الاستغلال السياسي لبدعة المولد النبوي
اتفق المحققون([1]) أن أول من احتفل بهذه البدعة هم العبيديون المنتسبون زوراَ وبهتانا لفاطمة رضي الله عنها، وذلك فى سنة 361هـ على يد المعز لدين الله - وهم في الحقيقة من المؤسسين لدعوة الباطنية، فجدهم هو ابن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، وذلك بالعراق، ثم رحل إلى المغرب، وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نسله، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة، ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبلوا ذلك منه، مع أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات ولم يعقب ذرية، وممن تبعه: حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة، ثم لما تمادت بهم الأيام، ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح، فغيَّر اسمه ونسبه وقال لأتباعه: أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فظهرت فتنته بالمغرب. ودولة العبيديين قامت سنة 298هـ وقد مهد لقيامها داعية إسماعيلي يدعى أبو عبد الله الشيعي وحشد لنصرتها قبيلة (كتامة).
وظلت هذه الموالد عند بني عبيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها من كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع، بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع وطيلة القرنين الخامس والسادس؛ إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يدعى عمر بن محمد الملا، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري، ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل والتقليد الأعمى، حتى وصلت إلى ما نشاهده في العصر الحاضر من مظاهر احتفالية كبيرة ومتنوعة في سائر أرجاء العالم الإسلامي. إذًا كان الهدف الرئيس من إحداث هذه الموالد هدفًا سياسيًا لتثبيت حكم بني عبيد، ولم يكن لمحبة النبي { ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب {([2]).
مظاهر الاحتفال وإطارها السياسي:
مع مرور الزمن بدأت تقنن هذه الطقوس حتى وصلت إلينا مظاهر متكاملة، تشمل الأمور العبادية – طبعا المبتدعة – كما تشمل الدنيوية من أكل وشرب ولهو...الخ .
يقول الأستاذ محمد رشيد رضا تعليقا على هذه الطقوس: " أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب فلاعجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحرموا ماوعد الله المؤمنين من النصر لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيئ من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ولايشهد لهذه البدع كتاب ولاسنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الامم الأخرى، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه ".أ.هـ ([3]) .
ولعل المظاهر التي تفشو في كل الموالد ولم يسلم منها المولد النبوي تؤكد أن الحدث هو سياسي بامتياز إذ يراد منه تحقيق الرضا الشعبي، والظهور بمظهر المحب للنبي r دون أن يكون في ذلك المشهد من أوله إلى آخره تعبير شرعي صحيح ومقبول عن ذلك الحب .. إذ وجد أرباب الطرق في ترك مثل هذه المنكرات أو السكوت عنها أوربما تشجيع البعض عليها هو نوع من إضفاء قدر من الشعبوية على المحتفلين حتى وإن كان في ذلك إسقاط بعض الشعائر مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الوقوع في المحرمات وانتهاك الحدود الشرعية المرعية من جانب المؤمنين الصادقين، ولهذا لو فتشنا في الأسباب فسنجد أنه نوع من الاستغلال السياسي الذي يشترك فيه الجميع .
ومن هنا يلاحظ الأهمية السياسية لابقاء هذه الاحتفالات على صورتها تلك والنفخ فيها حتى تكون أكثر زخما ولهوا وإلهاءا للشعوب، والظهور بمظهر الإحتفاء بشعائر الإسلام وهيهات !!.
المراحل التاريخية التي مر بها الاستغلال السياسي للمولد :
(أولا) العبيديون واستغلال المولد :
سبب ابتداعهم هذه البدعة أن المسلمين في مصر والشام لم يرتضوا سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناس؛ لا سيما وقد انتشرت البدع بل والشركيات على أيديهم، فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم، فحاولوا استمالة قلوبهم، وكسب عواطفهم بإحداث الاحتفالات البدعية، فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيدي- مولد النبي وموالد أخرى غيره .
ومعلوم ما اكتنف نسب العبيديين من الغموض لذا حاولوا عن طريق هذه الإحتفالات التشغيب على الناس وإلهائهم ، فلا يفكرون فى أنساب هؤلاء الدخلاء وأصولهم .
وهذا مما يؤكد أن هذه البدعة منذ ظهورها إلى اليوم والهدف من ورائها هدف سياسي، إذ لولا الساسة لما قامت لها قائمة .
