توجيهات للأئمة والمؤذنين في شهر رمضان
صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ
الحمد للَّه الذي شرع الشرائع ، وسن العبادات ، وجعل لها من الوسائل ما يقيمها ، ليتعبد الناس على أكمل وجه وأفضل طريقة ، وليتعاونوا على البر والتقوى ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبد اللَّه ورسوله ، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد ، فأُوصِي نفسي وإيَّاكم بلزوم تقوى اللَّه – جل جلاله – ومتابعة الأولى ، والحذر من اتباع الهَوَى ، ولزوم سنة النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – إمام الهدى ، كما أسأل المولى – جل جلاله – أن يجعلني وإياكم مِمَّن إذا أُعْطِي شَكَر ، وإذا ابْتُلِي صَبَر ، وإذا أذنب استغفر ، اللَّهم آمين .
إن موضوع ” تَوْجِيهات للأَئِمَّة والمؤذنين ” موضوع مهم ؛ لأن الإمامة ووظيفة الأذان من أعظم الأعمال التعبدية التي أمر اللَّه – جلا وعلا – عباده أن يلوها ، وأن يؤدوا الأمانة فيها ؛ لأن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام العملية ، فليس بعد الشهادتين إلا الصلاة ، والصلاة عِبادة للَّه – جلا وعلا – عظيمة ، فهي رُكن الإسلام ، وهي عِماد الدين ، وهي الفارقة بين الإسلام وبين الكفر ، كما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام من حديث جابر أنه قال : « إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ » .([1])
وفي السنن من حديث بريدة – رضي اللَّه عنه – أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال : « الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ » .([2])
ولَمَّا كان أمر الصلاة بهذه المثابة ، أمر اللَّه – جلا وعلا – ببناء المساجد في الأحياء ، وأن تَعْمُر بذكر اللَّه – جلا وعلا – من الصلاة وتلاوة القرآن وأداء النوافل ، قال تعالى : ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [ البقرة : 238 ] .
وقال سبحانه : ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ ﴾ [ التوبة : 18 ] .
وقال أيضًا جل من قائلٍ : ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ ﴾ . [ النور : 36 – 37 ] .
وقال أيضًا – جلا وعلا – لَمَّا ذكر وصف المتقين أنهم على صلاتهم دائمون ، وأنهم يحافظون على الصلاة : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ ، [ المؤمنون : 1 – 2 ] .
لما كان الأمر بالصلاة بهذه الأوامر العظيمة ، جعل اللَّه – جلا وعلا – للمحافظة على أدائها ولنيل رضوانه – جلا وعلا – بأدائها أحكامًا كثيرةً ، ومن ضمن تلك الأحكامِ الأحكامُ المتعلقة بدخول الوقت ، ومن يلي دخول الوقت أو الإعلان به ، والأحكام المتعلقة بالائتمام ومن يلي الإمامة في الناس ، فالتأذين والإمامة – كما يقول العلماء – وظيفتان شَرْعيَّتان عظيمتان ، جعَل اللَّه – جلا وعلا – فيهما أعظمَ الثواب ، وهما عِبادتان جليلتان ، وكلُّ عبادة لا بُدَّ في قَبولها من الإخلاص للَّه – جلا وعلا – ، وكل عَمَل لا يُخْلِص العبدُ فيه ذلك العملَ لربِّه جل جلاله ، فإنه مردود عليه ، ومن ذلك التأذينُ ، ومن ذلك إمامةُ الناس ، ولهذا أعظم ما يَنْبغي أن ينظر فيه إلى التأذين وإلى إمامةِ الناس أنهما عبادتان جليلتان ، لا بُدَّ فيهما للعبد من الإخلاص ، ومعنى الإخلاص في هذا الموطن أنه يَعْمَل هذا العمل تَقَرُّبًا إلى اللَّه – جلا وعلا – ، لا لنيلِ مالٍ أو لنيلِ رياسةٍ ، أو لكي يُثْنِيَ عليه الناسُ بِحُسن صوتِه أو بأنه كذا وكذا ، وإنما لأداء العبادة من أذان ومن عبادة الصلاة وإمامة الناس في ذلك ، وقد قال – جلا وعلا – : ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : 15 – 16 ] . دَلَّت الآية من سورة ” هود ” على أن العبد إذا كان يعمل العمل للدنيا فإن عمله باطل ، بل هو وَبالٌ عليه ، وتَوَعَّده اللَّه – جلا وعلا – على ذلك بقوله : ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ .
وهذا يدلك – كما قال العلماء – على أن إرادة الحياة الدنيا وإرادة المال وإرادة الجاه أو السُّمعة بأمر من العبادات يُعَدُّ قَدْحًا في الإخلاص ، وقد ذكر العلماء على هذه الآية أربعَ صور ، كما هو في شروح ” كتاب التوحيد ” ، وقد ساق الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه اللَّه – هذه الآية في أن الشرك إرادة الإنسان بعمله لدنيا([3]) ، وهذا قدح في الإخلاص ، ولهذا قال العلماء : إنما يأخذه الإمام أو المؤذن من رزق يَفْرِضه وَلِيُّ الأمر للإمام أو المؤذن .
فهو رزق له ليستعين به على أداء هذا الواجب الشرعي ، وهو واجب التأذين وواجب الإمامة ، فالتأذين واجب كفائي ، والإمامة كذلك ، وهذان الواجبان الشرعيان يُفرض لمن قام عليهما رزقٌ من بيت المال يُعينه على أداء ذلك ، ولكن لا يكون قصدُ الإمام أو قصدُ المؤذن ما يأخذه ، فإن أخَذَ أدَّى التأذينَ والإمامةَ ، وإن لم يأخذ لم يُؤَدِّ ، فهذا ليس من الإخلاص ، ولقد جاء ابنَ عمر رجلٌ طويل اللحية فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني لأُحِبُّك في الله . فقال ابنُ عُمر : لكني أُبْغِضُك في الله . فكأنَّ أصحابَ ابنِ عُمر لاموه وكَلَّموه ، فقال : إنه يَبْغِي في أذانه ، ويأخذ عنه أجرًا .([4])
والفرق بين الأجرة والرزق ، أن في الأجرة يقول من يريد هذا العمل : أعطوني كذا على الأذان ، وإلا لا أؤذن لكم ، أو أعطوني كذا على الصلاة الواحدة ، أو على الفرض الواحد وإلا لا أؤدي لكم . فمن قال ذلك فإنه يريد أن يُسْتأجر لأداء هذا العمل العبادي ، فليس جائز أن يُجاب على ذلك ، بل يجب على من يكون عنده أهلية لذلك أن يقوم به عند فَقْدِ مَن يقوم به من جهة التطوع ، وهذا الأصل العظيم إذا تحركت به النفوس فإنه يكون أداءً للأمانة ، وله بذلك أعظم ما يكون من الأجر ؛ لأنه يؤذن للَّه ، ويؤم الناس للَّه ، فإذا أذن للَّه وأم للَّه ، فإذا أتاه شيء من الرزق أو من المال أو من السكنى فإنها تعينه على أداء طاعة اللَّه – جلا وعلا – ، وليست مقصودة في نفسها ، وهذا مما ينبغي أن يُحاسِب كلُّ إمام وكلُّ مؤذن نفسَه على ذلك ، وأن يُوطِّن نفسه على الإخلاص والصدق في أداء هذه العبادة ، ولا يَقُل : أنا صليت اليوم الفروض كلها ، أو صليت أغلب الأسبوع وما تَغَيَّبت في هذا الأسبوع إلا مَرَّةً أو مرتين . هذا المنطق ليس شرعيًّا ، بل يجب عليه أن يحاسب نفسه على صغير الأمر وكبيره .
