المسجد والتربية الربانية

د. خالد راتب

المسجد محراب العلم والفكر الصحيح، كما أنه محراب العقيدة الوسطية التي تسلم من التحريف والتشبيه والتعطيل، ومحراب الأخلاق الحسنة، إنه محراب العبادة والمعاملة والرسالة، الذي يخرج لنا العبد الرباني الذي يرى ويسمع بنور الله، وجوارحه تتحرك بنور الله، قد أثرت الفرائض فيه قلبًا وقالبًا، فأصبح وليًّا لله، تنزل عليه الرحمات، ويدخل في معية الله.

 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".[1]

 فداخل المسجد يتربى المسلم على تطهير نفسه، وتصحيح عقيدته، والقرب من ربه، ومراقبته في سره وعلانيته، وفي داخل المسجد وبين صفوفه، يتربى المؤمن على الاتصال بإخوانه المؤمنين والشعور بآلامهم، والاهتمام بجميع شئونهم، وتقوية صفوفهم؛ حيث الأخوة والألفة والمحبة بين المؤمنين، فيعيشون عالمهم المثالي الخالي من التنافسات، والتطاحنات، وحروب الطبقات..،

وفي داخل المسجد يحس بالرسالة التي طوّق بأدائها، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحسنى والحكمة ..

وفي المسجد يشعر المؤمن بكرامته التي كرمه الله بها، وأنه متساوٍ في الحقوق والواجبات، مع جميع الذين يجلسون بجانبه، سواء كانوا حكامًا أو محكومين، أغنياء أو فقراء، جهالاً أو علماء، فهو واحد من كل، ولا ميزة لأيّ واحد إلا بالتقوى ..

وفي المسجد يجتمع المسلمون للتداول في شئونهم، والنهوض بحياتهم والاستماع إلى التوجيهات والتخطيطات التي يخططونها، للذود عن حوضهم، وصيانة عقيدتهم، والحفاظ على مقدساتهم ..

ومن المسجد تنطلق الدعوة إلى الله صارخة هادفة موضحة مبينة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77)، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (الحج:78)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة:9-10).[2]

والمسجد الرباني الذي أُسّس على التقوى من أول يوم يخرج لنا رجالاً طاهرين في عقيدتهم وجوارهم؛ ينشرون نور التوحيد بين جنبات الكون، قد رسخ الإيمان في قلوبهم وظهرت آثاره على جوارحهم، قد تجمعت صفات الخير فيهم؛ لأنهم يسارعون في الخيرات بل هم لها سابقون، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون:61).

فهم المتقون حقًّا، يفعلون ما أمرهم الله على نور من الله يرجون ثواب ربهم، وينتهون عما نهى الله على نور من الله يخافون عقاب الله، وهم صابرون على تحقيق العبودية الكاملة لربهم طاعة وامتثالاً، وصابرون على أقدار الله، وصابرون عما زيَّن للناس من حب الشهوات، صادقون فيما عاهدوا الله عليه، صادقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، قانتون طائعون، منفقون  في جميع أنواع البر، مستجيبون لداعي الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} (البقرة:254)، ومستغفرون بالليل والنهار، وهذا نعتهم في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}(آل عمران:16-17).

فمفتاح التربية الربانية المساجد التي يتعلم فيها العبد تحقيق الدين بأركانه الثلاثة: (الإسلام- الإيمان- الإحسان)؛ فيسلم وينقاد لله، ويسعى في تطبيق هذا الانقياد عمليًّا بتحقيق أركان الإسلام الخمس، وكذلك تحقيق الإيمان قولاً وعملاً، بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ثم يجاهد نفسه ليصل لدرجة الإحسان في العبادة، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهذا ما تولى جبريل تعليمه عمليًّا لأمة النبي – صلى الله عليه وسلم-.

فعن عمر بن الخطاب قال :"بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال صدقت. قال فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". قال صدقت. قال فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".[3]

والإحسان الذي هو تاج الدين مطلوب تحققه في إسلامنا وإيماننا وأخلاقنا ومعاملاتنا، ولا نصل لهذا الإحسان بمفهومه الشامل إلا بالاقتداء بمن حقّق الإحسان في حياته كلها الذي كانت رسالته رسالة الإحسان والأخلاق: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق".[4]

كما أننا نحتاج إلى بيئة صالحة بيئة إيمانية أخلاقية نُعان فيها على البر والتقوى، وليس هناك بيئة تتوافر فيها عوامل الصلاح والإصلاح إلا المساجد بيوت الله، ففيها تتربى القلوب على حب الله وحب الناس، والخوف من الله ومن عذابه، والرجاء فيما عنده من رحمة، وتتربى كذلك على جميع أنواع الخير والبر، وتتربى الجوارح على الإتقان في كل شيء؛ خاشعة خاضعة لله في بيته فتكون كذلك خارج المسجد، ويتربى المسلم أيضًا على ربانية النظام فهو متابع لإمام يتحرك بحركاته؛ لأنه يعلم أنه ما جُعل الإمام إلا ليؤتم به، وهذه المتابعة ليست في الخطأ، بل إن أخطأ الإمام يوجّه.

 كما يتعلم ربانية الجمع بين غذاء الروح والجسد، حسنة الدنيا والآخرة، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه مساجد المسلمين؛ فالمسجد ليس محراب العبادة فقط، ولكن محراب العبادة والرسالة، والمساجد لا بد أن تُؤسس التربية المتكاملة والشاملة، فهي تُعنَى بالإنسان من جميع جوانبه، وتعلم أن الجسم خلقه الله من الطين وغذاه مما يخرج من ذلك الطين، أما الروح فهي نفخة من روح الله تعالى، وغذاؤها في الصلة بالله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71, 72].

وقد أعطى الإسلام الجسم حقه ومطالبه فلم يحرمه من الطيبات، وأحل له الطعام والشراب، ولم يحرم عليه إلا ما يفسد ويضر الإنسان قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. ولم يضيق عليه في الاستمتاع بالجنس الآخر، فأباح له الاستمتاع عن طريق الزواج الشرعي قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، وقد وجهت التربية الربانية الإنسان إلى العناية بكل من جسمه وروحه وقاية ورعاية وعلاجاً، قال- صلى الله عليه وسلم -: "فإن لجسدك عليك حقّاً".[5]

ورغَّب الإسلام المسلمَ في الحرص على توافر عناصر القوة في جسمه ونفسه "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".[6]

 

                              



[1]) أخرجه البخاري- كتاب الرقاق - باب التواضع-.

[2] ) مجلة البحوث الإسلامية ع 79 ج2 ص 511 بتصرف كبير.

[3] ) أخرجه البخاري- كتاب الإيمان - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة -، ومسلم- كتاب الإيمان- باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة-.

[4] ) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم ( 273 ) ، و ابن سعد في " الطبقات "( 1 / 192 ) ، و الحاكم ( 2 / 613 ) ، و أحمد ( 2 / 318 ) ، وابن عساكر في" تاريخ دمشق " ( 6 / 267 / 1 ) من طريق ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الشيخ الألباني : ( صحيح )، انظر حديث رقم : 2349 في صحيح الجامع.

[5] ) أخرجه البخاري- كتاب الصوم -باب حق الجسم فى الصوم-.

[6] ) انظر: خطب وزارة الاوقاف الكويتية 1/234 بتصرف كبير، والحديث أخرجه البخاري- كتاب القدر -باب فى الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله-.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.