القرآن الكريم وغزوة أحد
تحدثت سورة آل عمران في آيات كثيرة (121 ــ 179) عن غزوة أحد وما حف بها من أمور قبلها وبعدها، وقد وضعت السورة ما وقع للمسلمين في أحد في إطار تاريخي ليكون درساً للمسلمين في كل زمان ومكان، ولذلك جاء في هذه السورة ومن خلال الحديث عن أُحد {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ونقرأ فيها قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. إن مقارنة الأحداث واستخلاص التجارب والاستفادة من الماضي هو دأب العلماء ودأب المخلصين أولي الألباب قال ابن تيمية وهو يقارن بين واقعة التتار في الهجوم على دمشق وما حصل في موقعة الخندق: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين ذكرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وكشّر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد عمود الكتاب أن يُجتثّ ويخترم، وعقر دار المؤمنين (الشام) أن يحل بها البوار....". الهزيمة بعد النصر(1): لم يكن هناك تكافؤ في العدد بين جيش المسلمين وجيش قريش، فعدد جيش المسلمين حوالي السبعمائة، وجيش الكفار ثلاثة آلاف، ولكن خطة الرسول صلى الله عليه وسلم المحكمة عوضت هذا النقص بأن يكون على جبل الرماة خمسون يحمون المسلمين من التفاف خيل الكفار. وأسند ظهره مع بقية الجيش إلى جبل أحد وكان النصر حاسماً في بداية المعركة {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} مما أدى إلى تراجع قريش وبداية هزيمتهم. وهنا وقع شيء مفاجئ حوّل مسار المعركة، إذ نزل أكثر الرماة من الجبل يريدون الغنائم بعد أن لاح النصر وبدأ فرار جيش المشركين، واستطاع خالد بن الوليد قائد فرسان قريش الالتفاف والقضاء على بقية الرماة، وعاد المنهزمون من المشركين للقتال، ووقع المسلمون في الحصار، وكان تركيز قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام نفر من المسلمين الأبطال بحمايته بأنفسهم وأبدوا من البطولات الخارقة ما تكسرت أمامها هجمات المشركين(2). هذه المقاومة العنيفة من الصحابة الكرام قللت من خسائر المسلمين، وأشعرت قريشاً أن القضاء على المسلمين ليس أمراً هيناً، بل أصابت هذه المقاومة الرهبة في نفوس المشركين، فلم يفكروا في الإغارة على المدينة بعد انتهاء المعركة. نقد وتربية: بعد الخطأ والتنازع الذي وقع فيه الرماة، وما جرَّ ذلك من التفاف خيل المشركين، بدأت جولة ثانية من المعركة، وأصيب الرسول صلى الله عليه وسلم وشُجَّ رأسه وكسرت رباعيته، بعد هذه الجولة تحدّث القرآن وصارح المسلمين بخلجات نفوسهم، وعرض ما كان فيها من صراع نفسي واضطراب بين نوازع الثبات أو التخلي، عرض ذلك دون أن يخفي شيئاً تحدثت به نفوسهم، وذلك لأنها نفوس إنسانية تصطرع فيها نوازع القوة والضعف، عرض صورة من القلق قبل المعركة {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تغلّب الإيمان والثبات وعزموا على المضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، وأما الذي حدث أثناء المعركة فهو كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}إن عصيان الرماة واتجاههم نحو الغنائم {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} حوّل مسار المعركة، والقرآن الكريم يذكر ثلاث صفات تكفي إحداها للهزيمة: الفشل والتنازع والعصيان، وهناك طائفة أخرى فروا بعد الصدمة المفاجئة، ولكنهم ندموا ورجعوا والله سبحانه يعاتبهم على تصرفهم هذا {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}.. أصابهم غم الهزيمة وغم الإشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، وغم الجراح التي أصابتهم، فهو غم متتابع وليس غماً واحداً ولا غمّين اثنين خاصة وهناك طائفة اختُلف في أمرها، هل هم من ضعاف الإيمان أو من المنافقين، وذلك بسبب ظنونهم الجاهلية{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}(3). يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره: "وهذه الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها في المنافقين كما قيل، وقولهم هذا يفيد أن ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء، فهل نُلام إن ولّينا وغلبنا، وكأنهم عجبوا مما وقع في أحد، وكأنه منافٍ لحقيقة الدين" والذين قالوا: هي في المنافقين لأنهم ظنوا في الله ظن مشركي الجاهلية، وأن ظهور المشركين في أحد دليل على بطلان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يخفون في أنفسهم هذا الشيء ولا يبدونه. قال ابن القيم: "إن ظنهم الباطل ها هنا هو التكذيب بالقدر، وأنه لو كان الأمر إليهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لهم لما أصابهم القتل". عتاب رقيق: بعد هذه المصارحة والمكاشفة لما في النفوس حتى تبرأ مما فيها جاء العتاب في سورة آل عمران رقيقاً فلم يعنّفوا تعنيفاً شديداً على خطئهم وعصيانهم لأوامر قائدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بل أزال عنهم آثار الجراحات وما أصابهم من الغم، وآنسهم بأنهم هم الأعلون { {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.