الاستعمار والاحتفاء بالمولد
د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف
حكى المؤرِّخ الجبرتي أنَّ الفرنسيين في مصر أحيوا الاحتفال بالمولد النبوي سنة 1213هـ، ودفعوا تكاليفَه، واجتمعوا في يوم المولد ولعبوا وضربوا طبولهم[1].
وأورد الجبرتي في حوادث سنة 1214هـ أنَّ (الفرنساوية) أذِنُوا بإقامة الموالد، "لِمَا رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتِّباع الشهوات والتلاهي وفِعْل المحرَّمات"[2].
وأشار الجبرتي إلى أنَّ طبيعة (الفرنساوية) المجون والخلاعة[3]، وهذا مُتحقِّق في المولد كما شُوهِد وجُرِّب.
ومن شواهد هذه الأيَّام أنَّ السفير الأمريكي بالقاهرة لا يفوتُه مولد البدوي[4]، فالبدوي يَحمِي الوحوشَ في البر، والأسماك في البحر، فكيف يعجز عن حماية من يحضر مولده؟َ كما جاء في هذيان الشعراني في طبقاته[5].
وعندما يحتَفِي المستعمر النصراني بالمولد، فلأجْل ما في هذه الموالد من الغلوِّ والإطراء للأنبياء والأولياء، ودين النصارى قائمٌ على ذلك الغلوِّ والإفراط، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابن مريم))[6]، إضافةً إلى أنَّ الاحتفال بالمولد النبوي فيه تشبُّهٌ بالكافرين في الاحتفال بميلاد عيسى - عليه السلام.
والمقصود أنَّ النصارى يفرَحُون بما يفعله أهل البِدَع والجهل من المسلمين، ممَّا يوافق دينهم ويشابهونهم فيه[7].
ومن المعلوم أنَّ الاحتفال بالمولد النبوي وجَعْلَه عيدًا، من البِدَع الحادثة التي لم يشرعها الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار؛ حتى قال الفاكهاني (ت 734 هـ): "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتابٍ ولا سنَّة، ولا يُنقَل عمله عن أحدٍ من علماء الأمَّة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدِّمين، بل هو بدعةٌ أحدثها البطَّالون، وشهوة نَفْس اغتنى بها الأكَّالون"[8].
وقال ابن الحاج (ت 737 هـ): "... ومن جملة ما أحدَثُوه من البدع مع اعتقادهم أنَّ ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر، ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى على بدعٍ ومحرَّمات"[9].
وقد حرَّر ابن تيميَّة حُكم المولد، وبيَّن وجْه كونه بدعةً، وما في الاحتفال بالمولد من عُزوفٍ عن السنن وفتور عن لُزُوم الشرع، فقال: "وكذلك ما يُحدِثه بعض الناس: إمَّا مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح عيسى - عليه السلام - وإمَّا محبَّة للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتعظيمًا، والله قد يُثِيبهم على هذه المحبَّة والاجتهاد، لا على البِدَع (من اتِّخاذ مولد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده)؛ فإنَّ هذا لم يفعلْه السَّلَفُ، مع قِيام المقتضي له وعدم المانع فيه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلَف - رضي الله عنهم - أحقُّ به منا؛ فإنهم كانوا أشدَّ محبَّة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتعظيمًا له منَّا، وأكثر هؤلاء الذين تجدُهم حرصاء على أمثال هذه البِدَع مع ما لهم فيه من حُسْنِ القصد والاجتهاد الذي يُرجَى لهم به المثوبة، تجدهم فاترين في أمْر الرسول عمَّا أُمِروا بالنشاط فيه"[10].
والحاصلُ أنَّ الاحتفال بالمولد بدعةٌ محدَثة؛ لأنَّ السلَف الصالح من القُرون المفضَّلة لم يفعَلُوه مع قيام المقتضي وانتفاء المانع، ولو فعلوا ذلك لنُقِل، فلمَّا لم يُنقَل مع توفُّر الدواعي والهمم على نقله، دلَّ على أنَّ هذا التَّرك الراتب هو السُّنة التي لا محيد عنها.
ثم إنَّ ابن تيميَّة - وهو على جادَّة أئمَّة أهل السُّنة الذين يرحمون الخلق ويعلمون الحقَّ - بيَّن أنَّ بعض الذين يحضرون المولد قد يُثابون على محبَّة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحُسْن النيَّة، ولكن لا يُثاب الشخص على البدعة والإحداث في دين الله - تعالى - فالبدعة لا تنفكُّ عن الإثم والعقوبة والذلِّ والصَّغار؛ فلا يُحكَم بتأثيم كلِّ مَن حضر المولد، كما لا يُقال بحصول الثواب لِمَن حضره، وكعادة ابن تيميَّة في قوَّة حجَّته وتنويع أدلَّته في الردِّ على المبتدعة؛ سواء من الشرع المنزَّل أو العقل الصريح أو الفطرة الضرورية، فقد أكَّد - رحمه الله - أنَّ الاشتغال بالبدع يُزهِّد في السنن، وحضورَ الأعياد المبتدَعة ينقص قدْر الأعياد المشروعة (الفطر والأضحى)، وأنَّ هذا أمرٌ يجده الإنسان في نفسه ضرورةً؛ فقال - رحمه الله -: "من شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخَذَ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخَر، حتى لا يأكله إنْ أكل فيه إلا بكراهة وتجشُّم، وربما ضرَّه أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه؛ فالعبد إذا أخَذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلَّت رغبته في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض عن غيره، بخلاف مَن صرف نهمته وهمَّته إلى المشروع؛ فإنَّه تعظُم محبته له ومنفعته به"[11].
