الاستئذان .. الأدب المهجور

ذهبتُ قبل سنوات عدة أنا وصاحبٌ لي لزيارة صديقٍ لنا في غير ما مصلحة أو منفعة، وإنما هو التآخي في الله؛ فأجابنا بعضُ أهله بأنه غير مستعدٍ لاستقبالنا.. فمضينا في سبيلنا.. غير أني وجدتُ في نفسي أن كنا جئنا للقائه من مسافةٍ بعيدة خاصةً صاحبي الذي جاء من أقصى المدينة.

 لاحظ صاحبي ذلك فذكَّرني بقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]؛ فوقعت الآيةُ الكريمة على قلبي بردًا وسلامًا، وتسلَّيتُ بها.

وإنما نزل بي ما نزل حين ردَّنا صاحبُنا عن بابه لأجل غياب هذا الأدب عني؛ وإلا فإن الاغتباط وقتها كان أولى بي، على ما كان يرجو هذا الصحابي الكريم: "لَقَدْ طلبتُ عُمْرِي كلَّه هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا أَدْرَكْتُهَا: أَنْ أستأذنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي: "ارْجِعْ"، فَأَرْجِعُ وَأَنَا مُغْتَبِطٌ".([1])

وآداب الاستئذان من الآداب المهجورة في زمان الناس هذا، بل هو مما جحده الناسُ من قديمٍ، كما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، أنه قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ جَحَدها النَّاسُ: ... وذكر منها: "وَالْإِذْنُ كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ"([2]). وحين تتأمل في أن ابن عباس رضي الله عنهما يتحدث بمثل قوله هذا في زمنٍ هو الأقرب إلى عهد النبوة، تدرك حجم المصاب الحاصل هذه الأيام ليس في هذا الأدب وحسب، بل وفي كثيرٍ غيره.

لأجل ذلك كانتِ الحاجةُ ماسَّةً إلى إعادة وصل الناس بهذا الأدب المهجور؛ حفظًا لحرمات البيوت، وتجنبًا لمفاسد كثيرة متحققة. ونقول ابتداءً: إن الأصل في دخول البيوت المملوكة للغير هو المنع إلا بإذن صاحبها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27].

والاسْتِئْنَاسُ هُوَ الاسْتِئْذَانُ، كما قال أهل التفسير.

ويمكن أن نجمل آداب الاستئذان في الأمور التالية:

(1)           مراعاة الوقت المناسب وأحوال المستأذَن عليه:

فلما قدم النبي صلَّى الله عليه وسلم من سفر مع جمع من أصحابه، وأرادوا أن يدخلوا المدينة نهارًا، قال صلى الله عليه وسلم: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلاً - أَيْ عِشَاءً - كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ»([3]). فقد راعى صلى الله عليه وسلم هنا الوقت المناسب، والحال المناسبة أيضًا؛ فمن شأن تأخير الدخول من النهار إلى الليل إعطاء الوقت الكافي لنساء الدار كي يأخذن زينتهن ويُهيئن أنفسهن لأزواجهن.

ومن اللطيف في زماننا هذا مع انتشار وسائل الاتصال أن يتم الاستئذان عبر الهاتف لمعرفة ما إذا كان الشخص موجودًا أم لا، وما إذا كان الموعد مناسبًا أم غير مناسب.

(2)           عدم الوقوف أمام الأبواب بشكل مباشر:

بل على المستأذِن أن يجعل البابَ عن يمينه أو شماله، ولا يستقبله استقبالاً بحيث يكشف عورات أهل الدار إذا ما فتحوا الباب، ولما جاء رجلٌ فوقف على باب النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذِنُ، فقامَ على الباب مُستقبِلَ الباب؛ قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: «هكذا عنك -أو هكذا- فإنما الاستئذَانُ مِنَ النَّظَرِ»([4]).

وعن عبدِ الله بنِ بُسْرٍ- رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ، لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ»، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ"([5]).

(3)           قرع الأبواب برفق:

بعض الأشخاص يقرعون الأبواب (أو ما يحل محل القرع من رنِّ أجراس) بشكلٍ مزعج جدًّا يُفزِع أهلَ البيت ويروِّع من به من صغار أو نساء، وهذا فضلاً عما فيه من ترويع المسلمين وما ورد فيه من نهي صريح، فإنه غير جائز من باب أنه يخالف السنة الصحيحة؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: «أَنَّ أَبْوَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ»([6]). وهذا وإن كان يفعله الصحابة -رضوان الله عليهم- توقيرًا وإجلالاً وأدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من محاسن الآداب التي ينبغي مراعاتها عند طرق الأبواب.