وها هنا مسألة تكلم العلماء عليها ، وهي : هل القيام بالأذان أفضل أم القيام بالإمامة أفضل؟
على أقوال لأهل العلم في ذلك ، فمنهم مَن قال : التأذين أفضل ؛ لأنه قد جاء في السنة الصحيحة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال : « المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْناقًا يَوْمَ القِيَامَةِ » .([5]) والإمامة لم يَرِد فيها مثل هذا الفضل .
وقال آخَرون : بل الإمامة أفضل ؛ لأن الإمامَ يكون الأقرأَ والأفقهَ ، والمؤذن لا يُشترَط أن يكون أقرأَ أو أن يكون أفقهَ ، إنما يُشترط فيه أن يكون عَالِمًا بالوقت مُؤتَمنًا في دينه ، وأن يكون حَسَن الصوت أو أحسن أهل المسجد صَوْتًا أو نحو ذلك ، ودلوا على هذا بأن النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – وَلِيَ الإمامةَ ، ولم يَلِ التأذين ، فدَلَّ على أن الإمامة أفضلُ من التأذين ؛ لأن اللَّه – جلا وعلا – لا يختار لنبيه – صلى اللَّه عليه وسلم – إلا الأفضل ، وهذا هو الصحيح .
إن التأذين فضله عظيم ، وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِى الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا » .([6])
فالتأذين فضلُه عظيم ، ولكن الإمامة أفضلُ من التأذين ؛ لأن الإمام يكون الأقرأ والأفقه والأعلم ، ولأن الإمام إذا أحسن فله ولجماعتِه الذين يُصلُّون معه ، ولأن النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – قام بالإمامة ، وقام بها بعدَه الخلفاءُ الراشدون ، وأئمةُ الإسلام كانوا يَلُون إمامة الناس في الصلوات المفروضةِ والجمعةِ ؛ لأنها هي الأفضل .
إذا تَبَيَّن ذلك ، فما هو عملُ المؤذن في الشرع ، وما هو عمل الإمام؟
أما المؤذن فهو الذي يُؤْذِنُ الناس بدخول الوقت ، يعني يُعلم الناس بدخول وقت هذه العبادة ؛ لأجل أن يُؤَدِّيَ الناسُ العبادةَ بعد دخول الوقت ، ويدعو الناس للصلاة ، يدعو الرجال القادرين للصلاة في المسجد جماعةً ، فالتأذين إعلام بدخول الوقت ، وإذا كان كذلك فأعظم مهمة على المؤذن هو أن يكون ضابطًا للوقت ، مُتحريًّا لذلك ؛ لأن أصل عملِه الشرعي هو أن يُعْلِم الناس بدخول الوقت ، وهو مُؤتَمن على هذا أعظم أمانةٍ ، وهذه الأمانة ليست مَنُوطةً بمال يتعلق بشخص ، وليست منوطة بشيء يسير يتعلق بعشرة أو عشرين ، وإنما هي منوطة بهذة العبادة العظيمة التي يترتب عليها الصيام ، ويترتب عليها الإفطار ، ويترتب عليها صلاة من يصلي في البيوت من ذوي الأعذار من الرجال والنساء ونحو ذلك ، ويترتب عليها أشياء كثيرة في الأحكام الفقهية مبنية على إعلام هذا المؤذن بدخول الوقت ، فأصل عمل المؤذن الإعلام بدخول الوقت ، إذا رفع الأذان ، وإذا كان كذلك كانت أهم مهمات المؤذن أن يضبط الوقت ، وفي رمضان بخصوصه يتأكد على المؤذن أن يتحرى الوقت لكل الصلوات ، وخاصة دخول وقت المغرب ، ودخول وقت الفجر ؛ لأن بالأول الإذنَ بالإفطار ؛ ولأن بالثاني وُجوبَ الصوم ، وهذا ما يُشْكَى منه في كل سنة ، من تفريط طائفة من المؤذنين من الدقة في دخول الوقت ، دخول وقت المغرب ، ودخول وقت الفجر ، وهذا يؤدي إلى خلل كبير في الإفطار ، فكم أفطر طائفةٌ من الناس على أذان مؤذنٍ ، ثم إذا به أذَّن قبل الوقت ، وكم تأخَّر المؤذن عند الفجر ، فيقول الناس الذين بقرب المسجد : لم يؤذن المؤذن . وربما استعجل أو تأخر ونحو ذلك .
فواجبٌ على المؤذن أن يَتَّقِيَ اللَّه – جلا وعلا – في عمله ؛ لأن عملَه ليس منوطًا بجهة حكوميَّة بوزارة أو بجهة من الجهات ، عمله يُتعبد به للَّه جل جلاله ، وهذا العمل يترتب عليه أعمال كثيرة شرعية ، فإذا فَرَّط فكل مَن فَرَّط وكل من أخطأ بعدَه وبسببِه في ذِمَّته ، فإذا لم يَتَحَرَّ وتهاون ، فالتهاون في الوقت هذا من الأعمال السيئة التي يترتب عليها آثار تتعلق بالصيام وبالصلاة وبغير ذلك .
مثلا في الفجر ربما يؤذن قبل الوقت ، فلا يتحرى ، أو ربما يتأخر فيؤذن بعد ذلك ، فيقع من يصلي في البيت أيضا في خلل في أمره ، فهو لا يدري هل صلى في الوقت أم لا؟ فيكون أدى العبادة بغير تحرٍّ .
إذن المؤذن في ذمته الناس الذين يسمعون أذانه ، فإن شاء استقل من الإثم ، وإن شاء استكثر ؛ لأنَّ في ذمته إعلامَ الناس بدخول الوقت في العبادة ، وقد ذكرت لكم أنه يترتب عليه الصلاة والصيام ، وقد يترتب عليه أشياء أخرى ، من الكفارات ومن صلوات أُخَر لأهل الأعذار والنساء ، أو طلاق أو أشياء من ذلك ، كما هو معلوم لأهل الاختصاص .
أما الإمام فإنه ضامن والمؤذن مؤتمن ، كما يروى في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « الإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ » .([7]) وهذا الحديث في إسناده علة وضعف ، ولكن يستشهد به في مثل هذا المقام ، يعني أن العلماء استشهدوا به .([8])
فالإمام ضامن ، ومنصب الإمامة منصب عظيم ، والأصل في ذلك أن الإمام هو أفقه الجماعة ، وأفقه أهل المسجد ، فهو أقرؤهم لكتاب اللَّه ، وأعلمهم وأفقههم بالصلاة ، كما جاء في الحديث الصحيح – حديث أبي مسعود البدري رضي اللَّه عنه – أنه قال : « يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله وأقدمُهم قِراءةً ، فإن كانوا في القِراءةِ سواءً ، فليؤمَّهم أقدُمهم هِجْرةً ، فإن كانوا في الهِجْرةِ سواءً ، فليؤمَّهم أكبرُهم سِنًّا ، ولا يُؤَمُّ الرجلُ في بيتِه ، ولا في سُلطانِه ، ولا يُجْلس على تَكرمتِه إلا بإذنِه » .([9])
فإذن الإمام هو الأقرأ ، والأقرأ في عُرف الصحابة في عهد النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – هو الذي يحسن القراءة والعلم والفقه ؛ لأنه هو الأفضل ، والصلاة تحتاج إلى قراءة ، يعني إجادة تلاوة القرآن ، وتحتاج أيضًا إلى علم بالأحكام الشرعية .
