معركة حطين.. وما بعدها
بعد أن أقام صلاح الدين في الأقحوانة على الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية مدة خمسة أيام، ارتحل عنها باتجاه الغرب للوصول إلى قرية الصنبرة الواقعة عند التلال المحيطة بالمنطقة القريبة من بحيرة طبرية.
وعلى الرغم من نيته الاشتباك مع العدو في معركة فاصلة، إلا أنه أراد بتحركه أن يثيرهم ليدفعهم إلى ترك مراكزهم عند صفورية، والزحف إليه وقد نجح في ذلك؛ فقد أصدر الملك جاي لوزينان الأوامر إلى الجند بالمسير؛ فاتخذ الجيش الصليبي -الذي بلغ تعداده زهاء خمسين ألفًا- في الصباح الباكر من يوم الجمعة (23 من ربيع الآخر= 2 من يوليو) طريقه شرقًا نحو طبرية، يتقدمه ريموند الثالث؛ لأن الجيش يجتاز إمارته.
وقد واجه الجيش الصليبي المتقدم عدة مشكلاتٍ أَثَّرَتْ تأثيرًا سلبيًّا على قدراته القتالية، منها:
- انحطاط روح أفراده المعنوية، بعد الانقسام في الرأي بين القادة؛ فساروا مُكرَهين بين مؤيد للزحف ومعارض له.
- اشتداد حرارة الجو اللافحة في شهر تموز.
- افتقارهم إلى الماء.
- صعوبة الطريق الذي بلغ طوله ستة عشر ميلاً.
- تعرضهم لهجمات المسلمين الخاطفة.
ريموند يحاول الهرب:
اكتشف الصليبيون في صباح يوم السبت (24 من ربيع الآخر= 3 من يوليو) أنهم محاصرون بعيدًا عن الماء؛ فنزلوا مسرعين إلى قرون حطين، وهناك دارت معركة رهيبة انتصر فيها الجيش الإسلامي انتصارًا عظيمً، وهاجمت قوة صليبية بقيادة ريموند الثالث المسلمين في بداية القتال، في محاولة لاحتلال الممر المؤَدِّي إلى قرية حطين حيث بعض ينابيع الماء والآبار؛ فانفصلت عن باقي الجيش الذي كان يتبعه، وعندما وصل أفرادها إلى الممر وجدوا أنفسهم مُطوَّقين من جانب المسلمين، فحاولوا شَقَّ طريق لهم عبر صفوف المسلمين، ولكنَّ الرماة رموهم بالنبال؛ فلقي عدد كبير منهم مصرعهم على الفور، بينما وقع آخرون في الأَسْر.
وفي الوقت الذي كان فيه ريموند الثالث مُطوَّقًا من قبل المسلمين، كان قلب الجيش بقيادة الملك يستعد للقتال، وعندما بدأ الالتحام هجم فرسان الداوية والإسبتارية بقوة؛ فقتلوا بعض المسلمين، وتسببوا في انسحاب البعض الآخر إلا أنهم لم يستثمروا انتصارهم الجزئي هذا؛ لأن المشاة قصروا في مجاراة الفرسان؛ لأنهم كانوا مرهقين، وانسحبوا إلى تلة هي إحدى قرون حطين، وذُعِرَ الملك عندما رأى ذلك؛ فحاول أن يعيد الثقة إلى المشاة، ويردهم إلى مواقعهم، ولكنه فشل، ومع انسحاب المشاة انكشف قلب الجيش الذي تعرض لضربات المسلمين.
في ظل هذه الفوضى التي ضربت الجيش الصليبي، حاول الملك أن ينصب خيمة تكون مركزًا لإعادة التجمع، ولاحظ ريموند الثالث ما آلت إليه الأوضاع العسكرية من التدهور؛ فأيقن قبل أن تنتهي المعركة أن النصر سيكون في صالح صلاح الدين؛ ولذا بذل كل ما عنده من ذكاء لينجو بنفسه من الموقعة؛ فحاول أن يتراجع لكنه أخفق، ثم علت الصيحات بين صفوف الصليبيين: "من كان منكم يستطيع الهرب فليهرب؛ لأن المعركة ليست في جانبنا"، لكنَّ الهرب -حتى الهرب- كان مستحيلاً.