قال المقريزي: ( وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة : النبوي، والعلوي، والفاطمي، والإمام الحاضر، وما يهتم بها ، وقدم العهد به حتى نسي ذكرها ، فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر) أ.هـ([4]) .
(ثانيا) بعد عصر العبيدين :
وقد استمر الهدف من إقامة المولد لأسباب سياسية في عصر الأيوبيين والمماليك رغم اختلاف الظروف الاجتماعية. ولكن يبدو أن إدراك الأيوبيين لأهمية هذا العنصر في الترويج للفاطميين دعاهم إلى إدخال تغيير نوعي في هذه الاحتفالات، وهذا ما دعا الباحث "عرفه عبده علي" إلى القول: " في عصر الدولة الأيوبية، أبطلت كل مظاهر الاحتفالات الدينية، فقد كان السلطان صلاح الدين يوسف يهدف إلى توطيد أركان دولته لمواجهة ما يتهددها من أخطار خارجية واقتلاع المذهب الشيعي بمحو كافة المظاهر الاجتماعية التي ميزت العصر الفاطمي، ولا شك أن هذا السبب السياسي هو أحد الأسباب التي دعت صلاح الدين إلى محاربة هذه البدع ... واستمر هذا التوظيف حتى من حكام وسياسيين غير منتسبين للإسلام "([5]) .
(ثالثا) الدولة العثمانية واستغلال المولد :
العلاقة بين الخلفاء العثمانيين والتصوف علاقة قوية فالعثمانيون – أصحاب الدعم القوي للقبورية – اعتنقوا الإسلام على يد مشايخ الطرق الصوفية من قبل استقرارهم في آسيا الصغرى . حيث أن جل السلاطين كانوا صوفيين قبوريين، بل إن الخلافة العثمانية رغم ما قدمته للإسلام وجهودها في حماية بيضة الإسلام قرونا طوالا، إلا أنها للأسف الشديد كانت غارقة فى الخرافة، وهذا هو السبب الرئيسي فى محاربتهم لحركة الإصلاح التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومحاولتهم القضاء عليها، والسلطان عبد الحميد الثاني أشهر خلفاء بنى عثمان على جلالة قدره كان صوفيا قحا – ورغم جهوده المشكورة في الحفاظ على أراضي المسلمين ومحاولاته لوقف انهيار الخلافة الإسلامية – كان له من الخرافة نصيب! ، و كان قد قرب إليه ثلاثة من كبار المتصوفة في ذلك العصر وكان لهم مقام سام في السلطنة يومئذ مع نفوذ في جميع الدوائر وهم : الشيخ محمد ظافر المدني الشاذلي ( ت 1321 هـ ) والشيخ أحمد أسعد المدني (ت سنة 1314 هـ ) والشيخ أبو الهدى الصيادي ( ت سنة 1328 هـ ) .
ولأن السلطان عبد الحميد تولى عرش السلطنة في ظروف عصيبة، والمؤامرات تحاك للأمة ، والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان، ودعاة القومية والتفرقة يبثون دعواتهم في سائر البلاد، فدعا كما هو معروف إلى الجامعة الإسلامية، والرابطة الدينية، لكن كان اعتماده على الصوفية في دعوته إلى الجامعة الإسلامية لما رآه من انتشارها ونفوذها بين الناس، كما أن ذلك الاعتماد والتبني قد زاد من انتشار الصوفية وتغلغلها في أوساط المسلمين .
وكان من أهم المظاهر التى تبين صوفية الدولة العثمانية هى احتفالاتهم بالمولد النبوي : ففي القرون الأخيرة كان يحتفل بالمولد حكام من المسلمين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، لأن الاحتفال بالمولد صار عند الجماهير المسلمة من أعظم الواجبات التي لا يجوز التهاون فيها. كما كان يعتقد هؤلاء الحكام أنهم يستمدون مشروعيتهم من مثل هذه الاحتفالات .
