وقعت هذه الغزوة في رجب من صيف عام تسع للهجرة بعد العودة من حصار الطائف بستة أشهر تقريباً.
ورغم أن المؤرخين حاولوا أن يجدوا سبباً مباشراً لها، فذكر ابن سعد أن هرقل جمع جموعاً من الروم وقبائل العرب الموالية لها، وأن المسلمين علموا بخبرهم فخرجوا إلى تبوك. وذكر اليعقوبي أن الثأر لجعفر بن أبي طالب هو سبب الغزوة ولكن الصحيح أنها استجابة طبيعية لفريضة الجهاد وقد نبه على ذلك الحافظ ابن كثير بقوله: “فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم، لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله، وقد قال الله تعالى}يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]. ولا صحة لما قيل أن الخروج إلى تبوك كان عن مشورة يهود وقولهم إنها أرض المحشر وأرض الأنبياء تغريراً بالمسلمين ليخرجوهم من المدينة ويعرضوهم لخطر المواجهة مع الروم، وأن الآية{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الاسراء: 76] نزلت في ذلك، فإن الخبر في ذلك مرسل ضعيف ويرده أن الآية مكية وتتميز هذه الغزوة وغزوة مؤتة التي سبقتها بأن وجهتها إلى الروم ونصارى العرب، في حين كانت الغزوات والسرايا الأخرى وجهتها إلى يهود والقبائل العربية المشتركة. وكانت النصرانية قد فقدت روحها وأضاعت تعاليمها وانقسمت إلى فرق عديدة، ومنشأ الخلاف عقيدتهم في المسيح (عليه السلام) فأكثرهم يعتقد بالأقانيم الثلاثة (الأب والابن وروح القدس) واتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح، وبعضهم يرى أن له طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهية وهم اليعاقبة (المنوفستية) في الشام ومصر، وقد عقدوا لذلك المؤتمرات، وحاول هرقل التأليف بين الفرق الدينية حفاظا على الإمبراطورية الرومانية دون جدوى، وقد أوقعت الإمبراطورية الاضطهاد بسكان الشام ومصر اليعاقبة (المنوفستية) مما أدى إلى نفي بعض كبار رجال الدين من مصر وفرار بعضهم الآخر.
ولم يقتصر الفساد على النواحي العقيدية بل امتد إلى سائر جوانب الحياة، فالظلم والاستبداد، وكثرة الضرائب وثقلها على الشعوب، والروح الطبقية التي تجعل الناس متفاوتين في المكانة بحكم المولد والانتماء للطبقة، كل ذلك كان يعشعش على البلاد، حتى إنه لم تعد ثمة فروق أساسية بين حياة النصارى والمشركين، وقد أمر الله تعالى المسلمين بجهاد أهل الكتاب كما أمرهم بجهاد المشركين، ولكنه وافق على احتفاظهم بدينهم إذا خضعوا سياسياً للمسلمين وأدوا إليهم الجزية، خلافاً لعبدة الأوثان فإنه لم يقبل منهم الجزية بل لا بد لهم من الدخول في الإسلام إذا أرادوا الأمن من القتال{قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
وبذلك دخل المسلمون مرحلة جديدة بعض قضائهم على الوثنية في جزيرة العرب، وإجلائهم أهل الكتاب من يهود إلى قتال أهل الكتاب من النصارى.
هذا التحول الذي يتسق مع طبيعة الإسلام وأهدافه في الحياة والذي تعتبر غزوة تبوك أحد شواهده.
وتبوك موقع شمال الحجاز يبعد عن المدينة المنورة 778 كيلا حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بتبوك، وسميت بغزوة العسرة أيضا لما كان أصاب المسلمين من الضيق الاقتصادي وقتها، والذي تدل عليه أيضا الآية الكريمة {لَقَدْ تَابَ ٱللهُ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] ،وقد بين كل من قتادة ومجاهد – وهما إمامان كبيران في التفسير بالمأثور – أن “الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها” ولا يعرف إن كانت الأزمة الاقتصادية وقت هذه الغزوة ترجع إلى توقيت الحملة قبل جني ثمار التمر وبيعه أم أنها ترجع لعوامل أخرى أبعد.