فإذن الإمام قبل أن يلي الإمامة عليه أن يتحرى هذا الأمر ، وهو حُسْنُ قراءته ، وأن يكون الأقرأ ، ثم أن يكون عالمًا بفقه صلاته ؛ لأنه ستَعْرِض له في الصلاة أشياء ، وأحكام ، كأحكام التلاوة وأحكام الركوع والسجود ، وأركان الصلاة ما هي ، وشروط صحة الصلاة ، وواجبات الصلاة ، وسنن الصلاة ، والسهو وما يكون فيه ، واختلاف بعض من يُؤَمُّ ، فقد يسألونه عن بعض الأحكام إذا سها ، أو إذا زاد ركعة أو نحو ذلك ، وكيف يكون الأمر ، وكيف يؤدي الصلاة إذا جهر وإذا لم يجهر ونحو ذلك ، فإذا لم يكن عالماً بفقه الصلاة فإنه لا يستحق أن يكون متقدمًا على الناس ، إلا إذا كان هو الأفضل فيهم ، وهو الأقرأ فيهم ، فإنه يكون معذورًا في ذلك ؛ لأنه يؤم القوم أقرؤهم ، ولو كان الجميع ضعفاء في العلم والقراءة فإنهم يختارون أمثلهم لذلك .
ولهذا كان في عهد النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – أحد الصحابة ، وكان عمره قريبًا من عشر سنوات في حي من الأحياء ، ليس في المدينة ، يعني في قبيلة من القبائل ، وكان يحفظ كثيرًا من القرآن ، فلما بحثوا عن إمام يؤمهم وجدوه أقرأ القوم للقرآن ، فكان يؤمهم ؛ لأنه أقرأ الناس للقرآن .
فإذا يؤم القوم أمثلهم في القراءة وأمثلهم في العلم ، والإمام في وظيفته عليه أن يتحرى المداومة وأن يضبط تلاوة القرآن ، ولا يفرط في القرآن ، فينساه ويترك التلاوة ، فبعض الأئمة قد يكتفي بآيات قد داوم عليها يقرؤها ، وهذا لا يغنيه في براءة الذمة ؛ لأنه ينبغي للإمام أن يحافظ على ما كان عليه النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – في سنته ، فيما كان يقرأ النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الفجر ، وفيما كان يقرأ في الظهر ، وفيما كان يقرأ في العصر والمغرب والعشاء ، فينتبه للسنة ، والنبي كان أكثر ما يقرأ بطوال المفصل في الفجر ، وربما قرأ من غيره قليلا ، وربما قرأ من قصار المفصل ، ولكن الأكثر أنه كان يقرأ بطوال المفصل ، واليوم كثير من الأئمة لا يقرءون بطوال المفصل في الفجر ، فتركوا السنة في هذا الأمر ، كذلك في صلاة المغرب بم يقرأ؟ وفي صلاة العشاء بم يقرأ؟ فمهمته القراءة ، فإذا كان يداوم على آيات يعرفها أو يجيد حفظها ، ويترك الباقي ، فإن هذا مما لا ينبغي له ، بل يعد مخالفًا بذلك ، فالمقصود من الصلاة أن يُسْمِع الناسَ كلام اللَّه – جلا وعلا – ، وخاصة صلاة التراويح في رمضان ، فالمقصود منها أن يجتمع الناس على هذه العبادة ، وأن يسمعوا كلام اللَّه – جلا وعلا – ، وسيأتي البحث في صلاة التراويح وواجب الإمام في ذلك ، ولكن حينئذ ينبغي لنا أن نقول : إن الإمام يجب عليه أن يحاسب نفسه بين الحين والحين فيما يحفظ من القرآن ، وفيما يقرأ على الناس ؛ لأن الناس إذا أتوا للصلاة فإنهم يرغبون في الخير ، ويرغبون في خشوع القلب ، ويرغبون في أن يكونوا أذلاء بين يدي اللَّه جل جلاله ، فإذا كانت قراءة الإمام ضعيفة أو كان يكرر الآيات ولا ينوعها على ما جاء في السنة ، فإن تأثير الناس بالصلاة يكون أضعف ، ولهذا قال بعض الصحابة رضوان اللَّه عليهم : لما سمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية : ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ﴾ [ سورة الطور : 35 – 36 ] . قال : كاد قلبي يطير .([10]) يعني من تأثره بسماع هذه الكلمات .
والآخر يقول سمعته يقرأ : ﴿ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ ﴾ [ ق : 10 – 11 ] . فجعلت أرددها ولا أدري ما قال .([11])
فالإمام إذا أحسن التلاوة ، وأحسن القراءة ، ونَوَّع على المأمومين ، فإنهم يتأثرون ، ولا شك أن حسن التلاوة مطلوب ، ولكن التأثير بالتلاوة أيضًا مطلوب ، فالتخشع في أثناء القراءة وعدم هَذِّ القرآن كهَذِّ الشِّعْر ، بل يكون بين الترتيل وبين الحَدْر ، هذا هو المناسب في تلاوة القرآن ، وهكذا كان النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – يقرأ في الصلاة ؛ لأنه قرأ في المغرب مَرَّة بالطور ، وقرأ في المغرب مَرَّة بالأعراف ، قَسَمها بين الركعتين ، وهذا يدل على حَدْره للقراءة .
أما في رمضان فالإمام عليه مسئولية عظيمة ، ومسئولية كبيرة وجسيمة ، ومن الواقع نجد أن بعض الأئمة التزم بهذه المسئولية ، ولكن البعض فَرَّط في شيء منها ، فما واجب الإمام؟ وما يستحب له في هذا الشهر العظيم؟
أولاً يجب أن يكون الإمام والمؤذن متعاونَيْنِ على أداء واجبهما ، فالخلافات التي تكون بين الإمام والمؤذن ليست ماضية ، والواجب على الإمام والمؤذن أن يتقيا اللَّه – جلا وعلا – في أن يكونا متعاونين ، فإن اختلفا فالأمر في المسجد للإمام وليس للمؤذن ، فقول الإمام هو الأصل ، وأما المؤذن فإنه تابع للإمام في ذلك ، فعلى المؤذن والإمام أن يتعاونا ، فإن اختلفا فقول الإمام هو الذي ينبغي أن يكون ، وليس قول المؤذن ، ولكن بما يتفق مع الشرع ، وبما يتفق مع ما لديهم من فتاوى للعلماء ، وتوجيهات من الجهات المختصة التي تتحرى الحق في ذلك .
