تمَّ الاتفاق على هذا الظلم الفادح في أرضٍ مقدَّسةٍ هي أرض مكة، وتحديدًا في خيف بني كنانة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ[1] بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ". يَعْنِي ذلِكَ الْمُحَصَّبَ[2] وَذلِكَ أَنَّ قريشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم[3].
وقال أسامة بن زيد رضي الله عنه: قلتُ: يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ في حَجَّتِهِ. قال: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟» ثمَّ قال: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ". وَذَلِكَ أنَّ بَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَنْ لا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُؤْوُوهُمْ[4].
لعلَّنا نلحظ في هذه الروايات الْمَرارة التي يتحدَّث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتذكَّر الحدث، مع أنَّ حَجَّة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في العام العاشر من الهجرة، واتفاق قريش على هذا الظلم كان في أواخر العام السادس من البعثة؛ يعني أنَّه قد مرَّ على هذه القصَّة سبع عشرة سنةً كاملة؛ لكنَّه كان أمرًا محفورًا في الأذهان لا يُنسى على مدار السنين؛ حتى إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال يذكر المكان الذي كُتِبت فيه صحيفة الظلم، وهو خيف -أي وادي- كنانة، عند المحصب في أعلى مكة، وهو يذكر كذلك أن عَقِيلًا، وهو عَقِيل بن أبي طالب ابن عمِّه، وكان لم يُسلم بعدُ، قد باع دار أبي طالب التي كان من الممكن أن ينزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ونلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ذلك من شدَّة حزنه؛ حيث إن أسامة بن زيد لم يكن يسأل عن دار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دار عمِّه، إنما فقط يسأل عن المكان الذي سيستقرُّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تهيَّجت مشاعره عند ذكر المكان فقال هذا الكلام، ثم إنه -وكما يقول النووي- أراد أن ينزل في هذا المكان شكرًا لله تعالى على النعمة في دخوله ظاهرًا، ونقضًا لما تعاقدوه بينهم[5].
وملاحظة أخرى على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه ذكر أنَّ قريشًا تقاسمت على «الكفر»، وليس المقصود هنا بالكفر عبادة الأصنام، فإنَّ مسألة القسم على البقاء على الكفر من عدمه لم تُطْرَح في عهدهم؛ إنَّما يقصد أنَّ هذا الإجرام والفجور هو زيادةٌ في الكفر؛ وذلك مثل قوله عز وجل، وهو يتكلَّم عن النسيء: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37]، وهو يدلُّ على بشاعة القرار الذي أخذته قريش بحصار وتجويع بني عبد مناف على هذه الصورة.
هذا ما حدث في البلد الحرام!
لقد استجابت كلُّ قبائل قريش للأمر، وعلَّقت الصحيفة في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرَّم في السنة السابعة من البعثة[6]، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم، إلى شعب أبي طالب وتجمَّعُوا فيه، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ليكونوا جميعًا حوله لحمايته من أهل مكة.
وبدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، ولونٌ جديد من ألوان الابتلاء، تلك التي عاشها المسلمون في رحلة الدعوة الإسلامية، فقد قُطِع الطعام بالكلية عن المحاصرين، فلا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعوا شراءه[7]؛ ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم، وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يُسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدَّة وألم الجوع، وحتى اضطرُّوا إلى التقوُّت بأوراق الشجر؛ بل إلى أكل الجلود.
ولنقرأ شهادتين من شهادات الصحابة الذين عاشوا هذا الألم..
فقد قال عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ رضي الله عنه: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا...»[8].
ويصف سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذا البلاء قائلًا: «كُنَّا قَوْمًا يُصِيبُنَا ظَلَفُ[9] الْعَيْشِ بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشِدَّتُهُ، فَلَمَّا أَصَابَنَا الْبَلَاءُ اعْتَرَفْنَا لِذَلِكَ وَمَرَنَّا عَلَيْهِ وَصَبَرْنَا لَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَرَجْتُ مِنَ اللَّيْلِ أَبُولُ، وَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ بِقَعْقَعَةِ شَيْءٍ تَحْتَ بَوْلِي، فَإِذَا قِطْعَةُ جِلْدِ بَعِيرٍ، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ اسْتَفَفْتُهَا[10] وَشَرِبْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَقَوِيتُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا»[11].
