمُّ مجردًا لله تعالى، والقلب مطمئنًا منصرفًا إلى ذكر الله تعالى، وتعظيم شعائره.
وتجد كلَّ هذا وغيرَه منشورًا في "محور الحج" على موقعنا الألوكة، من كل ما يحتاج الحاج إليه، غيرَ أني أحببتُ أن أُلْقي الضوء على باب عظيم، لا يفوت العابدَ العاقل تَدَبُّرُه وتأمله؛ ليحقق أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم))؛ رواه مسلم، وهي بعض المشاهد المضيئة، والصور المشرقة، من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم - وأحواله في الحج، أو بمعنى آخر: عبودية النبي - صلى الله عليه وسلم – في الحج؛ أي: كونه عبدًا مكلفًا يستجيب لله تعالى، ومؤدِّيًا مناسكه.
المشهد الأول: مشهد الانقياد لخالقه، وخضوعه لواهبه ورازقه؛ تحقيقًا للتوحيد والعبودية الحقَّة:
ومنها: دعاؤه على الصفا والمروة: قال: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)).
ومنها: كثرة دعائه وتضرعه وابتهاله في جميع المناسك والمواقف:
ومنها: تعظيمه لأمر الحج والشعائر، حتى بدأ بالاغتسال والتطيب؛ للإحرام ولدخوله مكة، وتطيبه لطواف الإفاضة يوم النحر، وسوقه للبُدْن، واحتفاؤه وتعظيمه للحجر الأسود، فاستلمه وقبَّله، حتى بكى - صلى الله عليه وسلم - لذلك.
ومنها: الخشوع والسكينة؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم – أعبد الناس، وأتقاهم لربه، في حجَّته كان مثالاً حيًّا لحضور القلب، والتذلل لله، والخضوع، وسَكْب العَبَرات، خاشعَ الجوارح، وكان يقول: ((يا أيها الناس، عليكم بالسكينة؛ فإن البرَّ ليس بالإيضاع))؛ رواه البخاري، أَي: السَّيرِ السَّرِيع.
ومنها: حرصه على مخالفة المشركين في النسك، وتَبَرُّؤه منهم؛ حيث قال في خُطبة يوم عرفة: ((ألا وإن كلَّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ هاتين - موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا: دمُ ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - كان مسترضَعًا في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوعٌ، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله)) رواه مسلم.
ومنها: سَعْيُه الشديد، ورغبته الأكيدة على أداء النسك كاملاً بالمستحبَّات، من غير أن يُعَنِّت أمَّته؛ بل كان شعار المسلمين: "افْعل ولا حرج"، ما دام لم يترك ركنًا ولا واجبًا؛ بل أتى النصُّ بالتيسير.
المشهد الثاني: النبي مع أمته في الحج، ناصحًا مرشدًا، رحيمًا ميسرًا، مفتيًا آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر:
وبيّن فضل الطواف، ومسِّ الحجر وغيرها، بالفعل والعمل؛ كوقوفه داعيًا، رافعًا يَدَيْهِ يوم عرفة، مِن الزوال إلى الغروب.
وفي دفعه من عرفة كان يسير العَنَق - وهو سير سريع معتدل - فإذا وجد فَجْوَةً نَصَّ؛ أي: أسرع.
المشهد الثالث: مع نسائه - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، فاصطحب معه نساءه التسع:
هذا؛ وما أحوجَ المسلمين اليوم للتعرف على عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج! وتلك الصور المشرقة من الهدي النبوي القويم، والأخلاق القرآنية العظيمة، والنفس الكبيرة الرضية، والنبع الصافي، من خضوعه - صلى الله عليه وسلم – لخالقه، وانقياده لسيده ومولاه في موسم الطاعات، حتى استوعب - صلى الله عليه وسلم - القريب والبعيد، والكبير والصغير، والذكر والأنثى.
ما أحوجَنا للإقتداء بنبينا - صلى الله عليه وسلم - في تلك المهمة الكبيرة! التي لا يقوم لها إلا من كَبُرَت نَفْسُه، ونَبُل أصلُه، مهمة هداية الناس؛ فالحاج مطالب مع أداء نسكه بتعليم الناس، وإرشادهم للخير، وأن يغرس في نفوس الحجيج توحيد التأسي والاقتداء بسيد الخلق، وهذا يحتاج لسعة صدر، ورحابة نفس؛ لكثرة العدد، وعِظم المشقَّة، ولكنَّ الحاج الذي يريد الأجر والآخرة - آمرٌ بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، بحكمة وعلم، وبصيرة وصبر وتَصَبُّر.
وهذا هو السبيل الأقرب لإصلاح الخلل، وقمع البدع، وعلاج الجهل المنتشر عند أكثر الحجيج، فالمصلحون من العلماء، وطلاب العلم، والدعاة - مسؤوليتهم كبيرة في دعوة الخلق لتوحيد متابعة النبي، وإفراده بالأخذ والتلقي، ولكن قد لا يوفون بالغرض، ولا يسدون الخلل؛ لضخامة الخرق واتساعه، فيصعب قيامهم بمفردهم؛ ولذا فلابد من قيام كل حاج مؤهلٍ بما يستطيعه من أمر ونهي؛ استجابة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه فإن لم يستطع، فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))؛ رواه مسلم.
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: أن يوفق جميع الحجاج والعمار لما فيه صلاحهم ونجاتهم، ولما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يتقبل حجهم وعمرتهم ونفقتهم، وأن يرد الجميع لبلادهم سالمين، وقد غُفرت سيئاتهم، وغلقت دونهم أبواب النيران، وأن يوفق المسلمين جميعًا للحج والعمرة.
التعليقات