إن أهم ما ينبغي في الخطبة هو مقدمتها المشتملة على براعة الاستهلال، ثم ما في جعبة الخطيب من الأساليب البيانية واللغوية، ثم وضوح المقصد والمعني بجلاء، ومن خلال جمل قصيرة مؤثرة، وتقسيم الخطبة إلى أقسام واضحة المعالم، ثم موضوعها وهو لبها وزبدتها، ثم خاتمة الخطبة وهو أن تشتمل على فقرات يسهل تذكرها أو حفظها بعد أن ينتهي الخطيب من حديثه، وهذه العناصر متداخلة فيما بينها، يبلغ الترابط بينها ذروته وجودته حسب مقدرة الخطيب، وغزارة معلوماته، ومهارته وخبرته. وإن أهم فن يعين الخطيب على هذه الانسيابية الخطابية وتحقيق الترابط المنشود، هو فن التخلص والاستطراد.
أولاً: التخلص:
هو الخروج والانتقال مما ابتدىء به الكلام إلى الغرض المقصود، برابطة تجمل المعاني آخذاً بعضها برقاب بعض، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من نسيب، إلى مدح، أو غيره، لشدة الالتئام والانسجام. فإذا كان حسناً متلائم الطرفين حرك من نشاط السامع وأعان على إصغائه إلى ما بعده، وإن كان بخلاف ذلك كان الأمر بالعكس. أما ابن رشيق فسمَّى الانتقال من غرض إلى آخر خروجًا، وطلب فيه التلطف لأبعادٍ نفسية وفنية؛ لأن لطافة الخروج سببُ ارتياح السامع، وشدَّد على ذلك؛ بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في الثاني لشدة الممازجة والالتئام، والانسجام بينهما، حتى كأنما أُفرِغا في قالَب واحد.
ومن الأخطاء البارزة التي يقع فيها بعض الخطباء، عدم قدرته على تحقيق الانسيابية في خطبته، بالخروج النجاح والنقل السلس بين أجزاء الخطبة، فترى أحدهم يطيل المقدمة، وربما تفصيل ما تحدث عنه في موضوع الخطبة السابقة، فلا يدخل في صلب الموضوع إلا بعد أن تكون الأسماع قد سئمت من الإصغاء إليه، ولسان حال المستمع يقول: أعطنا زبدة الموضوع، وأَرحنا بالمقصود -يرحمك الله!!
ثانياً: الاستطراد:
– الاستطراد في أصله اللغوي -طَرَدَ- له أكثر من معنى؛ منها:
الإبعاد، يقال: أطرده السلطان إذا أمر بإخراجه عن بلده، ويأتي بمعنى الضم: طردت الإبل طردًا وطردًا؛ أي: ضممتها من نواحيها، ويأتي بمعنى التتابع: اطرد الشيء: إذا تبع بعضه بعضًا وجرى، واطرد الأمر: استقام، واطردت الأشياء، إذا تبع بعضها بعضًا، واطرد الكلام إذا تتابع، واطرد الماء إذا تتابع سيلانه، ويأتي بمعنى التجاوز: طردت القوم: إذا أتيت عليهم وجزتهم، ويأتي بمعنى الاجتذاب وهو ضرب من المكيدة، يقال: استطرد له في الحرب إذا فر منه كيدًا ثم كر عليه، فكأنه اجتذبه من موضعه الذي لا يتمكن منه إلى موضع يتمكن منه، يقال: وقع لك على وجه الاستطراد، كأنه مأخوذ من ذلك وهو الاجتذاب؛ لأنك لم تذكره في موضعه، بل مهدت له موضعًا ذكرته فيه، فكأنما أخذ هذا اللقب -الاستطراد- من استطراد الفارس.
– الاستطراد في الاصطلاح له تعريفات كثيرة كما هو في اللغة، من أبرزها:
1-تعريف ابن المعتز: “الخروج من معنى إلى معنى”.
2-تعريف الجرجاني: “الاستطراد: سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر، وهو غير مقصود بالذات، بل بالعرض”.
3-تعريف السيوطي: “الاستطراد: أن يكون في شيء من الفنون، ثم سنح له فن آخر يناسبه، فيورده في ذكره”.
4-تعريف أبي هلال العسكري: “الاستطراد: وهو أن يأخذ المتكلم في معنى، فبينا يمر فيه يأخذ في معنى آخر، وقد جعل الأول سبباً إليه”. وقيل: “هو الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به، لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني”.
5-قال يحيى بن حمزة العلوي الطالبي: “الاستطراد: وهو نوع من علم البلاغة، دقيق المجرى، غزير الفوائد، يستعمله الفصحاء، ويعول عليه أكثر البلغاء، وهو قريب من الاعتراض الذي قدمنا ذكره، خلا أن الاعتراض منه ما يقبح، ويحسن، ويتوسط، بخلاف الاستطراد؛ فإنه حسن كله، ومعناه في مصطلح علماء البيان أن يشرع المتكلم في شيء من فنون الكلام، ثم يستمر عليه، فيخرج إلى غيره، ثم يرجع إلى ما كان عليه من قبل، فإن تمادَى، فهو الخروج، وإن عاد فهو الاستطراد، واشتقاقه من قولهم: أطرده السلطان، إذا أخرجه من بلده؛ لأن المتكلم يخرج من كلامه إلى كلام آخر كما ذكرناه”.