المنفقون على جيش تبوك:
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على النفقة ووعد المنفقين بعظيم الأجر من الله، فسارع أغنياء الصحابة وفقراؤهم إلى تقديم الأموال، وكان عثمان بن عفان أكثر المنفقين على جيش تبوك، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزهم عثمان. حيث جاء بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ما ضرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم»- يرددها مرارا -. وقد وردت روايات أخرى لكنها ضعيفة تفيد أن عثمان قدم معونات أخرى للجيش كالإبل وعدتها . وإن كان ذلك لا يمنع أن عثمان قدم ذلك، فقد ثبت أن الصحابة أقروا له بتجهيز جيش العسرة، وهم ثلاثون ألف مقاتل فلابد أنه أنفق نفقة عظيمة في ذلك.
وقد ذكر الطبري بأسانيد عديدة لا تخلوا جميعا من ضعف لكنها تتساند لتقوية الخبر تاريخيا – أن عبد الرحمن بن عوف أنفق ألفي درهم – وهي نصف أمواله في تجهيز جيش العسرة.
ولم يجد فقراء المسلمين إلا أن يتقدموا باليسير الذي يقدرون عليه فجاءوا على استحياء متعرضين لسخرية المنافقين. فقد جاء خيثمة الأنصاري بصاع تمر فلمزه المنافقون وجاء أبو عقيل بنصف صاع من تمر، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا!! وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت {ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] فهم يتهمون الأغنياء بالرياء ويسخرون من فقر الفقراء!!.
موقف المنافقين في غزوة تبوك:
وقد استعلن أمر النفاق في هذه الغزوة وقام المنافقون بحرب دعائية عند إعلان النفير فمضوا يثبطون الناس ويقولن: (لا تنفروا في الحر) فقد كان الحر شديدا، وكان الناس يفيئون إلى ظلال الأشجار، فكان المنافقون يستغلون ذلك لإشاعة روح التخاذل وقد ذهب بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه بالتخلف مبدياً الأعذار الكاذبة حتى عاتب الله نبيه على إذنه لهم{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43] وقد وصف القرآن منافقي الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً من منافقي أهل المدينة لأنهم أقسى قلوباً وأقل علماً بالسنن والأحكام{ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 97]. وهكذا فإن النفاق لم يكن منحصراً في المدينة بل امتد إلى البوادي{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. وقد نهى القرآن عن قبول أعذار المنافقين وتصديقهم{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94] ووصفهم القرآن بأنهم رجس.
وهكذا وضعت الحواجز بين المؤمنين والمنافقين، ولم يعد التعامل مع المنافقين يقوم على الستر وعدم المجابهة، بل صارت المفاصلة أساسا للتعامل، فقد فضحهم القرآن الكريم، وامتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار الذي بنوه وأحرقه كما أمتنع عن الصلاة على أمواتهم وكان قد صلى على عبد الله ابن أبي بن سلول حين موته عقب عودة المسلمين من تبوك ثم منعه الله من ذلك {وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} [التوبة: 84].
وقد ابتنى المنافقون مسجداً قبيل غزوة تبوك ليجتمعوا فيه مكايدة للمسلمين ومضرة بهم، وزعموا أنهم بنوه للمنفعة والتوسعة على المسلمين، وقد أرادوا أن يفرقوا اجتماع المؤمنين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بصرف بعضهم للصلاة فيه، وقد طلب المنافقون من الرسول أن يصلي فيه تمويهاً على الناس فنهاه القرآن عن ذلك وسماه مسجدا ضراراً {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
وقد تخلف معظم المنافقين عن الغزوة ومضى بعضهم الآخر مع الجيش يقتنصون الفرص للكيد والإرجاف.
وقد انفرد الواقدي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسلا إلى القبائل يستنفرها للخروج إلى تبوك. ورغم تفرده فإنه يتفق مع النفير العام المعلن ولا شك أن قبائل العرب استنفرت للقتال كما تدل على ذلك سورة التوبة.
أما داخل المدينة فقد أعلن النفير، وذكر ذلك القرآن الكريم:{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. فقد ذكر مجاهد أنها نزلت في غزوة تبوك حيث أمروا بالنفير حين جني التمر وطيب الثمار واشتهاء الظلال. فشق عليهم المخرج . وقد طالبهم القرآن الكريم كما يبين مجاهد بأن ينفروا شباناً وشيوخاً وأغنياء وفقراء بقوله تعالى:{ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]. ولما استأذن بعضهم في التخلف عن الغزوة نزل فيهم قرآن{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] إذا كانت تبوك بعيدة عن المدينة والسفر إليها شاقاً، ولم تكن غنيمة سهلة.
