عناية الإسلام بالخطابة
جاء الإسلام؛ فكانت عنايته بها أشدَّ واهتمامه بها أقوى، كيف لا ورسالته كلها مبناها على وحي يوحى وقرآن يتلى وقراءته عبادة، وكانت كبرى المعجزات إنَّما هي فصاحة وبلاغة، تحدث الفصحاء والبلغاء في صميم لغتهم وفي عقر ديارهم، فتراجع أمامها فرسان البلاغة، وتراجع دونها أئمَّة البيان، واستسلموا لسلطانها وسجدوا لسحر بيانها: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23].
وقد نوه القرآن الكريم عن مدى عظم الخطابة والبيان وصلتهما بالرسالات والدعاة في غير ما موطن، فعن أصل الرسالة يقول تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [إبراهيم: 4]، أي: البيان الذي يصحبه الإقناع ويثمر الاستجابة كما عاب العجز عن الإبانة في مقام الخصومة يصحبه الإقناع ويثمر الاستجابة كما عاب العجز عن الإبانة في مقام الخصومة وإثبات الحجة في قوله تعالى عن النساء: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) [الزخرف: 18]، أي: لعجزهن عن مواجهة الخصم وإقامة الحجة.
ونوَّه عن مساندتها للرسالة في قصة بَعثَة مُوسَى -عليه السلام- ومساندته بأخيه هارون كما في قوله تعالى عن موسى -عليه السلام-: ( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص: 34، 35]، فكانت فصاحة أخيه من عوامل ترشيحه للرسالة وشد عضد أخيه.
وفي مقدم وفد بني تميم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- صورةٌ واضحةٌ لعِظم أثر الخطابة في الدعوة الإسلامية، وقد ساقها المفسرون والمؤرخون: أنهم قدموا عام الوفود واجتمع الناس في المسجد، ونادَوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرج إليهم وهم المعنيون بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) [الحجرات: 4].
فلما خرج إليهم قالوا: جئنا نفاخرُك ونشاعرُك بخطيبنا وشاعرنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما بالشعر بُعِثْت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا". فقال الزبرقان بن بدر لشاب: "افخر واذكر فضل قومك"، فقال: "الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عددًا ومالاً وسلاحًا، فمن أنكر علينا فليأتِ بقولٍ هو أحسن من قولنا، وفعلٍ هو أحسن من فعلنا".
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس بن شماس – وكان خطيبه -: "قم فأجبه"، فقال: "الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمِّه أحسن الناس وجوهًا وأعظمهم أحلامًا فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصارَ دينه، ووزراء رسوله، وعِزًا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمَن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه، وكان غرمه علينا هينًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات".
ثم قام شاعرهم فأنشد، ثم أجابه حسان –رضي الله عنه- فقال الأقرع بن حابس -رئيس الوفد-: "والله، ما أدري: ما هذا الأمر؟ تكلم خطيبنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسَنَ قولاً"، ثم دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: أشهد ألا إله إلاَّ الله، وأنك رسول الله[1]
ففي تلك الواقعة –بالذات- ومثيلاتها، تسجيل لأهمية الخطابة ودورها الفعال في خصوص الدعوة، حيث نلمس النقاط الآتية:
1/تخصيص الخطيب للرسول -صلى الله عليه وسلم- من قوله: فقال -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس – وكان خطيبه – مع أنه -صلى الله عليه وسلم- أُعطِي جوامعَ الكلِم، وأفصَحُ العربِ والعجم.
2/كون الخطابة سلاحًا للدفاع عن الدعوة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لثابت: "فأجبه"، ومعلوم أن الإجابة دفاعٌ كما قال حسان لأبي سفيان في أول الأمر: "هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأجَبْتُ عَنْهُ"[2]، فالإجابة دفاع عن النبي – صلى الله عليه وسلم-.