ونحن نجد في رمضان بالنسبة للأوقات عدة ملاحظات :
أولا : بالنسبة للأذان بدخول العشاء ، جرت الفتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه اللَّه تعالى – على أن الأَوْلى أن يُؤخَّر أذان العشاء نصف ساعة في رمضان ، يعني أن يكون ما بين أذان المغرب وأذان العشاء ساعتين ، فإذا كان يُؤَذَّن للمغرب في الساعة الخامسة وخمس دقائق ، فإن أذان العشاء يكون الساعة السابعة وخمس دقائق ، كما سيكون في أول شهر رمضان – بلغنا اللَّه وإياكم إياه – وهنا يحصل الخلاف ، فبعض الأئمة يقول للمؤذن : أَذِّن قبل ذلك . فنسمع المؤذنين يؤذنون نصف ساعة ما بين أول الوقت إلى ما بعد نصف ساعة ، فمنهم من يلتزم أن يؤذن مثلا في الساعة السابعة وخمس دقائق ، ومنهم من يقول : أؤذن الساعة السادسة والنصف وخمس دقائق كالعادة . ولا يلتزم بما جَرَت عليه الفتوى ، وبما جاء به التوجيه من ولاة الأمر ، أو من الجهة المختصة – وهي الوزارة – في ذلك رعايةً للفتوى .
إن الأصل أن يُؤَذَّن في أول الوقت ، لكن أُخِّر لأجل المصلحة في ذلك ، ورعاية المصلحة لا بد منها ، وذلك لأسباب :
أولا : أن الفتوى جرت على ذلك ، والمسلم عامة يجب عليه أن يلتزم بالفتوى ، قال تعالى : ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : 43 ]
ثانيا : أن المؤذن يجب عليه أن يلتزم بما لديه من تعليمات ، وبما لديه من توجيهات ، وحينئذ فليس له أن يتقدم في ذلك بمحض رأيه .
ثالثًا : أن تفاوت المساجد في دخول العشاء لأجل رغبة الإمام أو رغبة المؤذن حصل به محذور شَكَا منه الذين يلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا أذن والمحل أُغْلق للصلاة ، والآخر يقول : لم يؤذن المسجد الذي بجوارنا فلا أغلق المحل . فصار هناك اضطراب لدى جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هل يحاسب صاحب المحل على عدم إغلاقه أو لا يحاسبه؟
فهنا لا بد من وقت واحد يلتزم به المؤذنون حتى يمكن محاسبة المقصر في تجارته بعد رفع الأذان ، ولكن هنا تُستثنى حالات خاصة ، وهي ما إذا كان جماعة المسجد جميعًا يرغبون في أن يصلوا في أول الوقت ، مثل أن يكونوا بقرب سوق من الأسواق ويريدون أن يصلوا في أول الوقت ، ويفتحون المحلات ، ثم يبدءون البيع والشراء بعد ذلك ؛ لأنه لو تأخر ربما لا يكون ذلك مناسبًا لهم .
فإذا كان المسجد في أول السوق فيستأذن صاحب المسجد ، ويقول : أنا في وسط السوق والناس يرغبون في أن تكون الصلاة مبكرة ، يعني مع الوقت المعتاد ، وهنا يكون له الإذن الخاص بذلك ، كذلك المستشفيات أحيانًا يكون هناك وضع خاص يتطلب أن تكون الصلاة في الوقت المعتاد ، ولكن هذا خلاف الأصل .
فحينئذ نقول : يجب على الإمام والمؤذن أن يتعاونا على تحقيق هذا الأمر ، وألا يتساهلوا ، وأما ما نراه من أن هذا يؤذن قبل الآخر بربع ساعة ، والثاني بنصف ساعة ، والثالث : يتأخر ونحو ذلك ، فهذا ليس بِحَسَن ، بل هو سيئ .
الأمر الثاني : أن الإمام والمؤذن في رمضان يجب عليهما أن يتعاونا في فتح المسجد للعبادة ؛ لأن بعضًا منهم يشدد في عدم فتح المساجد ، فلا يكون الإمام مسئولا عنه ، ولا يكون المؤذن مسئولا عنه ، ورمضان شهر عبادة ، وشهر طاعة ، وشهر إخبات ، والسلف الصالح – رضوان اللَّه عليهم – كانوا لا يتركون المساجد مغلقة في رمضان ، فهناك في هذا الشهر ما بين مُصَلٍّ وما بين تالٍ للقرآن وما بين ذاكرٍ ، فأحيانًا يكون الإمام مشغولا ، والمؤذن كذلك ، فيغلقان المسجد ونحو ذلك ، وهذا خلاف الأصل .
فإذا كان هناك من يرغب في أن يصلي ، أو أن يتلو القرآن في رمضان ، فينبغي على الإمام والمؤذن أن يتعاونا في بقاء المسجد مفتوحًا مع عنايتهم بذلك ، ورعايتهم ومراقبتهم لحال المساجد في رمضان .
الأمر الثالث : أن بعض المساجد يكون فيها إفطار للصائم ، وينتج عن هذا الإفطار روائح ، وهذه الروائح تنتشر في المسجد ، ولا سيما إذا كانت المساجد صغيرة ، وربما تعاون الإمام والمؤذن على هذا الإفطار ، وإفطار الصائم سنة أو مستحب ، وليس بواجب ، وبقاء المساجد مُطَهَّرة طيبة الرائحة هذا أعظم ، ولهذا كان الذي يأكل ثُومًا أو بَصَلاً ليس له الحق في أن يصلي في المسجد ، بل يصلي في بيته ، فقد نهى النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – عن أن يصلي مَن به روائح كريهة مع الناس في المسجد ، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا ، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا » .([12]) فكيف يكون حينئذ موائد في داخل المسجد ، وفيها الروائح التي ربما تَنْفُر منها الملائكة في أثناء أداء الصلاة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ – وَقَالَ مَرَّةً : مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ – فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ » .([13])
فيجب على المؤذن والإمام أن يتعاونا ، فإذا كان هناك إفطار فهذا أمر حسن ، لكن لا يكون في المسجد ، يكون في ساحةٍ خارج المسجد ، أو في مكان مستقل ، ويكون له هدف أيضًا ، أي يكون إفطارًا للمحتاجين والمساكين ، ويكون معه دعوة ، ويكون معه إرشاد للخير ونحو ذلك ، فهذا من الأعمال الصالحة ، أما أن يكون المسجد مسرحًا للموائد الكبيرة والروائح ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز ؛ لأن به التأذي من هذه الروائح .
ومما يلاحظ أيضًا في هذا المقام ما يتصل بصلاة التراويح ، وصلاةُ التراويح والقيام في العشر الأخيرة يجب على الإمام أن يَفْقَه الأحكام الشرعية لهذه الصلاة ، فصلاة التراويح للعلماء فيها خلاف في مسائل معروفة فيها عند أهل العلم ، وقد يختار الإمام قولا من الأقوال لنفسه ، لكن لا يجوز للإمام أن يعمل في المسجد باجتهاد خالف فيه أهل العلم والفتوى من أهل بلده ، فإذا كان يرى أن الصحيح هو كذا ، أو أن تُصَلَّى كذا ، أو يُصَلِّي ثنتين وفي آخر الوقت ثلاثة أو نحو ذلك ، فإنه لا يجوز له أن يجعل رأيه في المسجد ، بل هذه مسائل متعلقة بالعبادة ، فعليه أن يستفتي أهل العلم حتى تكون المساجد على نسق واحد في ذلك ؛ لأن الاجتهادات كثيرة ، فيكون كل إمام له اجتهاد ، وتكون في كل مسجد صفة للصلاة ، فهذا ليس بالمأذون فيه .