هل استمرَّت هذه المأساة شهرًا أو شهرين؟!
إنَّها استمرَّت ثلاثة أعوام كاملة[12]!
وإنَّ الإنسان ليعجب من استمرار هذا الظلم على مرأى ومسمع من الجميع، وشَعْب مكَّة رجالًا ونساءً يُراقب الحدث، ويشهد الإبادة الجماعيَّة؛ بل تأتي الوفود للحجِّ سنة بعد سنة، وهم يُشاهدون هذه الجريمة، ولا صوت للحقِّ في هذا الزمان!
إنَّها صورة جاهليَّة مقيتة، انحدرت فيها أخلاق البشر حتى صارت أقسى من الوحوش الكاسرة، ومن العجيب أنَّ القرَّاء للسيرة يقرءون هذا الحدث ويستغربون ويستهجنون أن يصمت القرشيُّون والعرب على هذه الجريمة التي أصابت الكبير والصغير دون تمييز، وأهلكت الناس دون تفرقة، غريبٌ أننا نستهجن مثل هذه الصورة الجاهلية القديمة، ثم ترى بعضنا ينظر بدمٍ بارد إلى حوادث الحصار والتجويع المماثلة، التي تحدث في زماننا الآن تحت سمع وبصر العالم أجمع!
________________________________________
[1] الخيف: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يُسَمَّى: مسجد الخيف؛ لأنَّه في سفح جبلها، وقيل: الخيف هو الوادي.
[2] المحصب: موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب.
[3] البخاري: كتاب الحج، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة (1513)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الحج، باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة به (1314).
[4] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: "أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا" (2893)، وأبو داود (2010)، وابن ماجه (2942).
[5] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 9/61، 62.
[6] قال ابن سعد بسنده: وَحَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ لَيْلَةَ هِلالِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ حين تنبى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَانْحَازَ بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فِي شِعْبِهِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ، وَخَرَجَ أَبُو لَهَبٍ إِلَى قُرَيْشٍ فَظَاهَرَهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/163، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/149، وابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/192، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 10/59، وقال المقريزي: إلا أبا لهب وولده؛ فإنهم ظاهروا قريشًا على بني هاشم. انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع 1/44.
[7] قال السهيلي: وَكَانُوا إذَا قَدِمَتْ الْعِيرُ مَكَّةَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ السُّوقَ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ لِعِيَالِهِ فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عَدُوُّ اللهِ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمَّتِي، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا خَسَارَ عَلَيْكُمْ. فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي السِّلْعَةِ قِيمَتَهَا أَضْعَافًا، حَتَّى يَرْجِعَ إلَى أَطْفَالِهِ وَهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجَوْعِ وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ، وَيَغْدُو التُّجَّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ، فَيُرْبِحَهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ؛ حَتَّى جَهِدَ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ جَوْعًا وَعُرْيًا. انظر: السهيلي: الروض الأنف 3/217.
[8] مسلم: كتاب الزهد والرقائق (2967)، وابن ماجه (4156)، وأحمد (17611).
[9] الظَّلَف: الشدَّة والغلظ في المعيشة.
[10] استفَّ الشيء: تناوله يابسًا.
[11] ابن إسحاق: السير والمغازي ص194، الأصبهاني: حلية الأولياء 1/93، واللفظ له، والسهيلي: الروض الأنف 3/217، والذهبي: سير أعلام النبلاء 1/148، وقال محققو سير أعلام النبلاء: رجاله ثقات، إلَّا أن صالح بن كيسان، مؤدب عمر بن عبد العزيز، لم يدرك سعد بن مالك رضي الله عنه فهو منقطع. وسعيد المرصفي: الجامع الصحيح للسيرة النبوية 4/ 1367، والفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص353.
[12] ابن إسحاق: السير والمغازي ص159، وابن هشام: السيرة النبوية 1/353، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/164، والبلاذري: أنساب الأشراف 1/233، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/682، والكلاعي: الاكتفاء 1/210، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/147، 149، وابن كثير: البداية والنهاية 3/109.
التعليقات