فتخلف الأعراب والمنافقون وعدد يسير من الصحابة رضوان الله عليهم من أصحاب الأعذار سوى ثلاثة لم يكن لهم عذر عن شهود هذه الغزوة.
مسارعة المؤمنين إلى الجهاد:
ونظرا لبعد السفر وكثرة الأعداء فقد كشف الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين عن وجهته ليستعدوا لذلك خلافا لنهجه في الحروب فإنه لا يعلن وجهته حتى لا يصل الخبر إلى عدوه فيأخذوا أهبتهم.
وقد سارع المؤمنون إلى الخروج في هذه الغزوة، حتى إذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن يخلفه في أهله، قال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي»، وهكذا شأن أصحاب العقيدة لا يفرحون بالثمار والظلال بل يؤثرون الحر والظمأ والجوع في سبيل الله، فهي غنيمتهم التي يدخرونها لآخرتهم.
قال أبو خيثمة الأنصاري: “تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حائطا فرأيت عريشا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحرور وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات فخرجت، فلما طلعت على العسكر فرآني الناس، قال النبي: «كن أبا خيثمة فجئت، فدعا لي».
وقد حزن الفقراء المؤمنين لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد فهذا علبة بن زيد أحد البكاءين صلى من الليل وبكى،وقال:اللهم إنك قد أمرت بالجهاد،ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرضفأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له.
وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضي بعض الوقت فحل لهم على ثلاثة من الإبل.
وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقا للجهاد وتحرجا من القعود حتى نزل فيهم قرآن:{لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91] {وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المتخلفين المعذورين ممن حسنت نياتهم واستقامت طويتهم بقوله:«إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم». قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر». وقد حكى كعب بن مالك أنه لم يبق بالمدينة إلا المنافقون وأهل الأعذار من الضعفاء.
عدد جيش تبوك:
وقد وردت روايات في عدد جيش تبوك ظاهرها التعارض ولكن يسهل التوفيق بينها فقد قال كعب بن مالك: “والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ – يريد الديوان”.
وفي رواية أخرى عن كعب: “يزيدون على عشرة آلاف”.
وقال الحاكم في الإكليل إنهم “زيادة على ثلاثين ألفاً” وبهذه العدة جزم ابن إسحق.
وقال الواقدي “إنه كان معه عشرة آلاف فرس” فيمكن أن تحمل رواية كعب على إرادة عدد الفرسان،دون بقية الجيش من المشاة، ونقل عن أبي زرعة الرازي أنهم كانوا أربعين ألفاً . وقال زيد بن ثابت إنهم كانوا ثلاثين ألفاً.
ويبدو أن أغلب المؤرخين يميلون إلى القول أنهم كانوا ثلاثين ألفاً وهو عدد يدل على مدى استجابة المؤمنين لدواعي العقيدة في تلك الظروف القاسية من الحر الشديد والعسرة. وهو أكبر جيش قاده الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته. ويذكر الواقدي أنه لما اجتمع الجيش مضى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى ذي خشب على 40 كيلاً من المدينة في طريق الشام، ومنها انطلق إلى تبوك وكان دليله علقمة ابن الفغواء الخزاعي.
وفي تبوك أعطى اللواء الأعظم للصديق (رضي) والراية العظمى للزبير، وراية الأوس إلى أسيد بن حضير ولواء الخزرج إلى أبي دجانة ويقال إلى الحباب ابن المنذر. وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذوا لواء وراية، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان زيد بن ثابت يحمل راية بني مالك بن النجار، وأبو زيد يحمل لواء بني عمرو بن عوف، ومعاذ بن جبل يحمل راية بني مسلم. وسائر هذه المعلومات عن طريق الجيش وتوزيع الرايات ينفرد بها الواقدي، وهو متروك، ولكنه غزير المعلومات في السيرة، وأخذ مثل هذه المعلومات منه لا يضر.
