فن التعامل مع الناس (4)
عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله
8ـ الفت النظر إلى الأخطاء تلميحاً وبكُلِّ لباقةٍ:
أنت وأنا والناس جميعا يكرهون أن ينتقدهم غيرهم إلا أننا جميعاً كثيراً ما نفعل أفعالاً تستدعي الانتقاد، فإذا وددت انتقاد الغير وكان هناك موجبٌ حقيقيٌ لذلك، فكيف نفعل؟.
لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم قدوةً حسنةً، حينما قال لعبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل " فنجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عالج الخطأ بكل لباقةٍ بل وقدم المدح والثناء قبل لفت النظر إلى الخطأ.
إن المقصود بالانتقاد والتوجيه هو إصلاح الغير مع ضمان عدم إثارة البغضاء في قلبه، ولهذا كان على المنتقد أن يلجأ إلى التلميح بما يراه ناقصاً، ولكن من طرفٍ خفيٍ.
9ـ تكلَّم عن أخطائك أولاً، وقدٍّم اقتراحات مهذبة:
إن افعل هذا، ولا تفعل ذاك لا تعطي نتيجةً طيبةً كقولك: (أليس من الأفضل أن تفعل هذا؟) أو (أليس من الأفضل أن لا تفعل ذاك؟) ذلك أن الأمر الجازم صعبٌ على النفس أن تتقبله، وحتى لو تقبله الرجل الذي توجه إليه الأمر فإن توجيهك ذلك له يُبقي في نفسه جرحاً غائراً يطول قبل أن يندمل، أما الاقتراح (المهذب) فهو مستساغٌ لا يشعر المرء تجاهه بغضاضةٍ فينفذه راضياً محتفضاًبعزته وتقدير نفسه.
قبل بضع سنوات، قرَّرَ مجلس إدارة شركة (جنرال إلكتريك) إقالة رئيس قسم الحسابات في الشركة وكان مهندساً كهربائياً عبقرياً طالما انتفعت به الشركة، لكنه لم ينجح في إدارة قسم الحسابات أيَّ نجاحٍ، وكانت الشركة تقدر للرجل فضله لكن تود كفَّ يده عن قسمٍ حيويٍّ فيها، فكيف تبلغه ذلك؟.
لقد اخترعت له منصب " المهندس المستشار للشركة " وجعلته عليه ثم سلمت إدارة القسم لشخصٍ آخر... فحاول دائماً أن تحفظ ماء وجه الآخرين.
10ـ لا تعامل الناس باستعلاء:
الناس يكرهون من يعاملهم باحتقارٍ و استعلاءٍ مهما كان هذا الإنسان. روى هارون بن عبد الله الجمال، فقال: (جاءني أحمد بن حنبل بالليل ـ انظروا كيف يكون التصرف يريد أن يصحح خطأً! ـ، فدقَّ علي الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، ـ لم يقل: الشيخ أحمد ـ فبادرت وخرجت إليه فمساني و مسِّيته. فقلت: حاجة أبي عبد الله؟ (أي: ما حاجتك؟)، قال: شغلت اليوم قلبي. فقلت: بماذا يا أبا عبد الله؟، قال: جُزتُ عليك اليوم وأنت قاعدٌ تُحدِّث الناس في الفيء (الظل) والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر. لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس). انظر كيف كانت النصيحة والذي يرويها ليس الإمام وإنما ذلكم الشخص المتأثر بالنصيحة!.
11ـ احترم آراء الآخرين، ولا تقُل لأحدٍ: أنت مخطئ:
حين تبدأ كلامك مع رجلٍ بأن تقول له: ((أنت مخطئ)) أو((اسمع يا هذا: سأثبت بطلان ما تقول))، أو باللهجة العامية: ((ما عندك سالفة))، أتدري أنك في تلك اللحظة تعني: أنك أيها الرجل تعوزك براعتي و ينقصك ذكائي، قف أمامي ذليلاً لكي أدلك على الطريق الذي بلغه ذهني المتوقد وحكمتي الأصيلة؟ هذا هو المعنى بالضبط... فهل تقبل بأن يوجه إليك أحدٌ مثل هذا القول؟ كلا طبعاً. إذن، فلماذا توجهه إلى الآخرين؟.
قال اللورد شستر فيلد في رسالته إلى ولده: ((يا بني... كُن أحكم الناس إذا استطعت، ولكن لا تحاول أن تقول لهم ذلك)). فلماذا يسارع الواحد منا بنشر التأكيد والجزم وحتى في أمورٍ غامضةٍ، لمجرد الادعاء بالعلم، أو مناكفة الغير، أفتظن أن قولك: ((أنت مخطئ)) سيوصلك إلى نتيجةٍ مع من تحدثه بنفس القدر الذي يوصلك إليه قولك: ((قد أكون أنا مخطئا))، فلنفتش عن الحقيقة. إن إقرارك باحتمال أن قولك غير مصيب لا يُضعف موقفك كما قد يُخيلُ إليك، فالسامعون يتأثرون بك وبنزاهتك وحبك للإنصاف، أما من قابلته مباشرة بتخطئته فيصعب عليك إقناعه بالخطأ بعد ذلك، فهذه طبيعة النفس البشرية فهي تتأثر انعكاساً. فاحترم آراء الغير مهما كانت وصغرت، يحبك الناس ويتأثرون بشخصك، وأكبر دليلٍ على ذلك صبره - صلى الله عليه وسلم - على جفاء الأعراب حين يخاطبوه، يدخل الرجل منهم مغضباً ويخرج وأسارير الرضا على وجهه.
(تقدير عواطف الآخرين وعدم جرح مشاعرهم):
روى ابن إسحاق عن ابن عباس: - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَريّ بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبدالمطلب فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرهاً". فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آبائنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لأن لقيته لألحمنه أو لألجمنه بالسيف. فبلغت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص أيضرب وجه عمِّ رسول الله بالسيف، فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقة بالسيف فوالله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلت يومئذٍ ولا أزال منها خائفاً. إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيداً. (الرحيق المختوم ص: 246)
يتبع (12)
التعليقات