من الظواهر المتفشية بين كثير من شباب المسلمين اليوم والتي أخذت دائرتها تتسع حتى وصلت للشباب المتدين والملتزم بالسنن النبوية، وحتى الدعاة والخطباء؛ ظاهرة الانبهار باللغات الأجنبية وكثرة التحدث بها وإدراج الكثير من الكلمات الأجنبية في ثنايا الحديث حتى وصل الأمر لئن يدرج بعض الدعاة والخطباء في دروسهم المصطلحات الأجنبية من غير حاجة ماسة أو فعلية لهذا الإدراج، وما ذاك إلا لنوع من الهزيمة النفسية والانبهار بما عند الغرب من ثقافة وفنون، في الوقت الذي يجهل فيه كثير من هؤلاء المفتونين بالحضارة الغربية ولغتها، حقيقة وفضائل وخصائص اللغة العربية ومزاياها الرائعة، وأثرها على أداء الخطباء وإلقائهم.
أولاً: قوة اللغة من قوة الدولة:
من المعلوم أن اللغة العربية قوية في ذاتها لكونها لغة الوحي والتشريع، ولكنها زادت قوة مع قوة الدولة الإسلامية وزيادة حركة الفتح الإسلامي في المشرق والمغرب، لذلك كانت في زمن الخلافة إضافة إلى قوتها المعنوية قوية قوة مادية، وكان ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- يرى أن العربية استمدت قوتها من قوة الدولة الإسلامية، إذ اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في أماكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم. فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها. وأما من تَلِفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واستقلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون فيهم موت الخاطر.
ومن يطالع الفترات التاريخية التي كانت الريادة فيها للدولة الإسلامية، يجد فيها أن اللغة العالمية هي اللغة العربية، لغة الحضارة، لغة الثقافة، لغة العلوم، لغة التعلم، حتى أصبح أهل أوروبا يتفاخرون بتعلم العربية ويتباهون بالتكلم بها، حتى ضاق الأمر على قادة أوروبا وزعمائها مما دعاهم إلى مناصحة شعوبهم؛ قال: (ألفارو) أحد كبار مؤرخي أسبانيا في القرن التاسع الميلادي: " إن إخواني المسيحيين يدرسون كتب فقهاء المسلمين وفلاسفتهم لا لتفنيدها بل لتعلم أسلوب عربي بليغ. وأسفاه إنني لا أجد اليوم علمانياً يُقبل على قراءة الكتب الدينية أو حتى الإنجيل؛ بل إن الشباب المسيحي الذين يمتازون بمواهبهم الفائقة أصبحوا لا يعرفون علماً ولا أدباً ولا لغة إلا اللغة العربية، ذلك أنهم يقبلون على كتب العرب في نهم وشغف، ويجمعون منها مكتبات ضخمة تكلفهم الأموال الطائلة في الوقت الذي يحتقرون الكتب المسيحية وينبذونها… لقد نسي المسيحيون حتى لغتهم، ولن تجد بين الألف منهم واحداً يستطيع كتابة خطاب باللغة اللاتينية… ومن أبرز علامات قوة اللغة العربية وتأثيرها على الثقافات واللغات الأخرى وجود أكثر من ألف كلمة في اللغات الغربية أصلها يرجع للغة العربية.
لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون جهد أعداء الأمة بعد احتلالهم بلاد الإسلام أن يشغبوا على اللغة العربية، محاولين قطع صلة الأجيال المسلمة بلغتهم الأصلية. وما هذا الواقع الذي نعيشه إلا مخطط مدروس من الأعداء، وقد بذلوا لتحقيقه الجهد والعناء، قال نابليون لبعثته الوافدة إلى مصر: "علموهم الفرنسية ففي ذلك خدمة حقيقة للوطن". وقدكانت أولى توصيات الحاكم الفرنسي لجيشه الزاحف إلى الجزائر: "علّموا لغتنا وانشروها حتى تحكم الجزائر، فإذا حكمت لغتنا الجزائر فقد حكمناها حقيقة ". وقال اللورد ميكالي عن الهند:"يجب أن ننشىء جماعة تكون ترجماناً بيننا وبين ملايين من رعيتنا وستكون هذه الجماعة هندية في اللون والدم انجليزية في الذوق والرأي واللغة والتفكير". وقال الصهيوني ليفي أشكول: "إننا لن نسمح بوجود لغة واحدة وشعب واحد ودين واحد في الشرق الأوسط".
والشاهد أن ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمرها في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة التي يستعمرها، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها.
ثانياً: فضائل اللغة العربية:
أولاً: اللغة العربية لغة أهل الجنة:
روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك، على حسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثون سنة، وعلى لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-". [حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 6/43].
وروى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لسان أهل الجنة عربي". وقال الزهري: "لسان أهل الجنة عربي".
قال الإمام ابن القيم في نونيته (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية):
ولقد أتى أثر بأن لسانهم *** بالمنطق العربي خير لسان
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس: "أن آدم -عليه السلام- كانت لغته في الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية، فتكلم بالسريانية، فلما تاب ردّ عليه العربية".
وقال عبد الملك بن حبيب يقول: "كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربياً إلى أن بَعُد العهد وطال، حُرِّف وصار سِريانياً ". وقال سفيان الثوري:"لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه، واللسان يوم القيامة بالسريانية، فمن دخل الجنة تكلم بالعربية. [رواه ابن أبي حاتم].
ثانياً: اللغة العربية لغة القرآن والسنة:
لقد تواترت الآيات والدلائل من الكتاب والسنّة على عربية الوحي، قال الله –تعالى-: (ِإنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) [الرعد:37]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل:103]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) [طه:113]، وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء:195]، وقال تعالى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر:28]، وقال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت:3]، وقال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت:44]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3]، وقال تعالى: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) [الاحقاف:12]، وقال تعالى: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة) [الأنعام:157]، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "(فقد جاءكم من الله) على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- النبي العربي قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه". وقال تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) [مريم:97]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (فإنما يسرناه) يعني القرآن (بلسانك) أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل ". وقال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:199]، قال ابن كثير:"أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به. وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها، ورسائلها ".