والضابط هنا أن يطرق الباب بحيث يُسمع من بداخله، فإن كان يظن أن أصحاب الدار قريبين من الباب قرَعه برفق، وإلا فبحسب ما يغلب على ظنه من بُعدهم عن الباب دون أن يؤذيهم أو يزعجهم، أو يمتد الأذى إلى من يليهم من الجيران. يقول ابن مفلح رحمه الله: "وَلَا يَدُقُّ الْبَابَ بِعُنْفٍ لِنِسْبَةِ فَاعِلِهِ عُرْفًا إلَى قِلَّةِ الْأَدَب".([7])

(4)           التعريف بنفسه إذا طُلب منه:

فلو سأل أهلُ الدار عن الطارق ينبغي أن يخبرهم باسمه أو كنيته، ولا يقول: (أنا) أو يخوض مباشرةً في ذكر حاجته دون الكشف عن هويته؛ فإن ذلك أبعدُ لاطمئنان أهل الدار له، وأشدُّ ريبةً لهم. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: «مَنْ ذَا» فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: «أَنَا أَنَا» كَأَنَّهُ كَرِهَهَا([8]).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا اسْتَأْذَنَ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ أَوْ مَنْ هَذَا؟ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَوْلِهِ (أَنَا) فَائِدَةٌ وَلَا زِيَادَةٌ، بَلِ الْإِبْهَامُ بَاقٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فُلَانٌ بِاسْمِهِ، وإِنْ قَالَ أَنَا فلان فَلا بَأس كَمَا قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ حِينَ اسْتَأْذَنَتْ فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ فقالت أنا أم هانئ، ولا بأس بِقَوْلِهِ أَنَا أَبُو فُلَانٍ، أَوْ الْقَاضِي فُلَانٌ، أو الشيخ فُلَانٌ، إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ بِالِاسْمِ لِخَفَائِهِ ... وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا أَنْ يَقُولَ: أَنَا فُلَانٌ الْمَعْرُوفُ بِكَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ([9]).

(5)           صيغة الاستئذان:

والصيغة الصحيحة هي التي أرشد إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينما استأذن رَجُلٌ مَنْ بَنِي عَامِرٍ عليه وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: "اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ " فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ([10]).

قال الشيخ الألباني: "فيه دليل صريح على أن من أدب الاستئذان في الدخول البدء بالسلام قبل الاستئذان، وفي ذلك أحاديث أخرى بعضها أصرح من هذا ... ويؤيده ما رواه البخاري في " أدبه" (1066) بسند صحيح عن عطاء عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: "لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام". وفي رواية له (1067 و1083) بإسناد أصح عن عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال: أأدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا حتى تأتي بالمفتاح. قلت: السلام؟ قال: نعم"([11]). ا. هـ.

فالصيغة الصحيحة إذن هي البدء بالسلام قبل الاستئذان؛ فهو بمنزلة المفتاح للاستئذان، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

(6)           الاستئذان ثلاثًا ولا يزيد:

إذا قال المستأذن: "السلام عليكم، أأدخل؟"؛ فهو أمام حالةٍ من ثلاث: إما أن يؤذن له فحينئذٍ يدخل، وإما أن يُردَّ ويؤمرَ بالرجوع فيرجع وينصرف، وإما ألا يجد جوابًا فحينئذٍ يستأذن ثلاثاً يقول في كل مرة (السلام عليكم، أأدخل؟) ثم ينصرف ولا يزيد على ثلاث؛ لأن ذلك هو هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ»، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ القَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ القَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ([12]).

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قَالَ: هُوَ الِاسْتِئْذَانُ. قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِنَّ، فَلْيَرْجِعْ. أَمَّا الْأُولَى: فَلْيُسْمِعِ الْحَيَّ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدّوا. وَلَا تَقِفَنَّ عَلَى بَابِ قَوْمٍ رَدُّوكَ عَنْ بَابِهِمْ؛ فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَلَهُمْ أَشْغَالٌ، وَاللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ([13]).

(7)           عدم الدخول إن لم يكن بالبيت أحد:

لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28]، وإنما كان هذا النهي "لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَذِنَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْذَنْ"([14]).

ويستوي النهي عن دخول البيوت إذا لم يكن بها أهلُها "سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَغْلَقَهُ بِالتَّحْرِيمِ لِلدُّخُولِ حَتَّى يَفْتَحَهُ الْإِذْنُ مِنْ رَبِّهِ"([15]).

وما سبق كله جملة من الآداب العامة في الاستئذان والمتعلقة باستئذان الأجانب بعضِهم على بعض، لكن خُصَّ بَعْض الْمُسْتَأْذِنِينَ بمجموعة من الآداب الخاصة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58، 59].

قال ابنُ كثير رحمه الله: "أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يستأذنَهم خَدَمُهم مِمَّا ملكَت أَيْمَانُهُمْ وَأَطْفَالُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُونَ نِيَامًا فِي فُرُشِهِمْ {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أَيْ: فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَعَ أَهْلِهِ، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ، فيُؤمَرُ الخدمُ وَالْأَطْفَالُ أَلَّا يهجمُوا عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِمَا يُخْشَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ".([16])

وقد أُمر الأطفال بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأُبيح لهم ما سوى ذلك من الأوقات، ثم أمر الله عز وجل الأطفال إذا بلغوا الحُلُمَ أن يتأدبوا بآداب الرجال في الاستئذان في جميع الأوقات.

