القنوت في صلاة الوتر
أحكام وتنبيهات مستل من كتاب «تصحيح الدعاء» للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: القنوت في صلاة الوتر1) القنوت في تعريف الفقهاء هو: «اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام». وهو مشروع في صلاة الوتر بعد الركوع على الصحيح من قولي العلماء. ومشروع للنوازل قبل الركوع في الركعة الأخيرة من الفريضة أو بعده، وهل هو في جميع الفرائض، أم في الجهرية منها، أم فيها سوى الجمعة؟ فيه خلاف. والصحيح أنه بعد الرفع من الركوع في آخر ركعة، من كل فريضة من الصلوات الخمس، حتى يكشف الله النازلة، ويرفعها عن المسلمين. وأما القنوت في صلاة الصبح دائماً في جميع الأحوال، فكان مشروعاً، ثم نسخ، فلا يُشرع في قول جماعة من العلماء، منهم الحنفية، والحنابلة، وقال الحنفية، وجماعة من المحققين: هو بدعة؛ لأن حديث: أن النبي ما زال يقنت حتى فارق الدنيا، ضعيف لا تقوم به حجة. إذا عُلِمَ ذلك فالكلام هنا في القنوت في صلاة الوتر، وفيه مبحثان: المبحث الأول في المشروع وفيه مطلبان: المطلب الأول: المشروع في دعاء قنوت الوتر وضوابط الزيادة فيه: وهو على النحو الآتي: 1ــ على الإمام القانت في: «صلاة الوتر» التزام اللفظ الوارد عن النبي الذي عَلَّمه سبطه الحسن بن علي ــ رضي الله عنهما ــ فيدعو به بصيغة الجمع مراعاة لحال المأمومين، وتأمينهم عليه، ونصه: «اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يَذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت. لا منجا منك إلا إليك». وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ ــ أن النبي كان يقول في آخر وتره: «اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نُحْصي ثَنَاءً عليك. أنت كما أثنيت على نفسك». ثم يصلي على النبي كما ثبت عن بعض الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ في آخر قنوت الوتر، منهم: أُبي بن كعب، ومعاذ الأنصاري ــ رضي الله عنهما ــ. وَلْيُتَنَبّه فإن ضبط لفظ: «ولا يَذِلُّ» بفتح الياء، وكسر الذال. وضبط لفظ: «ولا يَعِزُّ» بفتح الياء وكسر العين. 2ــ ليحرص الإمام على أداء الدعاء بالكيفية الشرعية، بضراعة، وابتهال، وصوت بعيد عن التلحين والتطريب. 3ــ إن زاد على الوارد المذكور، فعليه مراعاة خمسة أمور: أن تكون الزيادة من جنس المدعو به في دعاء القنوت المذكور. وأن تكون الزيادة من الأدعية العامة في القرآن والسنة. وأن يكون محلها بعد القنوت الوارد في حديث الحسن، وقبل الوارد في حديث علي ــ رضي الله عنهما ــ. وأن لا يتخذ الزيادة فيه شعاراً يداوم عليه. وأن لا يطيل إطالة تشق على المأمومين. 4ــ قد يحصل من الأمور العارضة ما يأتي لها داعي من إمام وغيره بدعاء مناسب لها، كالاستغاثة حَالَ الجَدْبِ، لكن لا يجعلها راتباً لا يتغير بحال. ومن أعمل هذا الفرق بين الدعاء الراتب، والدعاء لأمْرٍ عارض؛ كسب السنة، وانحلت عنه إشكالات كثيرة. ومن ذلك دعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ــ ــ وهو: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونَحْفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلْحِق. اللهم عَذَّب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتـلون أولياءك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك، إليه الحق. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسول الله ، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك، الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم». ومن العلماء من قال بعمومه في الوتر، وهو مذهب الحنابلة. المطلب الثاني ذكر بعض الأدعية الجامعة من القرآن والسنة لمن رغب الزيادة في القنوت أسوق هُنا دعاء القنوت المتقدم في أول القنوت وآخره، ثم أسوق بعض الأدعية الجامعة من القرآن والسنة؛ ليختار منها من رغب الزيادة في القنوت ما شاء، وسياق المرويات منها بصيغة الجمع، حتى تناسب الدعاء بها من الإمام، وهي: 1ــ «اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يَذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت. لا منجا منك إلا إليك»1). 