فهذا خطاب لهم لتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وقال لهم أن هناك حكمة أخرى مما حدث وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين وقال سبحانه مخاطباً رسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وهذا من أحسن التربية لأنه لو شدد عليهم زيادة عما هم فيه من الآلام، فلربما وهن العزم منهم، قال ابن عطية في تفسيره: "ومن كرم الخلق ألّا يهن الإنسان في حربه وخصامه ولا يلين إذا كان محقاً ولا يضرع ولو مات وإنما يحسن اللين في السلم والرضا"(4). السنن الربانية: من أعظم الدروس المستفادة من أُحد هذا التوجيه إلى السنن التي وضعها الله سبحانه في الكون، وليقول للمسلمين الذين استغربوا ما حصل، وكيف يُدال للشرك على الإسلام {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي أن أمر النصر أو الهزيمة وأمر العز والذل والقوة والضعف والغنى والفقر، كل هذا يجري على سنن ربانية، فليس الأمر جزافاً ولا مجموعة من المصادفات، ولو كان الأمر كذلك لما أمكن أن يستفيد الإنسان من تجربة، والعلم بسنن الله من أهم العلوم التي يجب أن تتجه إليها الأنظار، قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} هذا علم يستطيع الإنسان الوصول إليه ما اتخذ إلى ذلك سبيلا، ووراء العلم هدىً وموعظة ولذلك لم يشفع للصحابة في أُحد والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وأنهم على حق، لم يشفع لهم أن ينتصروا إذا قصّروا أو لم يتخذوا الأسباب المؤدية لذلك. ليس مجرد الإيمان يستتبع النصر ولا مجرد عدالة القضية وإنما الجمع بين قوة العقيدة وقوة التنظيم وقوة التسليح ولمثل هؤلاء قال تعالى: {فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ}. قوانين النصر: كان التوجيه من خلال معركة أُحد أن فقد القيادة لا يعني التراجع والانكسار، حتى لو كانت هذه القيادة هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}. وتعقيباً على أحد، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ينفي الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء الربيون ثلاث صفات: ما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، والوهن يكون في القلب، وفي الإيمان، والضعف يكون في الجوارح، فهم يجاهدون دون ضعف، والاستكانة تكون للعدو وهي الذلة والخضوع له وبعد أن نفى عنهم هذه السلبيات، تأتي الآية التالية لتحدد الطريق الذي سلكوه للوصول إلى هذا المستوى الرفيع. الخطوة الأولى: أنهم يدخلون المعركة أطهاراً يطلبون المغفرة من الله، ويدعون أن يثبت الله أقدامهم، ومن الإيمان الراسخ يأتي التثبيت والمواقف الصلبة، ثم يأتي النصر {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. إن ما وقع في أحد من جراح وآلام وأخطاء لا يفقد المسلمين حقهم في إبداء الرأي، ومع أن رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في البقاء في المدينة والمدافعة من داخلها كان هو الرأي الصحيح ولكنه صلى الله عليه وسلم أخذ بالشورى عندما وجد أن أكثرية الشباب يريدون الخروج إلى أحد. وجاءت الآية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. وكأنه سبحانه وتعالى يقول له: "دم على المشاورة كما فعلت قبل هذه الوقعة وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة، وشاورهم في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية"(5). ومن الملاحظ أنه من خلال الحديث عن القتال وآثار المعركة تحدثت الآيات عن (الربا):{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} }. وتحدثت عن الإنفاق {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. أي أن من أسباب القوة المطلوبة الإعداد الحربي وهذا لا بد له من المال، ولا يصح جمع المالعن طريق الربا كما تفعل قريش أو يفعل اليهود في المدينة، فالغاية لا تبرر الوسيلة، ولا بد من قاعدة اقتصادية قوية ولكن ليست بالطرق الحرام. بعد الحدث: وكأن قريشاً ندمت على عدم استباحة المدينة بعد الذي أحرزوه في أُحد، ولكنهم تذكروا المقاومة العنيفة التي جوبهوا بها من المسلمين، ومع ذلك فإن أبا سفيان قائد قريش أرسل من يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم أجمعوا على الرجوع لاستئصال المسلمين.{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. وفي اليوم التالي لأحد جاءت الأوامر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى قريش ولا يخرج إلا من كان قد حضر أُحداً وبهذه الحركة استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع من معنويات المسلمين وعسكروا في مكان اسمه (حمراء الأسد) وانتظروا قريشاً وعندما علمت قريش بهذا التحرك أصيبت بالرعب وآثروا السلامة واستمروا في سيرهم إلى مكة وكفى الله المؤمنين القتال.
التعليقات