المتخلفون عن غزوة تبوك:
وقد تخلف عن غزوة تبوك ثلاثة من الصحابة وهم: كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، والثلاثة من الأنصار المعروفين بحسن إيمانهم، فقد شهد كعب بن مالك سائر الغزوات قبلها سوى بدر، كما شهد بيعة العقبة الثانية، وقد سوَّف في الاستعداد للغزوة ولم يكن يعتزم التخلف عنه، ولكن غلبه التسويف، والميل إلى الظلال والثمار حتى خرج الناس!!
وأما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فكلاهما قد شهد بدراً، كما تخلف عنه بعضة وثمانون رجلاً آخرون، وقد ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء، وكانوا عدد كثيرا . وكان من يختلف يظن أن لا أحد يفطن لتخلفه لكثرة الجيش.
وقد تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى تبوك بعض من تخلف وسأل أبارهم كلثوم بن حصين الغفاري عمن تخلف من بني غفار واسلم كما سأل في تبوك عن كعب بن مالك.
وقد عقَّبت سورة التوبة بتفصيل على موقف المتخلفين، فأنكرت عليهم التخلف عن النفير العام حيث تحول الجهاد بذلك إلى فرض عين، ثم أعلنت قبول توبتهم وأخذ صدقات أموالهم بعد اعترافهم بذنوبهم في التخلف عن الغزوة وطلبهم قبول صدقاتهم منهم، كما عرَّت السورة المنافقين وأنهم لا يؤمنون بقدر الله ويحبون الحياة ويرغبون عن الجهاد بالنفس خوفاً من الموت، وقد ينفقون المال كرهاً دون نية صالحة، ولهم جرأة على قول الباطل فهم يتهمون سواهم بالجبن فإذا حوسبوا عن أقوالهم تنصلوا منها وزعموا أنهم كانوا يمزحون!! وقد رفض القرآن عذرهم وأعلن كفرهم ونهى عن الاستغفار لهم والصلاة على أمواتهم، وتوعدهم بالبكاء طويلاً في جهنم مقابل ضحكهم في الدنيا الفانية، ومنعهم من المشاركة في الجهاد مستقبلاً تبكيتاً لهم وتنقية لصف المؤمنين من أمثالهم، وتمييزاً لهم عن المؤمنين لئلا يشيعوا فيهم الضعف والخذلان، وقد أرجأت إحدى الآيات البت في أمر بعض المتخلفين الذين ندموا على تخلفهم وهم من غير المنافقين المعتذرين والمتخلفين المعترفين بخطئهم.
وقد عاتبت هذه السورة المتخلفين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب مبينة عظيم أجر الجهاد. وما ذلك إلا لأن الجهاد يصير متعيناً وقت النفير العام.
الوصول إلى تبوك:
وقد ذكرت المصادر نصَّ خطبة طويلة ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك ولم تثبت هذه الخطبة من طريق صحيح رغم أن فقراتها مأخوذة من أحاديث أخرى معروفة بعضها صحيح وبعضها حسن، ويبدو أن بعض الرواة لفق منها هذه الخطبة.
وفي تبوك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد مع عدد من الصحابة إلى دومة الجندل وقد ذكر عروة بن الزبير مرسلا أنه أرسله في أربعمائة وعشرين فارسا، حيث أسر أكيدر بن عبد الملك الكندي – ملكها – وهو في الصيد خارجها ، فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية .وقد تعجب المسلمون من قباء كان أكيدر يلبسه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد ابن معاذ في الجنة أحسن من هذا». وقد ورد أن غنائم خالد من أكيدر كانت ثمانمائة من السبي وألف بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح.
وقد وصلت إلى تبوك هدية ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي بغلة بيضاء وبرد، فصالحه على الجزية.
وتشير رواية ضعيفة إلى قيام مراسلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهرقل ملك الروم من تبوك وأن النبي أوفد دحية الكلبي إليه، وأن هرقل أرسل التنوخي ليعرف بعض علامات النبوة ولو صح ذلك لكان إرسال دحية للمرة الثانية لأنه حمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر في أول سنة 7 هـ.
ولم يقع قتال مع الروم في هذه الغزوة بل انتهى المسلمون إلى تبوك ولم يلقوا جموع الروم والقبائل العربية المتنصرة وآثر حكام المدن الصلح على الجزية.
وقد مكث الجيش عشرين ليلة في تبوك ثم عادوا إلى المدينة.