2ــ «اللهم أقْسِمْ لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبَلَّغُنَا به جنتك، ومن اليقين ما تُهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث مِنَّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمَّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسَلَّط علينا من لا يرحمنا»2). 3ــ {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. [آل عمران: 16]. 4ــ {ربَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109]. 5ــ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147 ]. 6ــ {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10]. 7ــ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. 8ــ {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 4ــ5]. 11ــ «اللهم اغفر لنا، وارحمنا، واهدنا، وعافنا، وارزقنا»1). 12ــ «اللهم إنا نسألك الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ والغِنَى»2). 13ــ «اللهم يا مُصَرَّفَ القلوب صَرَّفْ قلوبنا على طاعتك»1). 14ــ «يا مُقَلَّبَ القلوب ثبت قلوبنا على دينك»2). 15ــ «اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنَبْنَا، وبك خَاصَمْنَا، اللهم إنا نعوذُ بِعِزَّتِكَ لا إله إلا أنتَ أن تُضِلَّنا، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والأنس يموتون»3). 16ــ «اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصْمَةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها مَعَاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها مَعَادُنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر»4). 17ــ «اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجِلِهِ وآجِلِهِ ما عَلِمْنَا منه وما لم نَعْلَمْ. ونسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذ بك من النارِ وما قرب إليها من قولٍ أو عمل. ونسألك من خير ما سألك عَبْدُكَ ونَبِيُّكَ، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك.ونسألك أن تجعل كل قضاءٍ قضيته لنا خيراً»5). 18ــ «اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة. يا ذا الجلال والإكرام. يا حي يا قيوم»1). 19ــ «اللهم إنا نعوذك بك من جَهْدِ البَلاءِ، ودَرَكِ الشَّقَاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداء»2). 20ــ «اللهم إنا نعوذُ بك من زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وتَحُوُّلِ عافيتكَ، وفَجْأَةِ نِقْمَتِك، وجميعِ سَخَطِك»3). 21ــ «اللهم إنا نعوذُ بك من العَجْزِ والكسلِ والجُبْنِ والبُخْلِ والهَمَّ وعذابِ القبر. اللهم آتِ نفوسَنَا تَقْوها، وزَكَّها أنت خيرُ من زَكَّاها، أنت وليها ومَوْلاها. اللهم إنا نعوذُ بك من عِلْمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُسْتَجَابُ لها»4). 22ــ «اللهم إنك عَفُوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عَنَّا»5). 23ــ «اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقِنَا عذابَ النار»6). 24ــ «اللهم إنا نعوذ بِرضَاك من سَخَطِكَ، وبُمعَافاتكَ من عُقُوبَتِكَ، وبك منك، لا نُحصِي ثَنَاءٌ عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»1). 