( يذكر الجبرتي أنه نودى يوم الثلاثاء 11 ربيع الأول سنة 1230 هـ بزينة البلد ووقود القناديل، والسهر ثلاثة أيام بلياليها ... ويذكر أن السلاطين العثمانيين كانوا يحتفلون بالمولد النبوي في أحد الجوامع الكبيرة بالأستانة حسب اختيار السلطان، فلما تولى السلطان عبد الحميد في سنة 1293 هـ-1876 م، قصر حفلاته التقليدية على الجامع الحميدي، فعندما تحين الليلة الثانية عشر من ربيع الأول يحضر إلى الجامع عظماء الدولة وكبراؤها من الأمراء والعلماء والوزراء، وجميعهم بالملابس الرسمية والكساوي التشريفية وعلى صدورهم النياشين بأنواعها ثم يقفون في صفوف متراصة، ونظام تام، انتظارا لتشريف السلطان وفي هذه الليلة يخرج السلطان من قصر يلديز ممتطيا جودا مطهما بسرج من الذهب الخالص!! وقد حف الموكب به، ورفعت على رأسه الأعلام، ويسير وسط الجماهير المحتشدة، حتى يصل إلى الجامع، فيبدأ في رسوم المولد وفقراته، حتى تنتهي فيعود إلى قصره .
وكذلك كان ينادى للاحتفال بالمولد كل سنة فى عهد محمد علي واولاده وأحفاده الذين استمروا على رعاية شئون المولد ، وإحياء الاحتفال به طوال سني حكمهم ، مع أن غالبهم كان حربا على الإسلام ، وكان الواجب عليهم وعلى من حام حولهم من العلماء العمل على رفع راية الدين وأن يحكموا بما أنزل الله ، وأن يعلنوا الجهاد والاستنفار ضد الإحتلال الإنجليزى لتحرير البلاد والعباد .
... يذكر صاحب " الخطط التوفيقية " اهتمام الدولة المصرية في عهد خديويها توفيق بالمولد النبوي وبالأسرة البكرية المعنية بشؤون المولد، والمختصة بإقامته، فيقول: وللسادة البكرية في ظل الدولة المحمدية العلوية من العناية به في كل عام ما تتحدث بزائد شرفه الركبان ويفتخر به أهل الزمان على غيره من سائر الأزمان، لاسيما في عهد الحضرة الفخيمة الخديوية، وعصر الطلعة المهيبة التوفيقية، فإنه وصل فيها الاحتفال بأمر المولد النبوي الشريف إلى حده الأعلى، وبلغ الإعتناء بعلو شأنه المبلغ الأعلى، وذلك أنه في أوائل العشرة الأخيرة من شهر صفر الخير من كل عام تصنع بمنزلهم مأدبة فاخرة يدعى إليها كافة مشايخ الطرق والأضرحة والتكايا والوجوه والأعيان والذوات...) ([6]).
(رابعا) الاحتلال واستغلال المولد :
من الملاحظات الجديرة بأن نقف أمامها كثيرا هى حالة الانتعاش الكبير التى تصيب الفرق المنحرفة فى ظل الاحتلال كالصوفية والشيعة، ولا يختلف اثنان أن هذه الفرق هى المرتع الخصب الذى يرتع فيه الإحتلال، والذى يستطيع من خلاله أن يتمكن من البلاد والعباد ولقد ساهمت هذه الطرق بمنتهى الإخلاص فى هذا المجال، لقد أدرك الإنجليز أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة من الشعب، فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية، ولهذا حرصت سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية مما مكنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.
"استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث احتضنت سلطات الاحتلال الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها. وعمل بعض أولئك على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على وجودهم ويسوّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في مصر، قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر! وكان من هؤلاء شيخ الطريقة السمانية: محمد إبراهيم الجمل([7]).
يذكر الجبرتي ... أن نابليون بونابرت سأل الشيخ البكري عن عدم إقامة المولد النبوي بعد احتلال القاهرة، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل نابليون بذلك وقال : لابد من ذلك، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة منه في إقامة هذا المولد، وأمر بتزيين البلد كالعادة، واجتمع الفرنسيون يوم المولد، ولعبوا ميداينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم. وقد كان نابليون يواظب على حضور المولد النبوي بنفسه . وكما أمر الفرنسيون بإقامة المولد النبوي ... بل كانوا يجبرون الناس ويقهرونهم على الاحتفال بهذه الموالد، ويغرمون من يأبى أن يحتفل بها، ويسمرون دكانه .