وكرر ريموند الثالث محاولته فك الطوق عن قواته، والانسحاب من المعركة عن طريق القيام بصدمة الجناح الإسلامي المقابل له بقيادة تقي الدين عمر، وقد نجحت خطته عبر ثغرة فتحها له القائد المسلم، وبعد أن اخترق صفوف المسلمين، أغلق القائد المسلم الثغرة، فانسحب ريموند من ساحة القتال، واتخذ طريقه إلى صور، ومنها إلى طرابلس.
القبض على صليب الصلبوت:
وظل فرسان الداوية والإسبتارية يقاتلون، في الوقت الذي فقدوا فيه الأمل بأي انتصار؛ فأمر صلاحُ الدينِ ابن أخيه تقي الدين عمر أن يهجم مع خيَّالته على الصليبيين الذين تضعضعت صفوفهم، واختل نظام جيشهم، وأشعل المسلمون خلال ذلك النيران في الأعشاب الجافة والأشواك؛ فحملت الريح لهيبها ودخانها باتجاه الصليبيين؛ فزادت من معاناتهم، واجتمع عليهم العطش، وحر الزمان، والنار والدخان والسيوف، وأدى ذلك إلى فرار من بقي منهم من ساحة المعركة إلى إحدى قرون حطين حيث شاهدوا تقي الدين عمر يقبض على صليب الصلبوت؛ فأُسْقِطَ في أيديهم، وكانت تلك أكبر خسارة تكبدوها.
وتجمع بعض الفرسان حول خيمة الملك لشن هجوم مضاد، لكن صلاح الدين عاجلهم؛ فاندفع المسلمون الذين صعدوا إلى التلة التي نُصِبَتْ فيها الخيمة وأنهوا المعركة، وأسروا كل من كان حول الملك وفيهم الملك نفسه وأخوه، ورينولد شاتيون صاحب الكَرَك، وجماعة من الداوية والإسبتارية، وكَثَُرَ القتلُ والأسرُ فيهم.
صلاح الدين يقتل شاتيون بيده:
سيق الأسرى إلى خيمة صلاح الدين التي أقامها في مكان المعركة؛ فاستقبل الملكَ والأمراءَ في لطف وبشاشة، وأجلس الأول إلى جانبه، وقد أهلكه العطش؛ فسقاه جلابًا مثلجً، فشرب منه وأعطى ما تبقى إلى رينولد شاتيون الذي كان إلى جانبه، ووفقًا لتقاليد الضيافة العربية متى جرى بذلُ الطعام أو الشراب للأسير، فإن ذلك يعني الإبقاء على حياته؛ ولذا بادر صلاح الدين إلى القول: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيناله أماني".
ثم التفت إلى رينولد شاتيون الذي لم يغفر له ما ارتكبه من أعمال السلب والنهب، وانتهاك الحرمات المنافية للدين، وأخذ يُذَكِّرُه بجرائمه وخيانته وغدره، ثم قام إليه وضرب عنقه بنفسه؛ فارتعد الملكُ وظَنَّ أنه سوف يحل دوره، غير أن صلاح الدين سَكَّن جأشه وأَمَّنَه، وقال له: "إن الملك لا يقتل ملكًا، وإنما هذا فإنه تجاوز الحد، فجرى ما جرى".
ثم أصدر أوامره بألا يتعرض الأمراء للأذى، غير أنه لم يود أن يُبقي على حياة الأسرى من الفرسان والرهبان الداوية والإسبتارية، فأجهز عليهم، وسيق الأسرى إلى دمشق، فتهيأت للأمراء أسباب الراحة، بينما تقرر بيع الأسرى الفقراء في سوق الرقيق.
الطريق إلى بيت المقدس:
وأضحى الموقف العسكري شديد الخطورة على مملكة بيت المقدس، وإمارتي طرابلس وأنطاكية؛ إذ لم يبقَ أمامه -بعد أن دمر أعداءه- إلا أن يفتح حصون الأرض المقدسة، وبخاصة أنه نتج عن خسارة الصليبيين، الذين ألقوا بكل ثقلهم في معركة حطين، أن وقع عدد كبير من أمرائهم وقوادهم وفرسانهم في الأسر، وعلى رأسهم الملك جاي لوزينان، حتى لم يبق لديهم من يصلح للقيادة.