25ــ «اللهم صَلَّ على النبي الأمي وصحبه وَسَلَّمْ»2). المبحث الثاني في التصحيح وهو في التنبيهات الآتية: * التنبيه الأول: أن التلحين، والتطريب، والتغني، والتقعر، والتمطيط في أدَاءِ الدعاء، مُنْكَرٌ عظيم، يُنافي الضراعة، والابتهال، والعبودية، وداعِيةٌ للرياء، والإعجاب، وتكثير جمع المعجبين به. وقد أنكر أهل العلم على من يفعل ذلك في القديم، والحديث. فعلى من وفقه الله ــ تعالى ــ وصار إماماً للناس في الصلوات، وقنتَ في الوترِ، أن يجتهدَ في تصحيح النية، وأن يُلْقِيَ الدعاء بصوته المعتاد، بضراعة وابتهال، مُتَخَلَّصاً مما ذُكِرَ، مجتنباً هذه التكلفات الصارفة لقلبه عن التعلق بربه. * التنبيه الثاني: يُجْتَنَبُ جَلْبُ أدعية مخترعة، لا أصل لها، فيها إغْراب في صيغتها وسجعها، وتكلفها؛ حتى إن الإمام ليتكلف حفظها، ويَتَصَيَّدهَا تَصَيُّداً؛ ولذا يَكثُرُ غلطه في إلقائها، ومع ذلك تراه يلتزمها، ويتخذها شعاراً، وكأنما أحيا سُنَّة هجرتها الأُمَّة. * التنبيه الثالث: وَيُجْتَنَبُ التزام أدعية وردت في روايات لا تصح عن النبي ؛ لأن في سندِها كذاباً، أو متهماً بالكذب، أو ضعيفاً لا يُقْبَلُ حديثه، وهكذا. منها حديث فُرَاتٍ عن علي ــ ــ قال: قال لي علي: «ألا يقوم أحد فيصلي أربع ركعات، ويقول فيهن ما كان رسول الله : «تَمَّ نُوْرُكَ فَهَدَيْتَ فَلَكَ الـحَمْدُ، عَظُمَ حِلْمُكَ فَعَفَوْتَ فَلَكَ الـحَمْدُ...إلى قوله: ولا يَبْلُغُ مِدُحَتَكَ قَوْلُ قَائِلٍِ». رواه أبو يعلى بسند ضعيف؛ لأن فيه عدة علل، منها أن فُرَاتَ بن سلمان لم يَلْقَ علياً ــ ــ فهو منقطع الإسناد. ومع ذلك تسمع من يُجْهدُ نفسه بهذا الذكر، فَيَغْلَطُ فيه، ثم يَغْلَط، فهو في مجاهدة مع ذاكرته حتى يأتي به، ولو أخذ بالصحيح الثابت عن النبي وهو ذكر مبارك سهل ميسور؛ لكان أَبَرَّ وأبْرَك وأقربَ للإجابة، وتأسَّياً بالنبي بما دعا به رَبَّه ــ سبحانه ــ. ومنها: ما يُروى عن أنس مرفوعاً أن الرسول مر بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول: «يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون... إلى أن قال: يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار... الحديث». أخرجه الطبراني في «الأوسط» بسند فرد فيه من لا يُعرف، وهو شيخ الطبراني، وتدليس أحد رواته، مع ثقته. ومنها ما يُروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ــ ــ قال: «نزل جبريل على النبي حتى ذكر كلمات من كنوز العرش، وهي: «يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ... إلى قوله: أسألك يا الله أن لا تشوي خلقي بالنار» رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: «صحيح الإسناد، فإن رواته كلهم مدنيون ثقات». وقد تعقبه الحافظ الذهبي في ترجمة: أحمد بن داود الصنعاني في «الميزان» (1/136) فقال: «أتى بخبر لا يُحتمل، ثم ذكره» ثم علق على قول الحاكم المذكور بقوله: «قال: الحاكم: صحيح الإسناد. قلت: كلا. قال: فرواته كلهم مدنيون. قلت: كلا. قال: ثقات. قلت: أنا أتهم به أحمد. وأما أفلح بن كثير، فذكره ابن أبي حاتم، ولم يتكلم عنه بشيء» انتهى. فانظر ــ نعوذ بالله من الخذلان ــ كيف يتعلق الداعي بحديث هذه منزلته، ويهجر الدعاء بآيات القرآن العظيم، وما يثبت في «الصحيحين» وغيرهما عن النبي ؟ ومنها: التزام ما ورد بسند فيه واهي الحديث، فلا يصح، ومنه: «اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هَمّاً إلا فَرَّجْتَه، ولا ديناً إلا قَضَيْتَه، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك، يا أرحم الراحمين». وهو دعاء حسن لا يظهر فيه محذور. لكن يحصل الغلط من جهات هي: هجر الصحيح، والتزام ما لم يصح، والزيادة فيه بلفظ محتمل، وهو: «في مقامنا هذا» فتحتمل أن يكون شرطاً على الله فهو باطل، ثم الزيادة بسجعات أضعافها. وهكذا من تتابع سجع متكلف، ودعاء مخترع لبعض المستجدات حتى قاربت