إن صلاة التراويح في رمضان يقبل الناس عليها وللَّه الحمد ، والنبي – صلى اللَّه عليه وسلم – صلى بأصحابه التراويح قبل أن تسمى بهذا الاسم ، صلى بهم في العشر الأواخر ثلاث ليال أو أربع حتى كثروا جِدًّا في المسجد وغص المسجد بهم ، وكانوا لا ينصرفون إلا قرب الفجر ، حتى كان أحدُهم يقول : نخشى أن يفوتنا الفلاح . يعني السحور ، ثم لَمَّا كان عهد عمر كثر الناس الذين يصلون في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، فكان يصلي الإمام ووراءه العشرة أو العشرون أوالثلاثون ، وآخر في الناحية الأخرى من المسجد ووراءه العشرة أو العشرون أوالثلاثون ونحو ذلك ، فَقَالَ عُمَرُ : ” إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ . ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فلما رآهم عمر يجتمعون ويصلون صلاة واحدة طويلة ، قال رضي اللَّه عنه : نعم البدعة هذه ” .([14]) يعني السنة التي سَنَنْتُها ، فليست بدعة ، يعني ليس لها أصل في الشرع ؛ لأن أصلها كان في زمن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، وإنما تركها – صلى اللَّه عليه وسلم – لا لرغبة عنها ، وإنما خشي أن تفرض ، وقد زالت هذه العلة بموته عليه الصلاة والسلام ، فكانوا في أول عهد عمر – رضي الله عنه – يصلون ثلاث عشرة ركعة ، صلى بهم أُبَيٌّ زمنًا ثلاث عشرة ركعة ، حتى ثقل عليهم ذلك ، فصلوا في آخر عهد عمر – كما ذكر البيهقي وغيره من المحققين – ثلاثا وعشرين ركعة ، وكانوا يستريحون من طول القيام ، فسُمِّيت صلاةَ التراويح لأجل أنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات ، يعني بعد كل تسليمتين يستريحون قليلا ، ثم يواصلون ، فكانت صلاتهم طويلة .
وهنا سؤال وهو : ما الأصل في صلاة التراويح ، هل يقصر أم يطول؟ أو ما العدد المشروع فيها .
صلاة التراويح هي صلاة الليل ، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم قال : « صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى » .([15]) كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنه ، وهذا يدل على أن صلاة الليل المأمور بها والمحضوض عليها تكون ثنتين ثنتين ، فليس في صلاة الليل – كما في السنة – صلاة أربع ركعات متواصلة بسلام واحد ، هذا خلاف السنة ، بل صلاة الليل مثنى مثنى ، فبعض الناس ربما يصلي أربع ركعات ، ويقول : هذه سنة وردت عنه صلى اللَّه عليه وسلم ، فقد سئلت عائشة : كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ : مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ : « يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي » .([16])
وهذا الحديث فهم منه بعضهم أنه يصلي أربع ركعات بسلام واحد ، وهذا الفهم غلط ؛ لأن السؤال وقع عن صفة صلاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، فأرادت رضي اللَّه عنها أن تبين أنه كان يصلي أربعًا ، ثم يفصل بينهما بفاصل ، ثم يصلي أربعًا أخرى ، يعني يستريح بين كل أربع وأربع استراحةً ، فقالت : ” يصلي أربعًا – يعني ثنتين ثنتين متواصلةً ، يسلم من هذه ويقوم للثانية – فلا تسل عن حسنهم وطولهن ” . فوصفت صلاة النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – في رمضان بوصفين : الحسن والطول ، وقولها : ” ثم ” . تفيد التراخي ، يعني أنه يمكث فترة ، ثم بعد ذلك يقوم ليصلي الأربع الأخرى ، يعني ثنتين ثنتين ، فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ولهذا ليست السنة في صلاة التراويح ولا في صلاة الليل أن يصلي المرء إحدى عشرة ركعة دون إحسان وتطويل ، كما ظن هذا طائفة ، حتى إن بعضًا من أهل العلم ظنوا أن السنة أن يصلي إحدى عشر ركعة بأي صفة ، وهذا غير صحيح ، فالسنة أن يصلي إحدى عشر ركعة حسنة طويلة ، هذه هي السنة ، ويشهد لهذا قول عائشة رضي الله عنها : ” يصلي إحدى عشرة ركعة فلا تسل عن حسنهن وطولهن ” . فمن ظن أن سنة صلاة التراويح أو صلاة الليل هو العدد دون الوصف ، فقد أخطأ السُّنةَ في ذلك ، بل السنة ما يجمع العدد والوصف ، بل الوصف هو الأكثر ، كما فهمه الصحابة – رضوان اللَّه عليهم – لما شقت عليهم ثلاثَ عَشْرة ركعة في عهد عمر ، فهم لم يهتموا بالعدد دون الوصف ، بل جعلوها ثلاثًا وعشرين ركعة ، فأبقوا على الطول ، وفي عهد عثمان – رضي اللَّه عنه – زادوها إلى تسع وثلاثين ركعة ، حتى يكون ذلك أخف على الناس ، وعلى الذي يريد أن يصلي بعضًا وينصرف ، أما أن يُصَلِّي إحدى عشرة ركعة في نصف ساعة فلا شك أن هذا خلاف السنة في أداء صلاة الليل أو صلاة التراويح ، لكنه مجزئ – بلا شك – من عمله ويكون قد حظي بالأجر ، لكن السنة ليست هي العدد فقط ، ولكن السنة العدد والوصف ، كما جاء في حديث عائشة في وصف صلاته – صلى الله عليه وسلم – بالليل بقولها : يصلي أربعا ، فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا ، فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا أو ثم يوتر .
وفي حديث ابن عباس – رضي اللَّه عنهما – أنه قال : ” نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي ، فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ ، فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، فَصَلَّى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ” .([17])
والعلماء يقولون : المُثْبِت مُقدَّم على النافي . ولهذا السنة أن يصلي إحدى عشرة ركعة ، أو يصلي ثلاث عشرة كما فعل عمر – رضي اللَّه عنه – في عهده ، وأمَرَ أُبَيَّ بنَ كَعْب أن يصلي بالناس ، لهذا هنا ينبغي على الأئمة في هذا المقام أن يراعوا أمورا :
الأمر الأول : أن يجتهدوا في أن تكون صلاة التراويح بخشوع وتمام للأركان والواجبات وبطمأنينة ، فالعجلة المخلة التي تفرط بالطمأنينة يؤاخذ بها الإمام ، وربما كان إثم مَن وراءه ممن أراد أن يصلي بخشوع وطمأنينة عليه ، ولا يلزم المأموم أن يصلي إحدى عشرة ركعة ، ولكن يصلي الذي يستطيعه ، يصلي ثنتين ، أو يصلي أربعًا ، ثم يوتر آخر الليل بواحدة ، لكن أن تكون الصلاة خفيفة والعدد إحدى عشرة ركعة هذا خلاف السنة في ذلك ، الأصل فيها أن يُتِمَّ الركوع والسجود والطمأنينة والخشوع ، لكن لا يلزم أن يطيل القراءة ، لكن عليه أن يتم أركان الصلاة ، فلا بد أن تكون الصلاة تامَّةً ، ولهذا يسر اللَّه – جلا وعلا – الأمر بالقراءة في قوله : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ . . . ﴾ إلى أن قال : ﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ . . . ﴾ وقال : ﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ [ المزمل : 20 ] .