يُضَافُ إلى ذلك أن الغرب الأوروبي لم ينتبه إلى الخطر قبل عام (583هـ= 1187م)؛ ولذا فإن احتمال مجيء حملة صليبية سوف يستغرق زمنًا؛ لذلك شرع صلاح الدين يفتح المدن والحصون الصليبية واحدة بعد أخرى، فتحًا سريعًا ومتواصل، مُرَكِّزًا ضرباته المباشرة على الموانئ المهمة.
والواقع أن عملية الفتح لم تكن حربًا بالمعنى العسكري المفهوم للكلمة، بل أشبه بنزهة عسكرية؛ إذ كانت المقاومة ضعيفة، مما سَهَّل للمسلمين الانتشار والتقدم، فكانت المدينة أو القلعة تسارع إلى الاستسلام لمجرد وصول المسلمين إليه، وذلك لعدم وجود قوة تدافع عنه، وإذا قاومت فإن مقاومتها تبدو ضئيلة. وقد قام صلاح الدين في هذا الوقت بفتح قلعة طبرية، وفتح عكا، ومدن الجليل، والمدن الساحلية.
والواقع أنه لم ينقضِ شهر جُمَادَى الآخرة حتى لم يَبْقَ للنصارى جنوبي طرابلس سوى صور وعسقلان وغزة، وبضع قلاعٍ معزولة، بالإضافة إلى بيت المقدس.
ويبدو أن صلاح الدين تخلى عن حذره هذه المرة أيضً، حين منح الصليبيين -بعد أن فتح المدن والحصون المشار إليها- حرية البقاء فيها أو الخروج منها، فذهب معظمهم إلى صور؛ ذلك أنه سرعان ما أدرك أن أمر هذه المدينة غدا صعبًا فتركه، وآثر الانصراف إلى غيرها؛ فقام بفتح عسقلان.
فتح بيت المقدس:
بعد أن فرغ صلاح الدين من فتح عسقلان والمدن المجاورة، تطلع إلى تحقيق هدفه الذي طالما جال بخاطره، وعمل له، وهو تحرير بيت المقدس تمهيدًا لطرد الصليبيين من المنطقة؛ فأخذ يستعد لتنفيذ هذه الخطوة، وحتى يقطع الطريق على احتمال هجوم صليبي بحري على الساحل الشامي أثناء حصاره لبيت المقدس؛ أرسل إلى قائد أسطوله في مصر حسام الدين لؤلؤ أن يخرج بأسطوله من مصر لحماية الشواطئ، وقطع الطريق على مراكب الصليبيين والاستيلاء عليها.
وبذلك يكون قد ضمن حماية مؤخرة جيشه البري، وأقفل حلقة الحصار على المدينة المقدسة؛ ومن ثَمَّ دعا أهلَها إلى إرسال وفد للتباحث في الشروط التي بمقتضاها تستسلم المدينة.
ويبدو أن سكان بيت المقدس قد أدركوا بعد تساقط المدن والمعاقل الداخلية والساحلية بيد صلاح الدين، أنهم أضحوا محاصرين فعلاً؛ فأرسلوا إليه وفدًا اجتمع به أمام عسقلان، فعرض عليهم تسليم المدينة بالشروط نفسها التي استسلمت بها بقية المدن والمعاقل الصليبية، أي يؤمنهم على أرواحهم ونسائهم وأولادهم وأموالهم، وأن يسمح لمن يشاء بالخروج من المدينة سالمً، ولكن سكان بيت المقدس رفضوا أن يسلموا المدينة، عندئِذٍ أقسم صلاح الدين أنه سوف ينالها بحد السيف.
ثم كرر صلاح الدين عرضه على سكان بيت المقدس؛ وذلك رغبة منه في عدم استخدام العنف مع مدينة لها حرمتها وقدسيتها عند المسلمين والنصارى على السواء، لكنهم أصروا على موقفهم الرافض؛ عندئذٍ قرر صلاح الدين اقتحام المدينة عنوة.
واجتمع داخل المدينة ما بلغ ستين ألفًا بين فارس وراجل سوى النساء والأطفال، بل إن الصليبيين قاوموا الجيش الأيوبي الزاحف، واستطاعوا قتل أحد الأمراء وجماعة ممن كانوا معه.