قال عطاء: "وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا، أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيدًا"([17]).

ومما يجدر التعريج عليه وهو متعلق بشدة بآداب الاستئذان، لكن يغفل عنه كثيرٌ من الناس مسألة الاتصال عبر الهاتف، فأنت حين تتصل على أحد إنما تستأذن لتتكلم معه؛ ولهذا فإن بعض آداب الاستئذان تنسحب عليه؛ فإن رفض المتصل عليه استقبال مكالمتك فكُفّ عنه، ولا تعاود الاتصال به التزامًا بقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]، وإن اتصلت عليه مرة وأخرى وثالثة ولم تجد جوابًا، فكُفَّ عنه أيضًا ولا تزد عن ثلاث، كما مرَّ بنا في آداب الاستئذان. ومن باب التوسعة، قال بعض أهل العلم: يترك الهاتف يرن حتى ينتهي، في كل مرة من المرات الثلاث.

كذلك ينبغي استصحاب آداب الاستئذان عند الحديث عبر برامج المحادثة (Chat) على الشبكة العنكبوتية (شبكة الإنترنت)، وقد باتت منتشرة ومتفشية بشكل واسع بين المسلمين اليوم؛ مما يلزم معه تنزيل آداب الاستئذان عليها.

وفي الختام، اعلم أخي –رعاك الله- أن "الاستئذان واجب وجوب الفرائض[18]، ومن تركه فهو عاصٍ لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومَن جحده فإنه يكفر؛ لأنه ورد الأمر به في الكتاب الكريم"([19]). وقد شُرع لتحقيق مصالح عظيمة أجلّها ستر عورات الأنفس والأموال، وشُرع كذلك ليبقي البيت سكنًا لصاحبه، يأوي إليه لراحته ويستريح فيه، لينجز عملاً، أو يخلوَ بعبادة، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، ولو تَرَك وقته نهباً لكل طارق فاتت عليه مصالحه، واضطربت أحواله وتشتت أمره([20]).



[1] تفسير ابن كثير، ت سلامة (6/ 41).

[2] تفسير الطبري، ت شاكر (19/ 148).

[3] متفق عليه: البخاري (5079)، ومسلم (715).

[4] أخرجه أبو داود (5174) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4310).

[5] رواه أحمد0 (4/189) والبخاري في الأدب المفرد (1082) ، وأبو داود (5186) ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (822).

[6] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1080)، وصححه الألباني.

[7] الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 399).

[8] متفق عليه: أخرجه البخاري (6250)، ومسلم (2155).

[9] شرح النووي على مسلم (14/ 135، 136).

[10] رواه: أبو داود، وأحمد، والبخاري في (الأدب المفرد)، وصححه الألباني في الصحيحة (818، و819).

[11] السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني لدى تعليقه على الحديث رقم (2712).

[12] متفق عليه: رواه البخاري (6245) ، ومسلم (2153).

[13] تفسير ابن كثير، ت سلامة (6/ 40).

[14] تفسير ابن كثير، ت سلامة (6/ 41).

[15] تفسير القرطبي (12/ 220).

[16] تفسير ابن كثير، ت سلامة (6/ 81).

[17] تفسير القرطبي (12/ 308).

[18] أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز دخول بيت الغير إلا بإذن؛ لأن الله تعالى حرّم على الخلق أن يطّلعوا على ما في بيوت الغير من خارجها، أو يلجوها من غير إذن أربابها؛ لئلا يطلع أحد منهم على عورة، وذلك لغاية هي: الاستئناس، وهو: الاستئذان؛ لأن الله تعالى خصص البيوت لسكنى الناس، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} (سورة النور : 27)، واستثنى الفقهاء حالة الغزو، فيجوز دخول البيت إذا كان ذلك البيت مشرفًا على العدو، فللغزاة دخوله ليقاتلوا العدو فيه، وكذا في حالة العلم، أو الظن الغالب بوجود فساد فيه، فيجوز للإمام أو نائبه الهجوم على بيت المفسدين، وقد هجم عمر رضي الله عنه على نائحة في منزلها، وضربها بالدرة حتى سقط خمارها، فقيل له فيه، فقال: لا حرمة لها. أي: لاشتغالها بالمحرم والتحقت بالإماء. وقد نفّذ عمر رضي الله عنه التعزير لهتك حرمات البيت، وذلك في رجل وجد في بيت رجل بعد العتمة ملففًا، فضربه عمر مائة جلدة. (الموسوعة الفقهية الكويتية 8/229 -230).

[19] كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي (2/439).

[20] "الأدب الضائع" للشيخ محمد بن إسماعيل المقدّم (ص 19-21).

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.