3/أن قوة الخطابة مدعاةٌ للإقناع والاستمالة، ومن ثم الاستجابة للدعوة؛ لقول الأقرع بن حابس بعد سماعه خطابة ثابت بن قيسٍ وتأثره بها: "والله، ما أدري: ما هذا الأمر؟" إلى أن قال: "فكان خطيبهم أحسنَ قولاً، وكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً"، ثم دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونطق بالشهادتين وأعلن إسلامه، فكان للخطابة أعظم الأثر في الدفاع عن الإسلام، وفي الدعوة إليه.
وكذلك كان لها الحظ الأوفى في قتال الأعداء، كما روي ابن إسحاق في غزوة بدرٍ: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحرَّضهم على القتال، وقال: "والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر؛ إلاَّ أدخله الله الجنة"، فكان لكلماته -صلى الله عليه وسلم- أقوى تأثيراً على نفوسهم، جعل أحد المقاتلين -عمير بن الحمام- يستعجل الموت، ويستطيل الحياة، فيقول: "بخ، بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاَّ أن يقتلني هؤلاء"، وكان بيده تمرات يأكلهن، فقذف بهن وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل"[3]، وبهذه الروح اندفع المؤمنون إلى قتال العدو ونصرهم الله –تعالى-، وهكذا كان في عهد الخلفاء والفتوحات الإسلامية، كانت الخطابة تسبق القتال، وكذلك في السلم؛ فقد عُنِي بها كل العناية حتى أصبحت جزءًا من العبادة، فنصبت لها المنابر في المساجد، وجعلت في مقدمة الجُمَع والأعياد، واختص بها أفاضل الناس وأئمتهم في مهام الأمور، للأمر والنهي، والتوجيه والبيان.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد بيان أمر أو جد جديد يحتاج إلى بيان صَعِدَ المنبر، وخطب الناس، كما في قصة بُرَيْرَة لما اشترط أهلها على عائشة -رضي الله عنها- أن تعتقها ويكون الولاء لهم، خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيَّن أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل: "الولاء لمن أعتق"[4].
وقد كانت خطبته في حجة الوداع خلاصةً عامةً، جامعةً شاملةً لمهام الدين، وأسسِ التعامل، منها: "أي يوم هذا؟ في أي شهر هذا؟ في أي بلد هذا"، وفي كلها يجيبون بأنها "أوقات وأماكن محرمة"، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذه"[5]، انظر إلى قوة التأكيد في التحريم، ثم يوصي بالنساء خيرًا، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه من البيان والبلاغ في أعظم جمعٍ للمسلمين.
وكذلك خطبته بعد صلاة الصبح إلى الظهر، ومن بعد صلاة الظهر إلى العصر، ومن بعد صلاة العصر إلى المغرب[6]، ما ترك شيئًا إلاَّ وعرض له في مقامه ذلك، حفظ من حفظ ونسي من نسِي[7].
ثم من بعده خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- وفي أحرج المواقف وأخطرها كيوم وفاته -صلى الله عليه وسلم فذهب الكثيرون وأخذ الناس يدوكون، وعمر يهدد من يقول: "مات محمدٌ".
وما كشف عن وجه الحقيقة المذهلة إلاَّ أبو بكر -رضي الله عنه- بخطبته على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد حمد الله والثناء عليه: "أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت"، ثم تلا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، فهدأت عاصفتهم وثاب إليهم رشدهم حتى قال عمر: "والله، لكأني لم أسمعها إلاَّ الآن، وكأنها الآن أنزلت"[8].
ومثل ذلك يوم السقيفة، لما تنازع الناس أمرَ الخلافة، والتبس عليهم الموقف، وما أزال اللبس، ومهَّد الطريق، وثبت الحق وجمع الشمل، إلاَّ أبو بكر -رضي الله عنه- بخطبته حين قدم عليهم ومعه عمر -رضي الله عنه- وقد زوَّر كلماتٍ يلقيها، قال عمر: "والله، لقد أتى عليهن كلِّهن أبو بكر – رضي الله عنه"-.
وما أنهى أبو بكر -رضي الله عنه- خطبته، حتى بويع بالخلافة، بدأه بها عمر، وتتابع عليه الحاضرون، وتمت له البيعة خليفةً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-[9].