وقد وصل صلاح الدين إلى المدينة في (15 من رجب عام 583هـ= 20 من سبتمبر عام 1187م) وعسكر أمام أسوارها الشمالية، والشمالية الغربية، وشرع في مهاجمتها لكنه جُوبِه باستحكامات هذا الجانب المتينة المشحونة بالمقاتلين، بالإضافة إلى أشعة الشمس التي كانت تواجه عيون قواته فحجبت عنهم الرؤية الضرورية للقتال حتى بعد الظهر؛ لذلك طاف حول المدينة مدة خمسة أيام يبحث عن مكان يصلح للجيش أن يعسكر فيه إلى أن عثر على موضع في الجانب الشمالي نحو العمود وكنيسة صهيون، حيث الأسوار أقل متانة، فانتقل إلى هذه الناحية في (20 من رجب = 25 من أيلول)، وحين حَلَّ الليلُ بدأ بنصب المجانيق.
وتراشق الطرفان بقذائف المجانيق، وقاتل أهل بيت المقدس بحميَّة وكذلك المسلمون، حيث كان كل فريق يرى ذلك دِينًا عليه، وحتمًا واجبًا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني.
ولما رأى الصليبيون شدة القتال، وشعروا بأنهم أشرفوا على الهلاك؛ عقدوا اجتماعًا للتشاور، فاتفقوا على طلب الأمان؛ فأرسلوا وفدًا إلى صلاح الدين من أجل هذه الغاية، واشترطوا احترام مَن في المدينة من الصليبيين، والسماح لمن يشاء بمغادرتها.
كانت هذه الشروط هي نفسها التي سبق لصلاح الدين أن عرضها عليهم من قَبْلُ، لكنه رفض قبولها الآن؛ لأنه أوشك أن يفتح المدينة عَنْوَةً، وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.
وازداد موقف الصليبيين في الداخل سوءً، وراحوا ينظرون بقلق إلى المصير الذي ينتظرهم، ولم يسعهم إلا أن يحاولوا مرة أخرى إقناع صلاح الدين بالعفو عنهم، ولكن صلاح الدين سبق له أن أقسم بأنه سوف يفتح بيت المقدس بحد السيف، ولن يحله من قسمه سوى إذعان المدينة بدون قيد أو شرط.
في ذكرى الإسراء تم الفتح:
وتجاه هذا الإصرار، وبعد أن استشار مجلس حربه في الموقف، تقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل عشرة دنانير عن الرجل يستوي فيها الغني والفقير، وخمسة دنانير عن المرأة، ودينارين عن الطفل، ومن يبقَ فيها يقعْ في الأسر، واشترط أن يُدْفَعَ الفداءُ المفروضُ في مدى أربعين يومً، ومن لم يُؤَدِّ فداءَه خلال تلك المدة يصبحْ مملوكً، لكن تبين أن في المدينة نحو عشرين ألف فقير ليس بحوزتهم المبلغ المقرر للفداء؛ فوافق صلاحُ الدين أن يدفع باليان مبلغًا إجماليًّا قدره ثلاثون ألف دينارٍ عن ثمانيةَ عشرَ ألفًا منهم.
ودخل صلاح الدين المدينة يوم الجمعة (27 من رجب= 2 من تشرين الأول)، وشاءت الظروف أن يصادف ذلك اليوم في التاريخ الهجري، ذكرى ليلة الإسراء والمعراج.
سماحة القائد أم سماحة الإسلام:
ومن الأمور اللافتة ما حدث من طلب العادل من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير من الفقراء على سبيل المكافأة عن خدماته له مظهرًا بذلك تسامحًا كبيرًا، فوهبهم له؛ وإذ ابتهج البطريرك لذلك، لم يسعه إلا أن يطلب من صلاح الدين أن يهبه بعض الفقراء ليطلق سراحهم، فاستجاب لطلبه، ثم أعلن أنه سوف يطلق سراح كل شيخ، وكل امرأة عجوز، كما ذهب بعيدًا حين وعد نساء الصليبيين بأن يطلق سراح كُلِّ مَن في الأسر من أزواجهن، ومنح الأرامل واليتامى العطايا من خزائنه كل واحد بحسب حالته.