فإذن القراءة تكون بما تَيَسَّر ، لكن إتمام الركوع والخشوع والطمأنينة هذا لا بد منه في الصلاة ، فلا يفرط فيه ، أما أن يصلي صلاة خفيفةً في ركوعها وسجودها ، ويطيل القراءة ، فهذا خلاف السنة ، وخلاف الذي نص عليه أهل العلم في هذه المسائل .
إذن فالقراءة تكون بما قال الله : ﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ﴾ ﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ [ المزمل : 20 ] . لهذا لما تعب النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – في آخر عمره وثقل ، كان يصلي سَبْعًا ، وكان يصلي تسعًا ، وكان يصلي إحدى عشرة ركعة ، وكان يصلي ثلاث عشرة ، بحسب نشاطه ، آخِذًا بقوله تعالى : ﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ﴾ . وكان يجعل قيامه وركوعه وسجوده قريبًا من السواء ، كما جاء في الصحيحين عنه صلى اللَّه عليه وسلم ، يعني كان يصلي صلاةً حسنةً طويلةً ، ومعلومٌ أن التعبد لم يكن بالكثرة ، التعبد والابتلاء يكون بإحسان العمل ، قال – جلا وعلا – : ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [ هود : 7 ] . فتحسين العمل هو المهم ، وكذلك أن يكون خالصا للَّه – جلا وعلا – وصوابًا على سنة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، ولهذا فليَحْذَر الإمام أن يستعجل في صلاته ، وليحذر أن يصلي صلاته بسرعة بما يُفَوِّت فيها الخشوع والطمأنينة ، وربما يقول بعض المأمومين : واللَّه إن الصلاة لتعب . وذلك لأنهم لا يحسون فيها بالخشوع الذي يكون فيه المناجاة ، والتعرض لنفحات الرب – جل جلاله – والتعرض لإجابة الدعاء ، كان الناس إذا سجدوا يكثر حنينهم ، ويكثر بكاؤهم ، ويكثر وَجَلُهم من اللَّه – جلا وعلا – ؛ لأن الصلاة كان فيها الخشوع ، وكان فيها الطمأنينة ، وكان فيها الطول ، أما أن تكون صلاة التراويح قصيرةً بما يقرب من ربع الساعة ، أو ثلثها ، فهذا – بلا شك – مذموم ، وإذا تساهل الإمام في ذلك فإنه ربما يأثم ، لكن قد يكون هناك سبب في بعض الحالات لتخفيف الصلاة ، وهذا يكون بتخفيف القراءة ، أما الركوع والسجود وما بين السجدتين ونحو ذلك ، فهذا لا بد أن يكون بخضوع وخشوع وطمأنينة .
فإذن صلاة التراويح من حيث العدد للمرء أن يصليها إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، أو ثلاثًا وعشرين ، لكن لا بد من الوقت وحسن الصلاة ، يعني طول الصلاة وحسن أدائها .
أما في العشر الأخيرة فقد كان العمل في هذه البلاد من وقت الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه اللَّه تعالى – إلى وقت قريب في صلاة التراويح ثلاثًا وعشرين ركعة ، على سنة عمر رضي اللَّه عنه ، وسارت الأمصار على ذلك على مر الأعصار ، فكانوا يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة طوال الشهر ، سواءٌ في العشر الأخيرة أم في العشرين الأولى ، لكن في العشر الأخيرة يزيدونها طُولا ، أخذًا بسنة النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – في أنه إذا جاءت العشر الأخيرة أيقظ أهله ، وأحيا ليله ، وشد المئزر .
فكونه – صلى اللَّه عليه وسلم – يحيي الليل كله في العشر الأخيرة مع بقاء العدد الذي كان يصلي به عليه الصلاة والسلام ، لا شك أنه يدل على أنه سيزيد في الصلاة طولا ، ولهذا فهم علماء الدعوة من هذا الحديث وأنه يجتهد في الصلاة والعبادة في العشر . أنه تُطال الصلاة في ذلك ، فيجعلون منها خمس تسليمات طويلة ، حتى ما كانوا يستريحون في العشر الأخيرة في الليل إلا قدر ساعة إلى ساعتين ، على اختلاف في ذلك .
بعض الأئمة يصلون ثلاث عشرة ركعة ، ويجعل تسليمتين بعد العشاء ، ثم ثلاثا في آخر الليل ، والتسليمتين الأُولَيَيْن ينتهي منهما في ساعة إلا ربع ، أو ربما إذا أطال بعضهم قرب من الساعة ، أو ما أشبه ذلك ، وينتهي من الثلاث تسليمات في ساعة ، ويكون في العشر الأخير المسجد فارغًا من الصلاة أكثر من أربع أو خمس ساعات خلال الليل ، وهذا – بلا شك – مخالف لما كان عليه عمل الصحابة وعمل التابعين ، وعمل العلماء المهديين وأئمة الإسلام ، فقد كانوا في العشر الأخير يجتهدون في الصلاة ، ولهذا نقول : إن جعل الصلاة على هذا النحو ليس بجيد ، وليس عليه عمل ، وإنما هو فَهْمٌ حَدِيثٌ لهذا الأمر ، ولو أنه يكثر من الركعات على ما كان في عهد عمر – رضي اللَّه عنه – ويطيل الصلاة ، لكان هذا أولى ، و المشغول من الناس يصلي ما كتب اللَّه له ، ثم ينصرف ويصلي في بيته ما كتب اللَّه له ، لكن أن تكون الصلوات في المساجد نصف ساعة ، أو ساعة إلا ربع ، أو أن يهتم بالعدد ويترك الوصف ، ويقول : هذه هي السنة . فهذا خلاف السنة ، إذا أرد السنة فليتبع قول عائشة : ” يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ” ([18])
وكذلك إذا جمعت صلاة الليل كلها في العشر الأخير وكانت ساعة ونصفًا أو ساعتين ، أو ساعتين ونصفًا ، ومجموع ساعات الليل الباقية لا صلاة فيها فهذا أيضا خلاف السنة ، والإمام ينبغي له أن يصلي على السنة ، مع مراعاته لحال المأمومين .
مما ينبغي أيضًا على الإمام أن يُلاحظه في رمضان القنوت في الركعة الأخيرة من الوتر بعد الركوع ، فهذا أمر مستحب وكان عليه العمل ، وأمر به النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، والقنوت عبادة عظيمة للَّه – جلا وعلا – .
والدعاء فيه أمر عظيم ، وكان عمر – رضي اللَّه عنه – يقول : ” إني لا أحمل هم الإجابة ، وإنما أحمل هم الدعاء ، فإذا أُلْهِمت الدعاء ، فإن الإجابة معه ” .([19]) وهذا من عظيم فقه الصحابة رضي اللَّه عنهم .
إن أفضل الدعاء وأعظمه هو ما كان يدعو به النبي صلى اللَّه عليه وسلم ؛ لأنه الأعلم بربه – جلا وعلا – ، والأتقى للَّه ، والأخشى للَّه ، كما صح عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال : « إنَّ أتْقَاكم وأعْلَمَكم بالله أنا » .([20]) ، ولأنه – عليه لصلاة والسلام – أوتي جوامع الكلم ، يعني الكلمات الوجيزة التي فيها الخير الكثير ، فكل ما تحتاجه تجده في دعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، فالإمام إذا أراد الأفضل وأراد الأتقى وأراد الأخشى ، أو إذا أراد الاتباع أو إذا أراد السنة – وهذا كله مطلوب من الإمام – فإنه يهتم بما جاء عن النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – من أدعيه ، وليس من سنة دعاء القنوت الطول ، فبعض الأئمة قد يطيل دعاء القنوت ، ويظن أن إطالته سنة ، وهذا غير صحيح فدعاء القنوت السنة فيه التقصير ، وقد صلينا وراء أجلاء من مشايخنا – رحمهم اللَّه تعالى – وكان قنوتهم قصيرًا ، يعني لا يتجاوز أربع دقائق ، أو خمسًا إذا أطال ، وربما كان أقصر ؛ لأنه ليس المقصود طول الدعاء ، بل قد يكون الطول في الدعاء فيه تَعَدٍّ .