إلى أنْ قال: "وأقلُّ الدرجات أنَّك لو فرضت رجلين أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على المشروع، والآخَر مهتم بهذا وهذا، فإنَّك بالضرورة تجدُ المتجرِّد للمشروع أعظم اهتمامًا به من المشرك بينه وبين غيره، ومَن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه، وهذا أمر يعلمه مَن يعرف بعض أسرار الشرائع، وأمَّا الإحساس بفتور الرغبة فيجده كلُّ أحد، فإنَّا نجدُ الرجل إذا كسا أولاده، أو وسَّع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة - فلا بُدَّ أنْ تنقص حرمة العيد المرضي من قلوبهم"[12].
ولا بُدَّ أنْ نشير إلى أنَّ أجدى وأبقى وسيلة في مدافعة الأعياد البدعية ونحوها إظهارُ السنن النبويَّة ولزومُها والدعوةُ إليها؛ فالنُّفوس خُلِقَت لتعمل لا لتترك، والإنسان بطبيعته حارث عامل، فالاعتصام بالمشروع يمنَعُ من السقوط في الممنوع، ولُزوم السنن يحفَظُ المرءَ من الولوغ في البدَع.
ولئنْ كان المتكلمةُ قد اختاروا السلب والنفي في الصفات الإلهيَّة، ولحقهم المتصوِّفة فأصابهم الولع بالنفي والتروك في السلوك، فقد تأثَّر بعض المتسنِّنة بذلك؛ فاستَحوَذ على فريقٍ منهم تتبُّعُ المحدَثات المغمورة والمشهورة والظاهرة والمطمورة؛ بدعوى التحذير والتنبيه، وغلب على خِطابهم التَّرْك والمنع، والمتعيِّن إظهار سنن سيِّد المرسلين - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتبليغ رسالات الله في جميع الأصقاع؛ فهذا مقدور ومشروع.
ومهما يكن فإنَّ بعض الآراء الرخوة التي قالها بعضُ المنتَسبين لأهل السُّنة من أسباب تسلُّط "عشاق" المولد وشغبهم على عموم أهل السُّنة المحضة؛ حيث سوَّغ بعض المتسنِّنة احتفالَ الشخص بميلاده أو زواجه، وجوَّز آخَرون الذكريات الوطنيَّة.
فقال عشَّاق المولد النبوي لعشاق مولد الصبيان والأوطان والزواج بالنسوان:أنتم تُنكِرون علينا الاحتفال بمولد سيِّد الثقلين - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم أنتم هؤلاء تُسوِّغون ما دون ذلك بمراحل ومراحل؛ فلئنْ جاز فِعْلُكم، فإنَّ فِعْلَنا أَوْلَى وأحرى بالجواز والاتِّباع.
إنَّ المواقف الواضحة والحازمة تجاه هذه الأعياد المُحدَثة هو المسلك السديد في براهينه واطِّراده واتِّساقه؛ فالعيد يومٌ يُعتَاد مجيئه كلَّ عام أو شهر، ويتحقَّق فيه اجتماع وأعمال؛ كما في عيدي الفطر والأضحى، وما عدا ذلك فهو من البدَع والمحدَثات، ومن التشبُّه بالكفرة والمشركين، وأمَّا أنْ يتحَذلَقَ بعضهم ويُسوِّغ هذه الأعياد بدعوى أنَّه لا يُتعبَّد بها فليس كذلك؛ فالأعياد من جملة العبادات؛ كالقِبلَة والصلاة والصيام، أو يتكلَّف بعضهم جواز الاحتفال بميلاد ولده أو وطنه على ألاَّ يُسمَّى عيدًا، وإنما هي ذكرى أو مناسبة، فهذا تأويلٌ بارد؛ إذ العبرةُ بالحقائق والمعاني لا بمجرَّد الألفاظ والمباني، إضافة إلى ما فيها من مُضاهاة الأعياد الشرعية ومزاحمتها.
وأخيرًا فهذه الدنيا مظلمةٌ إلا ما أشرقت عليه رسالة السراج المنير - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال - تعالى -: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ﴾ [الطلاق: 10 - 11].
وأحوال الموالد لا تنفكُّ عن ظلماتٍ بعضها فوق بعض؛ فظلمة الشِّرْك الصراح، والرُّكون إلى ظلمة القبور، "وحمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليالي الموالد"[13]، إضافةً إلى سيلٍ من الحماقات والخرافات، فيستحيل أنْ يجتمع هذا النور المبين مع ذلك الحندس والظلام.
[1] "تاريخ الجبرتي": 2/201.
[2] "تاريخ الجبرتي": 2/306.
[3] "تاريخ الجبرتي": 2/244.
[4] "التصوف"؛ لمحمد المقدي، ص31.
[5] "الطبقات الكبرى"؛ للشعراني: 1/162.
[6] أخرجه البخاري.
[7] "مجموع الفتاوى"؛ لابن تيمية: 17/462.
[8] "المورد في عمل المولد": ص 8 - 9.
[9] "المدخل": 2/229.
[10] "الاقتضاء": 2/615.
[11] "الاقتضاء": 1/483.
[12] "الاقتضاء": 1/485.
[13] "هذه هي الصوفية"؛ للوكيل، ص161.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/29628/#ixzz2GjvMC900
موقع الألوكة
التعليقات