إن المرء ليتساءل عن اهتمام الفرنسيين بإعادة هذه الموالد المبتدعة، وقهر الناس على الاحتفال بها، ودعمها بالمال. ويجيبنا الجبرتي على هذا التساؤل بما رآه الفرنسيون في هذه الموالد " من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات... لقد أدرك الفرنسيون ما يقع بسبب هذه الموالد من سلبيات، وما تستنفده من جهود وأموال، وتشغله من أوقات وتفكير، وما في ذلك من صرف للناس عن جهاد المحتلين ومقاومتهم، وهو ما لم يدركه الكثير من العلماء ممن شجعوا تلك الموالد، أو حتى غضوا الطرف عنها… وكذلك أدركوا ما لتلك الموالد من مكانة عظيمة في حياة الناس، لذا سارعوا بإعادتها، حتى يلهوا الناس بها، وتعود الأمور إلى مجاريها، وكأن شيئا لم يحدث، ويغلقوا على أنفسهم بابا واسعا من أبواب الثورة … ([8]).
(خامسا) استغلال المولد فى العصر الحاضر :
تمثل قضية المولد النبوي أحد أهم المرتكزات التي تركز عليها الصوفية في الترويج لأفكارها على المستوى الشعبي وتكتسب بها زخما إعلاميا وسياسيا، ومن هنا كان الاحتفال بها لونا من الظهور بالمظهر الشرعي المتلبس بمحبة النبي r ، خاصة بعد أن نجحت الاتجاهات التجديدية في الحد من ظاهرة الاحتفال بموالد أصحاب الأضرحة ، وانصراف قطاع من الناس عن تلك الموالد بعد توفر ما يرغبون فيه من متع وشهوات وبوسائل عديدة ومتاحة ، ومن هنا يأتي التركيز على الاحتفال بالمولد النبوي كمدخل للاحتفال بموالد الأولياء المنسوبين حقيقة أو زورا إلى آل البيت ..
وإذا كانت العلاقة بين الصوفية والساسة هى علاقة تبادل منفعة، ففى الوقت الذى تحاول فيه الحكومات استغلال الصوفية لتحقيق مآربها، تحاول الصوفية أيضا أن تتكسب من هذه العلاقة، بل هى المستفيد الأكبر من هذه العلاقة.
يقول الدكتور عمار حسن:« الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل الحسين والسيد البدوي»([9]) .
ويظهر هذا الاستغلال فى الاحتفال بالمولد النبوى، حيث كانت وزارة الأوقاف ترعى الاحتفال السنوي الذي كان يحضره الملك في أيام الملكية، ثم أصبح يحضره الرؤساء في عهد الجمهورية، وفي العادة فإن الملوك والرؤساء يلقون في هذا اليوم خطبة، كما يحضره شيخ الأزهر وعدد من الوزراء والشخصيات العامة، وتوزع فيه جوائز على الفائزين في " مسابقة تقام احتفالا بالمولد النبوي " كما توزع فيه الجوائز التقديرية على بعض الحضور باسم تكريم العلم والعلماء، كما تقام احتفالات في كافة المدن ترعاها فرق من الشرطة. كما تحتفل إذاعة القرآن الكريم في مصر بالمولد على مدى شهر كامل هو ربيع الأول. ومع أن كثيرا من البرامج لا غبار عليها إلا أن ارتباطها بموسم لم يقره الشرع يبقى نقطة مؤاخذة، إضافة إلى بعض البرامج والفقرات التي لا تخلو من غلو في شخصه r ([10]).
أسباب الاستغلال السياسي لبدعة المولد :
من خلال العرض السابق لمظاهر وتاريخ الاحتفال بالمولد النبوى نلخص سريعا الأسباب التى أدت إلى سعى الأطراف المختلفة لاستغلال هذا الاحتفال سياسيا :
(أولا) بالنسبة للشيعة العبيدين :
1 – نشر العقائد الشيعية من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم وهذا ما صنعه العبيديون من قبل، ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد اليوم .
2- كسب ولاء الناس، والتعمية علي تصرفاتهم القبيحة وكفرهم الشنيع .
3- نشر الفرقة بين صفوف المسلمين وإبعادهم عن العقيدة الصافية .
4- إضعاف المسلمين باستنزاف خيراتهم، ونشر المنكرات والفواحش بينهم .
5- اشغال المسلمين عن مقاومة أعدائهم، والهائهم عن الجهاد فى سبيل الله .
(ثانيا) بالنسبة للعثمانيين :
ا- التقرب إلى الشعوب وضمان ولائهم.