العودة من تبوك:
وفي طريق العودة من تبوك إلى المدينة مر المسلمون بالحجر، وهي في ديار ثمود الذين امتحنوا بالناقة فنحروها فأخذتهم الصيحة لعتوهم وعصيانهم وقد سارع الناس إلى دخول بيوت الحجر فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين» ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي، كما نهاهم عن شرب الماء من بئرها أو الوضوء منه، وأن يعلفوا إبلهم ما عجنوه من عجين بمائها.
وقد اشتكى المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب إبلهم من الجهد في طريق العودة فدعا ربَّه: «اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف، وعلى الرطب واليابس، في البر والبحر»فنشطت بهم حتى أبلغتهم المدينة ولم يشتكوها.
وفي طريق العودة حاول المنافقون وهم متلثمون لا يعرفون تنفير دابة الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الثنايا لتطرحه، ففطن لهم وأمر بإبعادهم.
ولما اقترب الجيش من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه، ودخل المدينة فصلى في مسجده ركعتين ثم جلس للناس. وجاءه المنافقون المتخلفون عن الغزوة فاعتذروا بشتى الأعذار، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وجاء كعب بن مالك وقد سبقه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، وقد أقر الثلاثة بأنه لا عذر لهم في تخلفهم عن الغزوة، ولم يرضوا أن يضيفوا إلى ذنب التخلف ذنباً جديداً وهو الكذب فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الكلام مع الثلاثة، فاجتنبهم الناس خمسين ليلة وأمرت نساؤهم باعتزالهم، فذهبن عند أهلهن إلا زوجة هلال إذ كان شيخا كبيرا فبقيت لخدمته فقط بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ضاقت بهم الدنيا، وحاول ملك الغساسنة استغلال الموقف فراسل كعب بن مالك ليلحق به، لكن كعب بن مالك أحرق الرسالة وقال إنها زيادة في امتحانه. واستمرت المقاطعة حتى نزل القرآن يعلن توبة الله عليهم{وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} [التوبة: 118].
الأحكام المستنبطة من غزوة تبوك:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف الذي أم المسلمين في صلاة الفجر بتبوك حيث تأخر عنهم في حاجته، ولما قدم أراد عبد الرحمن أن يتأخر فأومأ له النبي أن يتم بهم الصلاة وصلى خلفه. مما يدل على جواز إمامة المفضول وصلاة الأفضل خلفه.
وقد سأله معاذ بن جبل عن عمل يدخله الجنة وهما في طريق العودة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأن رأس هذا الأمر الشهادة وقوامه الصلاة والزكاة وذروة سنامه الجهاد.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة عن سترة المصلي؟ فأجاب بأنها مثل مؤخرة الرحل.
وقد جمع في الغزوة بين صلاة الظهر والعصر، وكذلك المغرب والعشاء.
وقد أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة.
وفي الطريق إلى تبوك خرص الرسول صلى الله عليه وسلم حديقة في وادي القرى، أي حزر مقدار التمر الذي يجتني من الرطب على النخل، مما يدل على مشروعية الخرص.
وطلب الماء من بيت في تبوك وهو في قربة من جلد، وقال عن أهبة الميتة: دباغها طهورها.
وأهدر ثنية رجل عض يد رجل آخر فانتزعها بقوة ومعها الثنية.
ويستدل من مقاطعة الثلاثة المتخلفين عن الغزوة من الصحابة على جواز الهجر أكثر من ثلاث لسبب شرعي.
لقد حققت هذه الغزوة أهدافها بتوطيد سلطان الإسلام في الأقسام الشمالية من شبه الجزيرة العربية، وكانت تمهيداً لفتوح بلاد الشام، حيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة قبيل وفاته للتوجه إلى الشام، لكن الجيش لم يتحرك نحو أهدافه إلا في خلافة الصديق رضي الله عنه حيث حالت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دون إنفاذه في حياته، ورغم ظروف الخطر المحدقة بالمدينة وبكيان الإسلام كله بسبب حركة الردة فإن الصديق أصر على إنفاذ الجيش وما أن استتبت الأمور نسبيا حتى جهز الصديق جيوش الفتح إلى بلاد الشام والعراق تحقيقا لأهداف الدعوة الإسلامية بتحرير البشر من نير الظلم والطغيان والعبودية لغير الله {حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ} [البقرة: 193].
التعليقات