العشرين على هذا الرَّوي، والنمط. * التنبيه الرابع: وَيُجْتَنَبُ قَصْدُ السجع في الدعاء، والبحث عن غرائب الأدعية المسجوعة على حرف واحد. وقـد ثبت في «صحيح البخاري» ــ رحمه الله تـعالى ــ عن عكرمة عن ابن عبـاس ــ رضي الله عنهما ــ أنه قال له: «فانظر السجع في الدعاء، فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله وأصحابه، لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب». ومن الأدعية المخترعة المسجوعة: «اللهم ارحمنا فوق الأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض». ولا يرد على ذلك ما جاء في بعض الأدعية النبوية من ألفاظ مُتَوَاليَة، فهي غير مقصودة، ولا متكلفة؛ ولهذا فهي في غاية الانسجام. * التنبيه الخامس: ويُجْتَنَبُ اختراع أدعية، فيها تفصيل أو تشقيق في العبارة؛ لما تُحْدِثُهُ من تحريك العواطف، وإزعاج الأعضاء، والبكاء، والشهيق، والضجيج، والصَّعَق، إلى غير ذلك مما يُحْدُثُ لبعض الناس حَسَبَ أحوالهم، وقُدُرَاتِهِم، وطاقاتهم، قُوَّةٌ، وَضَعْفاً. ومنه: تضمين الاستعاذة بالله من عذاب القبر، ومن أهوال يوم القيامة، أوصافاً وتفصيلات، ورص كلمات مترادفات، يُخْرجُ عن مقصود الاستعاذة، والدعاء، إلى الوعظ، والتخويف، والترهيب. وكل هذا خروج عن حد المشروع، واعتداء على الدعاء المشروع، وهجر له، واستدراك عليه، وأخشى أن تكون ظاهرة ملل، وربما كان له حكم الكلام المتعمد غير المشروع في الصلاة فيُبْطِلُها. * التنبيه السادس: ويُجْتَنَبُ التطويل بما يشق على المأمومين، ويزيد أضعافاً على الدعاء الوارد، فيحصل من المشقة، واستنكار القلوب، وفتور المأمومين، مما يؤدي إلى خطر عظيم، يُخْشى على الإمام أن يلحقه منه إثم. وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد ــ رحمه الله تعالى ــ في مقدار القنوت في الوتر على ثلاث روايات: 1ــ بقدر سورة:(إذا السماء انشقت). 2ــ بقد دعاء عمر ــ ــ ويأتي. 3ــ كيف شاء. لكن إذا كان القانت إماماً فلا يختلفون في منع التطويل الذي يشق بالمأمومين. وإذا كان النبي قال لمعاذ ــ ــ لما أطال في صلاة الفريضة: «أفتان أنت يامعاذ؟» فكيف في هذه الحال؟! ولهذا جاء في تفسير قول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]. أي المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، ومنه: الإسهاب فيه؛ ولهذا كان بعض العلماء لا يزيد على كلمات معدودات في الدعاء، يدعو بها بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق، وأن الإسهاب من جملة الاعتداء، يشهد لذلك آخـر سورة البقـرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآيـة، فـإن الله ــ سبحانـه ــ لم يخبر في موضع من أدعية عباده بأكثر من ذلك وقد جمعت صيغتي الإيجاب والنفي، واستوعبت جميع ما يحتاج إليه العبد في دنياه وآخرته1). * التنبيه السابع: ويُجْتَنَبُ إيراد أدعية تُخْرُجُ مَخْرَجَ الدعاء، لكن فيها إدْلاَلٌ على الله ــ تعالى ــ حتى إنك لتسمع بعضهم في أول ليلة من رمضان يدعو قائلاً: «اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا» وقد يدعو بذلك في آخر رمضان، ولا يقرنه بقوله: «وتجاوز اللهم عن تقصيرنا، وتفريطنا». * التنبيه الثامن: وَيُتْرَكُ زيادة ألفاظ لا حاجة إليها، في مثل قول الداعي: «اللهم انصر المجاهدين في سبيلك» فيزيد: «في كل مكان» أو يزيد: «فوق كل أرض وتحت كل سماء» ونحو ذلك من زيادة ألفاظٍ لا محل لها، بل بعضها قد يحتمل معنى مرفوضاً شرعاً. ومن الألفاظ المولَّدة لفظة: «الشَّعْب» في الدعاء المخترع: «واجعلهم رحمة لشعوبهم...». وهو من إطلاقات اليهود من أنهم: «شعب الله المختار». ولا يلتبس عليك هذا بلفظ: «الشعب» في باب النسب، فلكل منهما مقام معلوم. ومن الدعاء بأساليب الصحافة والإعلام، قول بعض الداعين للأمة الإسلامية: «وهي تَرْفُلُ في ثوب الصحة والعافية» فمادة: «رَفَلَ» مدارها على التبختر، والخيلاء، فانظر كيف يحصل الدعاء بأن تقابل النعمة بالمعصية؟ وهكذا يفعل تجاوز السُّنن، وهجر التفتيش بكتب لسان العرب. * التنبيه التاسع: ولا يأتي الإمام بأدعية لها صفة العموم، بل تكون خاصة بحال ضُرًّ، أو نُصْرَةٍ، ونحو ذلك. ومنه الدعاء بدعاء نبي الله موسى ــ عليه السلام ــ في سورة طه/25ــ35 إلى قوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} إلى آخر الآيات. ومنه دعاء الإمام بمن معه: «اللهم أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا». لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس ــ ــ قال: قال النبي : «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلاً، فليقل: «اللهم احيني...» الحديث. وعليه ترجم النووي ــ رحمه الله تعالى ــ في «الأذكار» بقوله: «باب كراهية تمني الموت لضر نزل بالإنسان وجوزاه إذا خاف فتنة في دينه». وما ورد بنحوه مطلقاً، محمول على هذا المقيد. * التنبيه العاشر: ليس من حق الإمام أن يُرَاغِمَ المأمومين، ولا أن يُضَارَّهم بوقوف طويل يشق عليهم، ويُؤمَّنُوْنَ معه على دعاء مخترع لم يرد عن النبي أو يكونوا في شك من مشروعيته، وبينما هو في حال التغريد والانبساط فهم في غاية التحرج والانزعاج. خير الأمور الوسط الوسيط وشرها الإفراطُ والتفريط ولو سمع بعض الأئمة ما يكون من بعض المأمومين بعد السلام من تألم، وشكوى من التطويل، وأدعية يؤمن عليها ولا يعرفها، وتستنكرها القلوب؛ لرجع إلى السنة من فوره. فيجب على من وفقه الله وأمَّ الناس في الصلاة، أن يتقيد بالسنة، وأن لا يُوَظَّفَ مزاجه، واجتهاداته، مع قصور أهليته، وأن يستحضر رهبة الموقف من أنه بين يدي الله ــ تعالى ــ وفي مناجاته، وأنه في مقام القُدْوةِ، وَتَلَقُّن المسلمين للقنوت المشروع، ونشره، وتوارثهم له. وكان دأب العلماء الاقتصاد في الدعاء1)، ويرون الإسهاب فيه من جملة الاعتداء، ويشهد لـذلك آخـر سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآيـة، فـإن الله سبحانـه لم يخبر في موضع من أدعية عبادة بأكثر من ذلك، كما تقدم بيانه في: «التنبيه السادس». ومن استحضر هذه المعاني في قلبه، لم يقع في شيء من ذلك، نسأل الله ــ سبحانه ــ البصيرة في دينه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فَنَضِل. كما يجب على المأموم إحسان الظن بإمامه في الصلاة، وأن يتحلى بالتحمل، وأن لا يبادر إلى الاستنكار إلا بعد التأكد من أهل العلم الهداة، ومن ثم يكون تبادل النصيحة بالرفق واللين، والبعد كل البعد عن التشنيع، وإلحاق الأذى به، ومن فعل فقد احتمل إثـماً. وقد لوحظ أن بعض المأمومين لا يتابع الإمام برفع اليدين للدعاء والتأمين، وهذه مشاقة وحرمان. * التنبيه الحادي عشر: لا يُعْرَفُ في سُنَّة القنوت استفتاحه بغير ما ذكر في «المطلب الأول» من «المبحث الأول» من تعليم النبي ــ لسبطه الحسن ــ ــ: «اللهم اهدنا ...» وما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ــ ــ: «اللهم إنا نستعينك ...». والصلاة كلها حمد وثناء على الله تبارك وتعالى، ودعاء القنوت بعد الرفع من الركوع بعد الحمد في قول المصلي: «اللهم ربنا ولك الحمد ...». لهذا فلم أر في المأثور، ولم أسمع فيما جرى عليه العمل، أن المصلي يجلب أنواعاً من المحامد يستفتح بها دعاء القنوت في صلاة الوتر، ولم أُحِسُّ لهذا بأثر ولا أثارة إلا من بعض الأئمة بعد عام 1400، والاستدلال له بحديث فضالة بن عبيد ــ ــ وهو من إقامة الدليل على غير موضعه، فلا يستدل به هنا، كما هو ظاهر. والله أعلم.
9ــ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
10ــ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
التعليقات