إذن ليحرص الإمام في دعاء على أن يكون دعاؤه مجابًا ، وألا يتعدى في دعائه ، وأن يكون مُتقرِّبًا إلى اللَّه – جلا وعلا – بهذا الدعاء ، وهذا يتطلب منه أن يحفظ الدعاء الوارد عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، فلا يأت وهو لا يدري بماذا يدعو ، وكما مر أن عمر رضي اللَّه عنه كان يقول : ” إني لا أحمل هم الإجابة ، وإنما أحمل هم الدعاء ، فإذا أُلْهِمت الدعاء ، فإن الإجابة معه” .([21]) فعليه أن يتحرى ما كان يدعو به النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، والناس لا يريدون أدعية مخترعة ، فأفضل الدعاء دعاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، والناس لا يريدون إلا هذا ، فكونه يجتهد في أدعية تغلب على دعائه في القنوت ويطيل ، فهذا خلاف السنة ، فإذا أراد أن يدعو بدعاء زائد على ما في السنة فلا بأس أن يدعو بذلك ، لكن يكون قليلا لحاجةٍ اقتضتْ ذلك ، أما أن يطيل على نحو ما ذكرنا فهذا خلاف السنة .
وكذلك عليه أن يجتنب في الدعاء السجع المتكلف ؛ لأنه مما كُرِه في الدعاء ونَهَى عنه السلف بل ربما كان من الاعتداء في الدعاء ، أن يستعمل السجع المتكلف ، يعني يحرص على أن يكون دعاؤه مسجوعًا ، والسجع مَنْهِيٌّ عنه في الأصل ، إلا ما لم يقصده العبد ؛ لأن السجع من أساليب الكهان ، ولذلك نُهِي عنه في دعاء المسلمين ؛ ففيه مشابهة لما يقصده الكهان في أدعيتهم ، والعياذ باللَّه ، فالأصل الكراهة ، فلا يقصده الإمام ، إما إذا أتى عفوًا ، فلا بأس ، ولكن أن يقصد وأن يكتب دعاء مسجوعًا ، ويظن أن هذا أفضل ، فهذا خلاف الصحيح ، بل هو مكروه ، كما نص عليه الأئمة .
ومما يلاحظ أيضًا في دعاء القنوت أن يجتنب الوصف ، وقد قال جمع من أهل العلم : إنه إذا أخرج الدعاء في الصلاة إلى الوصف ، فإن صلاته تبطل .
ما معنى الوصف؟
يعني بدلا من أن يدعو يذهب إلى أن يصف ، مثلا في الدعاء من فتنة عذاب القبر ، يبدأ بذكر وصف الميت وكيف حاله ساعة الوفاة ، ثم يذكر وصف القبر بخمس أو ست أو سبع جُمَل ، ليس لها علاقة بالدعاء ، بل هي وصف زائد على الدعاء ، وقد قال جمع من أهل العلم : إذا وصف في دعائه شيئًا وَصْفًا مقصودًا فإنها تبطل صلاته ؛ لأن الصلاة للدعاء وليست للأوصاف ، فكيف يكون ذلك والناس سيأمنون ، فهو يكون بهذا الوصف قد حول القنوت إلى وعظ ، وهذا – بلا شك – يجعل صلاته على خطر ، فالقنوت ليس كلمة وَعْظيَّة ، القنوت عبادة فيها الدعاء ، قال تعالى : ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [ غافر : 60 ] . وثبت عنه – صلى اللَّه عليه وسلم – أنه قال : « الدُّعاءُ هو العِبادةُ » .([22])
فإذا كان يريد أن يكون قنوته وَعْظًا أو تَحْميسًا أو ربما بكاء ، أو أن يكون تذكيرًا ، أو نحو ذلك ، فهذا يعرض صلاته للبطلان على قول جمع من أهل العلم .
إن الدعاء فيه خشوع ، وفيه الطلب من اللَّه – جلا وعلا – وفيه الذل ، وفيه الخضوع ، أما إن يعظ فهذا ليس مَحَلَّ وعظ ، والصلاة ليست محل وعظ ، الوعظ يكون في الخطبة .
ويجب على الإمام والمؤذن أن يتعاونا في ذلك ، وأن ينبه بعضهم بعضًا في ذلك ، وكذلك الجماعة ، ينبغي لهم إذا رأوا الإمام أخرج الدعاء عن مقصوده من وعظ أو وصف أو حماس أو نحو ذلك أن ينبهوه ؛ لأنه بذلك يكون قد أخرج الدعاء عن محله .
إن قنوت الوتر غير قنوت النوازل ، فهذا له حكم ، وهذا له حكم ، فقنوت الوتر له أحكامه وأدعيته التي ثبتت في السنة وقال بها الصحابة ، ودعاء النوازل له وضعه في ذلك .
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضًا في هذا المقام أن الإمام في صلاة التراويح عليه أن يُسْمِع الناس القرآن ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من أهل العلم ، فالمقصود من صلاة التراويح التعبد وإسماع الناس القرآن – يعني القرآن كله – فإذا كان كذلك ، فليس من السنة وليس من عمل السلف أن يدخل صلاة المغرب والعشاء والفجر في القراءة ويعتبر الختمة بذلك ، فبعض الأئمة يقرأ في المغرب من ختمته ، وفي العشاء وفي الفجر ، وهذا لم يجر عليه عمل أحد من أهل الإسلام في القرون المفضلة ، وربما يكون مُحْدَثًا وبِدْعة ؛ لأن صلاة المغرب لها قراءتُها ، وصلاة العشاء لها قراءتُها ، وصلاة التراويح لها قراءتُها ، وكان عمر – رضي اللَّه عنه – يصلي بهم العشاء ، ثم ينصرف إلى بيته ليصلي فيه ، رضي اللَّه عنه ، ويأتي أُبَيٌّ ويقرأ بهم القرآن من قراءته ، فلم تكن قراءة الفجر والمغرب والعشاء صلةً لقراءة التراويح ، هذا أمر ليس بسنة ، بل هو محدث ، ويجب على الإمام ألا يفعل ذلك ، فصلاة التراويح مقصودة بقراءتها ، ولا يلزم أن يختم ، بعض الأئمة سألني مرة وقال : إذا بقي على ختمتي مثلا خمسةُ أجزاء ، فهل لي أن أقرأها في البيت ثم آتي في صلاة التراويح وأقرأ آخِرَ جزء من القرآن؟
ليس المقصود أن تختم ، المقصود أن تقرأ للناس ،
﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ ﴾ ، [ المزمل : 20 ] سواء ختمت أم لم تختم ، الأمر واسع ولله الحمد ، لكن أن يظن أنه يختم بأي طريقة ولو كان على خلاف هدي السلف ، فهذا ليس بجيد .
