تخطـي الرقـاب أثناء خطبة الإمام يوم الجمعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ :
فلا يجوز للداخل إلى المسجد أن يتخطَّى الرقاب، ويُفرِّق بين الجالسين، أو يقيم أحداً من مكانه؛ ليجلس هو، ولكن له –إن لم يجد مكاناً- أن يقول: افسحوا، ففي "صحيح مسلم" أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال:(لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا).
وفي صحيح البخاري أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-,قال:(لا يغتسل رجل يوم الجمعة،ويتطهر ما استطاع من طهر،ويدهن من دهنه،أو يمس من طيب بيته،ثم يخرج؛ لا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر الله ما بينه وبين ا لجمعة الأخرى).
وعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)(1).
وعندما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة وهو يخطب قال له -صلى الله عليه وسلم-: (اجلس فقد آذيت)(2).
و" قَدْ فَرَّقَ النَّوَوِيّ بَيْن التَّخَطِّي وَالتَّفْرِيق بَيْن الِاثْنَيْنِ وَجَعَلَ اِبْن قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي التَّخَطِّي هُوَ التَّفْرِيق . قَالَ الْعِرَاقِيّ : وَالظَّاهِر الْأَوَّل , لِأَنَّ التَّفْرِيق يَحْصُل بِالْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَخَطَّ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي حُكْم التَّخَطِّي يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَاكِيًا عَنْ أَهْل الْعِلْم إِنَّهُمْ كَرِهُوا تَخَطِّي الرِّقَاب يَوْم الْجُمُعَة وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ . وَحَكَى أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَنْ الشَّافِعِيّ التَّصْرِيح بِالتَّحْرِيمِ , وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي زَوَائِد الرَّوْضَة : إِنَّ الْمُخْتَار تَحْرِيمه لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة وَاقْتَصَرَ أَصْحَاب أَحْمَد عَلَى الْكَرَاهَة فَقَطْ . وَرَوَى الْعِرَاقِيّ عَنْ كَعْب الْأَحْبَار أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَدَع الْجُمُعَة أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى الرِّقَاب . وَقَالَ اِبْن الْمُسَيِّب لأَنْ أُصَلِّي الْجُمُعَة بِالْحَرَّةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ التَّخَطِّي . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة نَحْوه وَلَا يَصِحّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة صَالِح مَوْلَى التَّوْأَمَة عَنْهُ . قَالَ الْعِرَاقِيّ : وَقَدْ اسْتُثْنِيَ مِنْ التَّحْرِيم أَوْ الْكَرَاهَة الْإِمَام أَوْ مَنْ كَانَ بَيْن يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يَصِل إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّخَطِّي , وَهَكَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي شَرْح الْمُهَذَّب فَقَالَ إِذَا لَمْ يَجِد طَرِيقًا إِلَى الْمِنْبَر أَوْ الْمِحْرَاب إِلَّا بِالتَّخَطِّي لَمْ يُكْرَه لِأَنَّهُ ضَرُورَة , وَرُوِيَ نَحْو ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيّ , وَحَدِيث عُقْبَة بْن الْحَارِث الْمَرْوِيّ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ , قَالَ " صَلَّيْت وَرَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْر ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَاب النَّاس إِلَى بَعْض حُجَر نِسَائِهِ فَفَزِعَ النَّاس مِنْ سُرْعَته فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ " الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى جَوَاز التَّخَطِّي لِلْحَاجَةِ فِي غَيْر الْجُمُعَة , فَمَنْ خَصَّصَ الْكَرَاهَة بِصَلَاةِ الْجُمُعَة فَلَا مُعَارَضَة بَيْنهمَا عِنْده , وَمَنْ عَمَّمَ الْكَرَاهَة لِوُجُودِ عِلَّة التَّأَذِّي فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار عَنْهُ , وَقَدْ خَصَّ الْكَرَاهَة بَعْضهمْ بِغَيْرِ مَنْ يَتَبَرَّك النَّاس بِمُرُورِهِ وَيَسُرّهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَتَأَذَّوْنَ لِزَوَالِ عِلَّة الْكَرَاهَة الَّتِي هِيَ التَّأَذِّي قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ "3.
والحاصل أن على الراغب في الصلاة في الصفوف الأولى أن يبكر بالحضور إلى المسجد، حتى يتمكن من الجلوس فيها، ولا يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الجالسين، فيسبب لهم الأذية، ويوقع نفسه في هذه المعصية، فإذا كان حريصاً على الصفوف الأولى بكَّرَ بالحضور، وإلا جلس حيث انتهى به المجلس.
وقد تكون غاية هؤلاء الذين يتخطون الرقاب الوصول إلى أما كن خاصة في المسجد، يلازمون الصلاة فيها؛ كالصف الأول، أو خلف الإمام، أو قرب المنبر، ولا يلذ لهم التعبد أو الإقامة إلا بها، وإذا أبصر من سبقه إليها، فربما اضطره إلى التنحي له عنها؛ لأنها محتكرة، أو يذهب عنها مغضباً، وهو يحوقل ويسترجع(4).
قال الشيخ القاسمي: (ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حدة ناشئ من الجهل، أو الرياء والسمعة، وأن يقال: إنه لا يصلي إلا في المكان الفلاني، أو إنه من أهل الصف الأول، مما يحبط العمل ملاحظته ومحبته، فنعوذ بالله)(5).
فعلى المسلم أن يحرص على أن يتزود من فعل الخير، ولا يكون حضوره إلى المسجد إلا لاكتساب الحسنات، والتعرض لنفحات الرحمن، لا يأتي فيكسب السيئات بسبب أفعاله: من تخطيه رقاب الآخرين، وإيذاء المصلين، والتشويش عليهم.
وفَّقَ اللهُ الجميعَ لما يحبه ويرضاه، وزوَّدنا الله التقوى، وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم،والحمد لله رب العالمين.
1 - رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر صحيح أبي داود رقم (331).
2 - رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (989).
3 - عون المعبود، للآبادي عند شرح الحديث السابق.
4 - المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (صـ 83).
5 - المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (83-84).
موقع إمام المسجد
التعليقات