وروى أبو بكر الأنباري في كتابه القيم (إيضاح الوقف والابتداء) عن الحسن البصري أنه سئل: ما تقول في قوم يتعلمون العربية؟ قال: "أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم". وقد بوب البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب نزل القرآن بلسان قريش). وقال الثعالبي: "إن من أحب الله أحب رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحب النبي أحب العرب، ومن أحبَّ العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها، وصرف همّته إليها ".
ثالثاً: اللغة العربية لغة العلوم وبالأخص علوم الشريعة:
فقد اشترط أهل العلم على من يطلب العلم ويريد أن يترقى فيه حتى يصير أهلاً للفتيا؛ أن يكون عالماً باللغة العربية، بصيراً بالنحو والصرف والمعاني والبلاغة إلى آخر علوم اللغة. قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه وما أريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن ".
وقال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه الله-: وفرض على من قصد التفقّه في الدين كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى، وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم-. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم:5]، ففرض على الفقيه أن يكون عالماً بلسان العرب ليفهم عن الله -عز وجل-، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويكون عالماً بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يُعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة وهى الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني، فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله –تعالى- ونبينا -عليه السلام-، ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يَحِلّ له الفتيا فيه؛ لأنه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله –تعالى- عن ذلك بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الأسراء:38]، وبقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج:3]، وقال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح -رحمه الله-: "المفتي المستقل، وشرطه: أن يكون عارفاً من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن الله –تعالى- لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغاً عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به، لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم، وسنذكر إن شاء الله –تعالى- بعض ما قاله العلماء، من الأمر بالخطاب العربي، وكراهة مداومة غيره لغير الحاجة ".
وجاء في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف:189]، قال أيوب: "سألت الحسن عن قوله (فمرت به) قال: لو كنت رجلاً عربياً لعرفت ما هي، إنما هي فاستمرت به ".
فكلما ازداد المفتي تبحراً في اللغة ازداد فهماً لنصوص الوحيين، وكلام السلف الصالحين قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: وما ازداد – أي المتفقه- من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيراً ".
دخل أبو يوسف القاضي على الرشيد ومعه الكسائي، وهما في مذاكرة وممازحة فقال:" يا أمير المؤمنين، إن هذا الكوفي قد غلب عليك! فقال: يا أبا يوسف، إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي وتأخذ بمجامعه. فقال الكسائي: يا أبا يوسف هل لك في مسألة؟! فقال: في نحوٍ أو فقه؟ قال: بل في فقه. فضحك الرشيد وقال: تُلقي على أبي يوسف الفقه! قال: نعم. قال: يا أبا يوسف، ما تقول في رجل قال لزوجه: أنتِ طالقٌ ان دخلتِ الدار؟ قال: إذا دخلت طلقت. قال: أخطأتَ يا أبا يوسف! فضحك الرشيد ثم قال: كيف الصواب؟ فقال: إذا قال (أنْ) وجب الفعل ووقع الطلاق، دخلت الدار بعد أو لم تدخل، وإن قال (إنْ) بالكسر لم يجب ولم يقع الطلاق حتى تدخل الدار".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق ". وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن يزيد قال: كتب عمر إلى أبي موسى -رضي الله عنه-: "أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي". وفي حديث آخر عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم"، وهذا الذي أمر به عمر -رضي الله عنه- من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله.
ثالثاً: فضل العربية على غيرها من اللغات:
قد يعتبر البعض أن تفضيل اللغة العربية على غيرها من اللغات من باب القومية أو العصبية أو غيرها من الروابط الأرضية، ولكن الحق أن اللغة العربية أفضل من غيرها من اللغات لأسباب كثيرة: فاللغة العربية أمتن تركيباً، وأوضح بياناً، وأعذب مذاقاً. قال ابن خلدون: "وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحقّ الملكات وأوضحها بياناً عن المقاصد ". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم، بعد أن ذكر إجماع أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم وروميهم وفرسيهم وساق الأدلة على ذلك ثم قال: "وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم. وذلك أن الفضل: إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح، والعلم له مبدأ وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة. والعرب هم أفهم من غيرهم، وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة. ولسانهم أتمّ الألسنة بياناً وتمييزاً للمعان، جمعاً وفرقاً، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، إذا شاء المتكلم الجمع، ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر ".
ويرى ابن فارس أن اللغة العربية أفضل اللغات وأوسعها، إذ يكفي ذلك دليلاً أن رب العالمين اختاراها لأشرف رسله وخاتم رسالاته، فأنزل بها كتابه المبين. ولذلك لا يقدر أحدٌ من التراجم أن ينقل القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، كما نُقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وتُرجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله بالعربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن العجم لم تتسع في المجاز اتّساع العرب.
وذكر الإمام السيوطي في معرض تفضيله للغة العربية على سائر اللغات مزايا وخصائص اللغة العربية، ومما ذكره:
1-كثرة المفردات والاتساع في الاستعارة والتمثيل.
2-التعويض: وهو إقامة الكلمة مقام الكلمة.
3-فكّ الإدغام، وتخفيف الكلمة بالحذف، نحو: لم يكُ.
4-تركهم الجمع بين الساكنين، وقد يجتمع في لغة العجم ثلاثة سواكن.
...............................
العتاب لمن تكلم بغير لغة الكتاب / تركي البنعلي.
اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية.
تفسير ابن كثير.
آداب المفتي والمستفتي.
التعليقات