ثالثاً: الفرق بين التخلص والاستطراد:
اتضح من تعريفات الاستطراد السابقة اتفاق العلماء على تعريف الاستطراد بأنه الانتقال من كلام إلى آخر من غير قصد، ثم العودة إلى الكلام الأول، وهو ما يتفق في بعض الوجوه مع حسن التخلص، وإن كان حصل خلاف بين العلماء في التسمية، فمنهم من سماه الخروج، ومنهم من خلط بينه وبين حسن التخلص. ولكن يتضح الفارق بينهما في أن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، وقطع الكلام بعد المستطرد به، في حين أن التخلص يقتضي الخروج من الكلام، والاستمرار فيما يَخلُص إليه، وعدم العودة إلى الكلام الأول.
رابعاً: الاستطراد في القرآن الكريم:
وقع الاستطراد في كتاب الله في الكثير من الآيات البينات، وبصورة تتناسب مع إعجاز القرآن الكريم وبلاغته السامقة، منها على سبيل المثال: في سورة لقمان قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ*وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ*وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان: 13 – 15]، فاستطرَد من حكاية وصية لقمان لابنه وصيَّته سبحانه لعباده؛ لِما بينهما من المناسبة، ثم عاد إلى ما كان عليه من وصية لقمان لابنه، فقال: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) [لقمان: 16]، إلى آخر الآيات، ومنها في سورة الشعراء، حيث حكى قول إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء: 87]، فاستطرد إلى وصف المعاد بقوله (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) [الشعراء: 88]، إلى آخره، ثم عاد إلى ذكر الأنبياء والأُمم.
ومن الأمثلة القرآنية كذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) [الأعراف: 57 – 58]، قال المفسرون في تفسير لهذه الآية: “كذلك نخرج الموتى معترضة؛ استطرادًا للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يَستبعدونه، والإشارة بـ(كذلك) إلى الإخراج المتضمن له فعل (فَأَخْرَجْنَا )، باعتبار ما قبله من كون البلد ميتًا، ثم إحيائه؛ أي: إحياء ما فيه من أثر الزرع والثمر، فوجه الشبه هو إحياء بعد موت، ولا شك أن لذلك الإحياء كيفية قدرها الله وأجمل ذكرها لقصور الأفهام عن تصورها”. ومن الأمثلة القرآنية كذلك قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود: 95]. قال الطاهر بن عاشور في تفسيره لهذا الآية: “ويجوز أن يكون المقصود من التشبيه الاستطراد بذم ثمود؛ لأنهم كانوا أشد جرأة في مناوأة رسول الله، فلما تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة، ناسب أن يعاد ذكر أشدها كفرًا وعنادًا، فشبه هلك مدين بهلكهم”.
ومن الأمثلة اللطيفة قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا*وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك) [الإسراء: 78، 79]، فقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) من الاستطراد اللطيف؛ لأنه خرج من ذكر الليل إلى قرآن الفجر، ثم عاد بعده إلى ذكر الليل.
بالجملة فإن الاستطراد من المصطلحات البديعية التي توضح وتكشف، وتجلي براعة النص ودقة المعنى المراد، والغرض من إدخال كلام غير الذي بدأ به قائل النص، وأن ذلك يكون لأغراض تبين معاني مخبأَة يظهرها الاستطراد، فاستخدام الاستطراد في القرآن قد زاد وأبان وفصل المعنى المراد؛ كما يقول المفسرون والبلاغيون؛ لذلك أرى أن الاستطراد من أهم المحسنات البديعة التي يمكن من خلالها الوقوف على المزيد والمزيد من بلاغة وإعجاز القرآن الكريم، وكذلك الوقوف على فصاحة ومعاني الشعر العربي، ومعرفة الطبع من الصنعة والقصد. والاستطراد يحقق تقوية الرغبة، وشحذ الهمَّة من جديد، بما أوصى به الخطيب من وصايا في موضوع الخطبة، وهو يتطلب بذل الوسع في إلهاب الحماس، وتحريك العواطف، بنفس الاندفاع والإثارة في بداية الخطبة، لئلاَّ تذهب حلاوة الموضوع وحرارته من نفوس السامعين، غير يبقى أن طول الاستطراد يفسده، ويخرج بالسامع من المقصود الأصلي لموضوع الخطبة، لذلك يشترط في الاستطراد الإيجاز والبراعة اللفظية، ودقة التخلص منه، بالعودة سريعاً لصلب الموضوع الرئيسي للخطبة.
التعليقات