والواقع أن عطف صلاح الدين وسماحته كانت على نقيض أفعال الصليبيين في الحملة الصليبية الأولى؛ إذ كان مثالاً للمسلم المتسامح الذي يعفو من موضع القوة عمَّن أساء إليه، بل ويحسن إليه.
ثم عمل صلاح الدين على محو الآثار النصرانية في المدينة؛ فأعاد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى إلى سابق عهدهم، وأنزل الصليب الكبير الذي أقامه الصليبيون في أعلى قبة الصخرة، في حين غُسِلَتِ الصخرة بماء الورد وبُخِّرَت، ثم دخل صلاح الدين إلى المسجد الأقصى يوم الجمعة (4 من شعبان= 9 من تشرين الأول)، وصَلَّى فيه، وشكر اللهَ على توفيقه ونصره.
أصداء فتح بيت المقدس تهز أوربا:
ما كاد القتال ينتهي في حطين، وتتحقق خسارة الصليبيين، حتى أسرعت الرسل إلى غرب أوربا لإعلام ملوكها وأمرائها بما آلت إليه أوضاع الصليبيين في الشرق، ولم يلبث أن اقتفى أثرهم رسلٌ آخرون عقب فتح بيت المقدس.
والواقع أن تلك الخسارة وهذا الفتح أحدثا ردَّ فعل عنيف في المجتمع الغربي الذي ذُعِرَ لنبأ الكارثتين، واعتقد النصارى في الغرب أنهما جاءتا نتيجة إهمالهم في الاستجابة للاستغاثات المتكررة التي جاءت من مملكة بيت المقدس في السنوات الأخيرة.
وأدرك من اجتمع في (صور) من الصليبيين أنه ما لم تصلهم نجدة من الغرب، فإن فرص الاحتفاظ (بصور) ستتضاءل بعد أن ضاع كل أمل في استعادة المناطق التي فقدوه، ولم يلبث (كونراد دي مونتفيرات) أن أرسل (جوسياس) رئيس أساقفة (صور) إلى غرب أوربا في منتصف عام (583هـ= أواخر صيف عام 1187م)؛ ليطلب من البابا وملوك أوربا وأمرائها النجدة العاجلة.
الحملة الصليبية الثالثة:
أسفرت تلك الجهود عن قيام حملة صليبية ضخمة هي الحملة الثالثة في سلسلة الحملات الصليبية في اتجاهها إلى الشرق بقيادة ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وملك فرنسا فيليب أغسطس، والإمبراطور الألماني (فريدريك بربروسا).
غير أنَّ غرق الإمبراطور الألماني أدَّى لاختلال نظام جيشه، وعجز ابنه عن السيطرة على الجند؛ فعاد معظم أفراده إلى بلادهم، وواصل الباقون طريقهم إلى أنطاكية بقيادة فريدريك السوابي ومعهم جثة الإمبراطور.
لم يهنأ صلاح الدين بفتح عكا أكثر من عامين، فسرعان ما استجمع الصليبيون صفوفهم وتوجهوا نحو هذه المدينة للاستيلاء عليها بعد فشل (صلاح الدين) في فتح (صور).
غير أن صلاح الدين لم يكن باستطاعته أن يتفرغ للدفاع عن عكا وحدها، إذ اضطُرَّ أن يوزع قواته على أنحاء متفرقة من البلاد للدفاع والمراقبة؛ لذلك طلب صلاح الدين المساعدة من حكام المسلمين في الشرق والغرب، فكتب إلى أمراء الجزيرة والموصل، الذين لَبَّوْا نداء المساعدة على الرغم مما كان بينهم وبينه من فتور، مما يدل على وعي إسلامي للخطر الصليبي، وقد أثبت حصار عكا أن ثمة توازنًا بين قوتي الفريقين إلى حَدٍّ م، إذ لم يستطع الصليبيون اقتحام المدينة، واستطاع المسلمون في داخلها الصمود، وكذلك لم يستطع صلاح الدين إزاحتهم؛ فتشبث كل طرف بموقعه، في انتظار وصول الإمدادات التي تكفل له القيام بالهجوم.