2- إلهاء الناس عن التفكر فى المظالم التى كان يمارسها الولاة الأتراك.
3- إضعاف شوكة المعارضين والمنافسين كالمماليك فى بعض الأوقات. فالاحتفال بهذه البدع يساعد على التفاف الشعب حول هؤلاء الولاة ، مما يزهدهم فى المعارضين لهم ، لاسيما إذا كانوا لايهتمون بهذه الخرافات.
4- إلقاء طابع الهيبة والتدين على الدولة العثمانية.
(ثالثا) بالنسبة للأنظمة المعاصرة :
1- تخدير الشعوب، والسيطرة عليها، واشغالهم عن تنحية شرع الله عن الحكم والمطالبة به.
2- الدعاية السياسية والتأثير على الجماهير. وإعطاء انطباع بتدين الأنظمة وعدم عدائها للدين.
3 – التعمية على بعض الممارسات والمظالم والفساد والإنحراف الغارقة فيه هذه الأنظمة. فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثـورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه للبدع والخرافات فيجد عالمه وخلاصه في رحاب هذه الطقوس؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام) ([11]).
4- قتل روح الجهاد فى الأمة، وتقديم البديل عن الدين الصحيح.
5- إرضاء أعداء الإسلام، حيث يقدمون لهم اسلاما لا يعادى أحدا. ففي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنى النهج الصوفي.
6- كسب ود الطرقيين واستمالتهم، حيث أنهم حشد قوي فى أي انتخابات. يقول الباحث عمار علي حسن: "كانت الصوفية على رأس القوى الدينية التي استخدمها النظام المصري في تبرير وتدعيم سياساته، فحرص المسؤولون على حضور موالد الصوفية واحتفالاتها، وخاصة المولد النبوي ومولد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي([12]).
7- إعطاء الشرعية لهذه الأنظمة ولا شك أن الشرعية الدينية للدول والأنظمة – مثلها مثل الشرعيات الأخرى، كالشرعية التاريخية والدستورية والثورية – تعد إحدى أهم الدعائم التي تقوم عليها نظم الحكم، لا بد أن يدعمها حتى ولو شكلاً وظاهراً، وهذا ما يستغله القبوريون .
8- ضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم. فرغم إعلان السياسيين العلمانيين أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، إلا أننا رأيناهم يدعمون القبوريين بانتهازية واضحة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الدين يمكن ضرب الصحوة الإسلامية به، وذلك بسحب البساط من تحت أرجلها باعتبار الدين أرضيتها التي تنطلق منها.
(رابعا) بالنسبة للمحتل الأجنبي: بريطانيا وفرنسا من قبل وأمريكا حاليا، فبعد أن ورثت أمريكا الإمبراطورية البريطانية حاولت جاهدة أن تسيطر على العالم، وأن تكون هى القوة القطبية الوحيدة، لذا عملت على إسقاط وتفكيك الاتحاد السوفيتي، فلم يبقى أمامها من عدو غير الإسلام، لذا هى تحاول جاهدة احتواء هذا المارد، لاسيما أن هناك اتجاهات تمثل نسبة كبيرة من المسلمين يسهل استمالتها، اتجاهات لها مشاريع سياسية خاصة، كالشيعة مثلا حيث حاولت أمريكا تقديم الإسلام الشيعى كبديل عن الإسلام السني. وهناك اتجاهات ليس لها أى مشروع سياسى، بل العكس إن تاريخها فى تدعيم قوى الاحتلال ونصرته غير خافية على أحد وهي الصوفية كما أسلفنا.
يظهر ذلك جليا بعد صدور تقرير مركز "راند"([13]) الأخير عام (2007م) والذي يحمل عنوان "بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي"، والذي دعا إلى إعطاء الطرق الصوفية مساحة متزايدة من الأهمية، كما احتفظ للصوفية بأهميتها الإستراتيجية في التخطيط الأمريكي، باعتبارها أحد البدائل المتاحة أمام المخطط الأمريكي لإزاحة التيارات الإسلامية وإحلال الصوفية محلها.
