ينبغي للخطيب أن يستحضر في نفسه قبل إعداد الخطبة وإلقائها أن السامعين يختلفون، ففيهم العالم، وفيهم الجاهل، وفيهم العامي، وفيهم الأمير والوزير، فيكون الخطيب فيهم كالمتفرس، إذا عليه أن يعلم مبلغ طاقاتهم وقدر استيعابهم وإقبالهم على الانتفاع، فيعطيهم ما يتحملون، ويمسك عما لا يطيقون، ويوجز عند خشية السامة. وقديماً قيل: "ومن لم ينشط لكلامه فارفع عنه مؤنة الاستماع منك " والناس لا يعدم أن يكون فيهم ذكي محتاج إلى الزيارة، وقاصد يكتفي بالقليل، فيضجر الذكي ويعجز القاصر، ومنْ هذه حال الناس معه ملّوه. وملّهم ويُذكر أن الخضر قال لموسى عليهما السلام: ( يا طالب العلم، إن القائل أقل ملالة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم).
وروي عن ابن السماك أنه جلس يوماً للوعظ وجاريته تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي ؟ قالت: ما أحسنهُ إلا أنك تكثر ترداده. فقال: أردده كي يفهمه منْ لم يفهمه. فقالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه، قد ملَّهُ منْ فهمه .
وقد قال الإمام أحمد عن الموعظة وإطالتها: لا أحب أن يملَّ الناس، ولا يطيل الموعظة إذا وعظ. اهـ.
ألا فإن مراعاة الخطيب لأفهام الناس وعقولهم لهو من أهم ما ينبغي أن يدركه كل خطيب، وكلام أهل العلم حول هذه المسألة مطروق ومبذول، وسأورد شيئاً من كلام بعضهم لإدراك هذا الأمر والاتعاظ به.
فلقد بوَّب البخاري في صحيحه باباً فقال: باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا. ثم أردف قول علي: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟. اهـ .
وعند مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أنت بِمُحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنةً ".
وعن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: " ما حدثت أحداً بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالاً عليه "
وعن أبي قلابة قال: "لا تحدث بحديث من لا يعرفه، فإن من لا يعرفه يضره ولا ينفعه".
قال الحافظ ابن حجر: " وممن كره التحدث ببعض دون بعض: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين ؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. .
ثم بيّن الحافظ رحمه الله ضابط هذه المسألة فقال: وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهرة مطلوب، والله أعلم.
قال البغوي: " ولا يأتي بكلمات مبتذلة لا تنجع في القلوب، ولا بما ينكره العوام لقصور فهمهم".
وقال ابن الجوزي: من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده. فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه، فالله الله أن تحديث مخلوقاً من العوام بما لا تحتمله دون احتيال وتلطف، فإنه لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه، فكذلك كل ما يتعلق بالأصول .
وقد روى أبو داود في السنن عن بريدة عن أبيه عن جده قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً، وإن من القول عيالاً".
وقد نقل أبو داود عن صعصعة قوله: " إن من القول عيالاً " بأنه: عرض المرء كلامه أو حديثه على من ليس من شأنه ولا يريده.
ونقل الخطابي عن أبي زيد أن معناه: كأنه لم يهتد لمن يطلب علمه فعرضه على من لا يريده .
ولابن عقيل في " الفنون ": أنه سئل عن قوم يجتمعون حول رجل يقرأ عليهم أحاديث وهو غير فقيه ؟ فقال: هذا وبال على الشرع أو نحو ذلك، فإن جماعة من العوام تفرقوا عن مجلس مثل هذا وبعضهم يقول لبعض: أستغفر الله مما فعلت كثيراً ولم أعلم أن الشرع قد نهى عنه، قيل له: وما هو ؟ قال: كنت أبذل ماء قراحي وأبذل حقي من الماء، وإذا هو قد نهى الشرع عنه، فإنه روى لنا الشيخ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسقين أحدكم ماءه زرع غيره" وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: "عن بيع وشرط " وقد كنت أشرط الخيار لنفسي، فأستغفر الله من ذلك … وإنما الراوي إذا كان قادراً أن يبين خصوص العام المخصص وتقييد المطلق بتقييده وإلا فمخاطرة، وربما قرأ (نفس الرحمن من اليمن) ( الحجر الأسود يمين الله ) ومعلوم أن من اعتقد ظاهر هذا كفر.
وقال ابن عباس عن وعظ العوام: ليحذر الخوض في الأصول فإنهم لا يفهمون ذلك، لكنه يوجب الفتن، وربما كفروه مع كونهم جهلة .
وقد أخرج عبدالرزاق عن معمر قال: بلغني أن عليّاً مرَّ بقاصٍ فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، قال: ومرَّ بآخر قال: ما كنيتك ؟ قال: أبو يحيى، قال: بل أنت أبو اعرفوني.
وقال ابن مفلح: فالحذر الحذر من مخاطبة من لا يفهم بما لا يحتمل، وقد جرت فتن بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة سنين، فقتل فيها من الفريقين خلق كثير، لا يدري القاتل لِم قتل، ولا المقتول لم قُتِل، وإنما كانت لهم أهواء مع الصحابة فاستباحوا بأهوائهم القتل. فاحذر العوام كلهم، والخلق جملة فقد قال الشاعر:
فسد الزمان فلا كريم يرتجى *** منه النوال ولا مليح يعشق
وأخرج عبدالرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن عبدالله بن عياض قال دخل عبيد بن عمير على عائشة فسألت: من هذا ؟ فقال: أنا عبيد بن عمير. قالت: عمير بن قتادة ؟ قال: نعم يا أمتاه. قالت: أما بلغني أنك تجلس ويجلس إليك ؟ قال: بلى يا أم المؤمنين، قالت: فإياك وتقنيط الناس وإهلاكهم.
وقد تحدث الشيخ على الطنطاوي عن عيوب الخطبة في العصر الحديث فقال: " ومن عيوبها أن الخطيب – أعني بعض منْ يخطب – يحاول أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة، فلا يخاطب الناس على قدر عقولهم، ولا يكلمهم على مقتضى أحوالهم، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوة خطوة، بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة، مع أن الطفرة في رأي علمائنا محال.
فالحاصل إذن: أن أفضل الخطباء وخيرهم الفطن الذي لا يقل ولا يمل، والله الموفق.
التعليقات