وفي (12 من جُمَادَى الآخرة= 7 من يوليو) وصل أحد العَوَّامين يحمل آخر استغاثة من المدينة؛ إذ لن تستطيع الحامية أن تمضي في صمودها ما لم تصل إليها المساعدة، وما دار من قتال في (16 من جمادى الآخرة= 11 من يوليو) يُعَدُّ آخرَ ما بذله المسلمون من جهد؛ حيث عرضوا التسليم في اليوم التالي، وكان أن تَدَخَّلَ كونراد دي مونتفيرات، وعقد اتفاقية مع حامية عكا دون موافقة صلاح الدين؛ تضمنت ما يلي:
- استسلام عكا بِكُلِّ ما تحويه من سفن ومستودعات وذخيرة.
- يؤدي المسلمون للصليبيين فدية مقدارها مائتا ألف دينار.
- يطلق المسلمون سراح ألف وخمسمائة أسير صليبي، بالإضافة إلى مائة مُعينين من جانبهم.
- يرد المسلمون صليب الصلبوت إلى الصليبيين.
- يخرج المسلمون من المدينة سالمين.
وعندما اطَّلع صلاح الدين على فحوى الاتفاق رفضه بشدة، وعَظُمَ عليه الأمر، فاجتمع مع أركان حربه للتشاور وتقييم الوضع، وفي الوقت الذي كان يُعِدُّ فيه الجواب للحامية، فوجئ بألوية الصليبيين ترفرف فوق أبراج عك، وكان ذلك يوم الجمعة (17 من جُمادى الآخرة= 12 من يوليو)؛ إذ عقدت الحامية الاتفاقية باسمه، ونتيجةً لما اتصف به من الشرف لم يسعه إلا الالتزام به، ثم أمر بنقل معسكره إلى (شفرعم) على الطريق المؤدية إلى صفورية، بعيدًا عن المدينة، إذ لم يبق من مبرر لبقاء قواته على حصار عك، بالإضافة إلى أنه خشي من إقدام الصليبيين على مهاجمته.
وهكذا دخل الصليبيون عكا بعد أن حاصروها قرابة عامين.
ريتشارد الغادر:
ويبدو أن الصليبيين ماطلوا في تنفيذ الشق المتعلق بهم، وكان صلاح الدين قد أرسل لهم القسط الأول من المال والرجال الأسرى، ولما طالبهم بتنفيذ البند الخاص بهم كاملاً، رفضوا؛ عندها أدرك عزمهم على الغدر، ورفض أن يسلمهم ما تبقى من المال والأسرى، فما كان من ريتشارد قلب الأسد إلا أن أجرى مذبحة غادرةً بشعة داخل عك، حين أمر بقتل ثلاثة آلاف أسير مسلم، وبكى صلاح الدين متأثرً، ولكنه لم يسمح لأحد بالانتقام منهم ردًّا على ما ارتكبه الملك الإنجليزي إلا أنه أمر برد الأسرى الصليبيين الذين جلبهم من دمشق لإجراء التبادل.
صلح الرملة:
وحدث في هذه الأثناء أن غادر فيليب أغسطس عكا إلى صور في (7 من رجب= 31 من تموز) نظرًا لاعتلال صحته، ثم أبحر من صور إلى برنديزي بعد ثلاثة أيام. وإذ ارتحل الملك الفرنسي أضحى الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد قائدًا للجيش، وتولى مباشرة القتال مع صلاح الدين، حتى تم توقيع صلح الرملة[8] في (22 من شعبان 588هـ= 2 من سبتمبر 1192م)، والذي نص على:
- يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور شمالاً إلى يافا جنوبًا بما فيها قيسارية وحيفا وأرسوف.
- تكون عسقلان بأيدي المسلمين.
- يتقاسم المسلمون والصليبيون اللد والرملة مناصفةً.
- يحق للنصارى زيارة بيت المقدس بحرية.
- للمسلمين والنصارى الحق في أن يجتاز كل فريق منهم بلاد الفريق الآخر.
- مدة المعاهدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
واشترط صلاح الدين دخول بلاد الحشيشية في الصلح، بمعنى أن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء تُعَدُّ جزءًا من المناطق الإسلامية التي تشملها المعاهدة، وفي المقابل اشترط ريتشارد قلب الأسد دخول كل من صحب أنطاكية وطرابلس.
التعليقات