وهكذا كل مَن جاء بعده من الخلفاء والأمراء والولاة، إلى أواخر العصر العباسي، ظلت الخطابة موضع العناية وأداة التوجيه إلى أن أصيب العالم الإسلامي بما يسمى (الانحطاط الأدبي)، فأهملت الخطابة، واقتصرت على الجمع والأعياد، وفي شكليات وتقاليد حتى أصبحت خطبة الجمعة تعاد وتكرر في كل جمعة من موعدها في السنة الَّتي تليها، ووضعت دواوين لهذا الغرض، وصارت مهمة الخطيب أن يتلو ما كتب غيره، فضعفت الملكات الخطابية وماتت القدرة الإنشائية.
إلى أن وجدت دعوات التحرر في كثير من البلاد الإسلامية ودعاة الإصلاح، فحرروا الأفكار وهذبوا العقائد، وتنشطت الأذهان بالدعوة أو مناقشتها، فنَشطت وانتعشت الحركة العلمية والأدبية، ونهضت الخطابة حين تنبَّهَت الملكات.
والذي نشاهده اليوم، من الحركات الكلامية والمساجلات الخطابية، إنَّما هو أثر من آثار تلك النهضة وإن اختلفت مجالاتها.
والذي يهمنا كمسلمين أولاً، وقبل كل شيء في مشارق الأرض ومغاربها، ودعاة إلى الله بوجه خاص، أن نُعنَى بالخطابة عناية فائقة، ولا سيما الخطابة الدينية على سعة مدلولها، من وعظ وإرشاد، وتوجيه وتثقيف وبيان لتعاليم الإسلام، في أصول الدين وفروعه ومحاسنه، في العبادات والمعاملات الاجتماعية وكافة نظمه العامة والخاصة للأفراد والجماعات.
ولئن كانت هذه مهمَّة طلاب العلم في كل بلد وفي كل مدرسة أو جامعة، فإن مهمة طلاب الجامعة الإسلامية بالمدينة أعظم، وهي بهم ألصق، لما تتاح لهم فرصة اجتماع بكافة أبناء العالم الإسلامي في مواسم الحج، سواء في مكة أم المدينة.
ولهذا وجب أن يُعْنى بالخطابة والإنشاء والبحث والتوسع في هذا المجال فوق ما يتخيل للبعض؛ لأننا في أمسِّ الحاجة إلى دعاة خطباء بلغاء؛ ولأننا نجزِم بحاجة كل داعية إلى قوة الخطابة بالقدر الذي يقنع من يدعوهم أو يتخذ خطيبًا لبعض المواقف، وكذلك القائد مع جنده بالقدر الذي يبث فيه روح الحماسة والشجاعة والتضحية.
ولا يتم ذلك لمن شاء النجاح فيها، والوصول إلى غايته عن طريقها؛ إلاَّ عن طريق أسس الخطابة وعوامل قوتها ونجاحها.
—–
[1] قال السيوطي في "الجامع الكبير" (كنز العمال: 30316) [رواه] الروياني وابن منده وأبو نعيم وقال: غريب تفرد به المعلى بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي، قال الدارقطني: هو كذاب؛ [ورواه] ابن عساكر.
[2] أخرجه مسلم (2490).
[3] ذكره ابن إسحاق في السيرة (سيرة ابن هشام 2/ 627) بدون إسناد، وأخرجه مسلم (1901) من حديث أنس بن مالك.
[4] أخرجه البخاري (2563)، ومسلم (1504).
[5] أخرجه البخاري (1741)، ومسلم (1679)، من حديث أبي بكرة.
وأخرجه البخاري (1739)، من حديث ابن عباس.
وأخرجه البخاري (1742) من حديث ابن عمر.
وأخرجه مسلم (1218) من حديث ابن عمر.
[6] أخرجه مسلم (2892).
[7] أخرجه البخاري (6604)، ومسلم (2891).
[8] أخرجه البخاري (4454).
[9] أخرجه البخاري (3668).
التعليقات