والتنبيه الأخير في هذا المقام بخصوص دعاء ختمة القرآن ، فالذي عليه عمل أئمة الإسلام كالإمام أحمد ، والشافعي ، وسفيان بن عيينة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ، والإمام محمد بن عبد الوهاب ، وأئمة الدعوة ، أن دعاء ختم القرآن يكون بعد الفراغ من قراءة القرآن ، وليس دعاء الختمة في القنوت ، بعض الأئمة قد يأتي بدعاء الختمة في القنوت ، وهذا غلط .
سأل الإمام أحمدَ الفضلُ بن زياد ، وكان يؤم الإمام أحمد في صلاة التراويح ، فقال : ” يا أبا عبد الله ، أختم القرآن ، أجعله في الوتر أو في التراويح؟ قال : اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنتين ، قلت : كيف أصنع؟ قال : إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع ، وادع بنا ونحن في الصلاة ، وأطل القيام . قلت : بم أدعو؟ قال : بما شئت . قال : ففعلت بما أمرني ، وهو خلفي يدعو قائمًا ويرفع يديه ” . قال حنبل سمعت أحمد يقول في ختم القرآن : إذا فرغت من قراءة ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [ الناس : 1 ] فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع . قلت : إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال : رأيت أهل مكة يفعلونه ، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة .([23])
والسبب في ذلك أن دعاء الختمة مختلف عن دعاء القنوت ، ودعاء الختمة روي عن عثمان – رضي اللَّه عنه – في الصلاة ، وجاء عن أنس ، وابن مسعود في خارج الصلاة ، والنبي – صلى اللَّه عليه وسلم – لم يختم بهم القرآن ، فلذلك لم يدع دعاء الختمة ، حتى إنه ليُقال : إنه محدث . فهو لم يختم ولم يدع ؛ لأنه ما قرأ بهم القرآن كله في الصلاة .
وهنا لما كان ما قبل الركوع مكان للدعاء دعاء النازلة ، وجاء عن السلف أن لقارئ القرآن عند ختمه دعوة مجابة ، فما قبل الركوع مكان للدعاء ، فتركب من الدليلين أنه يدعو بالختم بعد الفراغ من القراءة وقبل الركوع ، كما فهمه الإمام أحمد ، والشافعي ، وسفيان ، وأئمة الإسلام ومالك ، ولم يُعرف عن أحد من المتقدمين خلاف ذلك ، بل قد قال جمع من أهل العلم : هو شبه إجماع .
لكن إذا دعا بدعاء الختم فينبغي أن يكون دعاء الختم بمناسبة ختم القرآن ؛ لأن لقارئ القرآن عند ختمه دعوة مجابة ، ومن أحسن الختمات المنقولة ختمة شيخ الإسلام ابن تيمية التي تنسب إليه ، ففيها جوامع للدعاء بهذه المناسبة ، أما تطويل دعاء الختم بأن يكون ثلث ساعة ونصف ساعة بأدعية مكررة ، وهو لم يستعد للدعاء ، فهذا أيضا من القصور في هذا الأمر العظيم .
على كلِّ حال المقام مقام كبير وعظيم ، وأنا أوصي نفسي وأوصي كل من حمل نفسه أن يكون مُؤذِّنًا أو أن يكون إمامًا للناس أن يتقي اللَّه – جلا وعلا – ، وأن يحذر من الحساب ؛ بأن يعمل في الناس شيئًا ليس محمودًا ، فإن تقصيره سيكون عليه ، فعلى الأئمة أن يلتزموا بطريقة السلف ، وبما عليه الفتوى ، وأن يكثروا الاجتهاد في المساجد ، وأنه إذا أشكل عليهم شيء فليسألوا عنه ، فإنما شفاء العي السؤال .
أسأل اللَّه الكريم لنا جميعا أن يبلغنا الشهر الكريم شهر رمضان ، وأن يجعلنا ممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا ، اللَّهم أقمنا فيه على تقواك والإخلاص لك ، اللَّهم اجعلنا مدركين له على ما تحب وترضى ، وبلغنا إياه ، وامنحنا فيه القبول والتوبة ، وقبول العمل والإقبال عليه ، والرغبة فيما عندك ، إنك جواد كريم ، كما نسألك – وأنت أكرم مسئول – أن تغفر لوالدينا ولمن له حق علينا ، وأن تجعل هذا الشهر الكريم شهر إجابة لدعائنا ، وأن تغفر لنا فيه الزلات ، وألا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، إنك جواد كريم ، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين ، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد .
..................................
( [1] ) أخرجه مسلم ( 1 / 88 ، رقم 82 ) .
( [2] ) أخرجه الترمذي ( 5 / 13 ، رقم 2621 ) ، وقال : حسن صحيح غريب . والنسائي ( 1 / 231 ، رقم 463 ) ، وابن ماجه ( 1 / 342 ، رقم 1079 ) .
( [3] ) كتاب التوحيد الذي هوحق الله على العبيد ص46 .
( [4] ) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ( 1 / 481 ، رقم 1852 ) .
( [5] ) أخرجه مسلم ( 1 / 290 ، رقم 387 ) .
( [6] ) أخرجه البخاري ( 2 / 955 ، رقم 2543 ) ، ومسلم ( 1 / 325 ، رقم 437 ) .
( [7] ) أخرجه أحمد ( 2 / 232 ، رقم 7169 ) ، وأبو داود ( 1 / 143 ، رقم 517 ) ، والترمذي ( 1 / 402 ، رقم 207 ) .
( [8] ) صححه الألباني في الترغيب والترهيب فليراجع كلام الشيخ .
( [9] ) أخرجه أبو داود ( 1 / 214 ، رقم 582 ) .
( [10] ) أخرجه البخاري ( 4 / 1839 ، رقم 4573 ) .
( [11] ) أخرجه مسلم ( 1 / 336 ، رقم 457 ) .
( [12] ) أخرجه البخاري ( 1 / 292 ، رقم 817 ) ، ومسلم ( 1 / 394 ، رقم 564 ) .
( [13] ) أخرجه مسلم ( 1 / 395 ، رقم 564 ) .
( [14] ) أخرجه البخاري ( 2 / 707 ، رقم 1906 ) .
( [15] ) أخرجه البخاري ( 1 / 337 ، رقم 946 ) ، ومسلم ( 1 / 516 ، رقم 749 ) .
( [16] ) أخرجه البخاري ( 1 / 385 ، رقم 1096 ) ، ومسلم ( 1 / 509 ، رقم 738 ) .
( [17] ) أخرجه البخاري ( 1 / 247 ، رقم666 ) ، ومسلم ( 1 / 525 ، رقم 763 ) .
( [18] ) سبق تخريجه .
( [19] ) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 199 .
( [20] ) أخرجه البخاري ( 1 / 16 ، رقم 20 ) .
( [21] ) سبق تخريجه .
( [22] ) أخرجه أحمد ( 4 / 271 ، رقم 18415 ) ، وابن أبي شيبة ( 6 / 21 ، رقم 29167 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ( 1 / 249 ، رقم 714 ) ، وأبو داود ( 2 / 76 ، رقم 1479 ) ، والترمذي ( 5 / 211 ، رقم 2969 ) وقال : حسن صحيح . والنسائي في الكبرى ( 6 / 450 ، رقم 11464 ) ، وابن ماجه ( 2 / 1258 ، رقم 3828 ) . وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1312 .
( [23] ) المغني لابن قدامة 1 / 838 .
التعليقات