لذا سعت أمريكا وبكل جد لكسب ولاء هذه الطرق ، ومثال ذلك حرص سيدى العارف بالله "فرانسيس ريتشاردونى" السفير الأمريكي السابق فى القاهرة على حضور الموالد الدينية وخصوصاً مولد البدوي
واستقبال محافظ الغربية للسفير بالأناشيد الدينية ومنها طلع البدر- وهذا الأمر له دلالات؛ ينبغى إمعان النظر فيها – لا يعني ذلك أن كل الطرق الصوفية على درجة واحدة من الولاء للمحتل – وزاد الحرص بعد 11 سبتمبر حيث ظهرت التيارات الجهادية كعدو حقيقى يمكن أن يقوض هيبة أمريكا، وكانت أهداف أمريكا من وراء استغلال المولد كالتالى :
1- إبراز الصوفية كبديل عن التيارات الأخرى، وأنها تمثل الإسلام الصحيح : وترتكز فكرة الاستبدال على وجود رغبة عامة وعارمة لدى الجماهير في التدين. وكان الحل أن ندع المسلمين يتدينون كما يريدون، لكن فلنقدم لهم نحن (التوليفة) المناسبة للتدين. وهذا الحل يكمن فى : "المتصوفة الجدد" أمثال علي الجفري وهشام القباني وغيرهم .
2- محاربة فكرة الجهاد الإسلامى، والتى تعتبر فى رأيي أكبر ما يقض مضاجع الإمريكان أن يروا انبعاث حركات المقاومة والجهاد فى كل مكان. لذا يسعون إلى القضاء على حركات المقاومة فى كل مكان، كما يحدث فى فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وفى غيرها.
3- تمييع قضايا الولاء والبراء لدى المسلمين، وإبراز الأمريكان كمحبين للسلام، ومدافعين عن الإسلام الصحيح الذى يمثله الطرقيون .
4- استمالة الجهلاء وضعاف النفوس ليدوروا فى فلك المخططات الأمريكية للسيطرة على العالم الإسلامى، والقضاء على أى محاولة للنهوض مرة أخرى.
5- تحييد أكبر عدد من المسلمين فى قضايا الصراع المعاصر، والإيحاء بان صراعهم مع الإرهاب وليس الإسلام، ولما لا وهى تساعد التيارات الأكثر عددا من المسلمين.
6- محاربة التيارات السياسية الإسلامية وإفشال مشاريعها للوصول إلى الحكم، وتدمير المنهج السياسي فى الإسلام، وبيان أن الإسلام لا يصلح لا للحكم ولا للسياسة وأن المنهج الصحيح هو فى الانكباب على الموالد والشطح والخرافة التي تمثلها الصوفية .
وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
-----------------------------------------------
1- راجع المقريزي في خططه (1/490) والقلقشندى في صبح الأعشى (3/498) والسندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي(69) ومحمد بخيت في أحسن الكلام (44) وعلي فكري في محاضراته(84) وعلي محفوظ في الإبداع(126).
2- تأصيلات عقدية / مجلة الجندي المسلم العدد 115بتاريخ 1/5/2004 .
3- تفسير المنار (2/74-76) .
4- خطط المقريزي (1/432) .
5- دمعة على التوحيد صـ 178 .
6- نقلا عن ( الانحرافات العقدية والعلمية) ( ص 387) .
7 - دمعة على التوحيد 204.
8- نقلا عن ( الإنحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين) ( ص 379 – 382 ) .
9- نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي/ محمد بن عبد الله المقدي / مجلة البيان عدد 223 .
10- حقوق النبي 168 .
11- نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي/ محمد بن عبد الله المقدي/مجلة البيان/عدد 223 بتصرف .
12- دمعة على التوحيد 186 .
13- هو تقرير يصدر عن مؤسسة راند RAND Corporation" "وهى من المؤسسات التي تشارك فى صناعة القرار السياسي الأمريكي وتقاريرها التي تُصدرها ترسم خطةُ للسياسية الأمريكية في التعاملِ مع الأحداث في العالم أجمع، ومنها منطقة ما يسمونها بـ " الشرق الأوسط " -، ومقرها في الولايات المتحدة، وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشاردسون) المحافظة .التقرير خرج في217 صفحة وقُسم إلى ملخص للتقرير ومقدمة وتسعة فصول.واستغرق إعداده 3 سنوات، وعنون للتقرير " بناء شبكات مسلمة معتدلة" Building Moderate Muslim Networks " ، وهو عنوان يحملُ في ثناياه خطط خطيرة جداً. .