آداب إلقاء العلم بالمساجد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى من أجل الأعمال وأفضلها وأزكاها، وإن دور المسجد الدعوي دور عظيم، ومنزلة إمام المسجد في هذا العمل منزلة كبيرة، فهو أسّ العمل وأساسه ومنطلقه، وعليه اعتماده.

وإن نشر العلم وتعليمه من أعظم القُربات إلى الله عز وجل، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] أي: لا أحد أحسن قولاً منه؛ إذ إن الداعي إلى الله سبحانه وتعالى يكسب أجرًا عظيمًا بهداية الآخرين؛ ولذلك فالقاعدة الشرعية أن العمل الصالح الذي نفعه متعدٍّ للآخرين أعظم أجرًا عند الله - سبحانه وتعالى - من العمل الصالح الذي نفعه قاصر على الشخص، فصيام التطوع -مثلاً- عمل صالح له أجر وثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى، ولكن طلب العلم وتعليمه للآخرين أعظم من صيام التطوع؛ لأن نفعه متعدٍّ للآخرين.

وإن قيام إمام المسجد بتعليم العلم النافع للمسلمين  لهو دور حيوي لا يستغني الناس عنه، وهو بالإضافة إلى أنه أفضل وجوه عمارة المسجد، فهو أيضًا نشر للخير وغرس للفضائل، وقيام بأعباء الدور الملقى على عاتقه، قال الإمام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله-: (إن أفضل الأعمال بعد الجهاد في سبيل الله: عمارة المساجد بذكر الله وطاعته، فيدخل في ذلك: الصلاة والذكر والتلاوة والاعتكاف، وتعليم العلم النافع واستماعه) (انظر: لطائف المعارف ص 252).

ثواب تعليم العلم:

ورد ت في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصوص كثيرة متواترة تبين مكانة ورفعة العلماء الذين يرشدون الخلق، وينشرون العلم بينهم في رحمة ورفق وأناة، فقال رب العالمين: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وقال سبحانه: { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا علمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته" [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (73، 108، 273)].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له". أخرجه مسلم.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" [رواه الطبراني في الأوسط والبزار، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (65)].

وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يُعملُ به من بعده" [رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الترغيب (75)].

من آداب إلقاء دروس العلم في المسجد:

1- تخير الأوقات والمناسبات: فينبغي لإمام المسجد أن يقبل على الناس في وقت يظن أنه مناسب للناس، فلا يقوم لموعظة الناس في وقت اشتد حره، أو أثناء انشغالهم بأعمالهم، ولكن يتخير وقتًا يكون فيه الناس أصفى نفوسًا وأطيب قلوبًا، في المساء أو بعد الفجر، ويستنصت الناس – أي: يطلب منهم الصمت والإنصات- إن لم يكونوا كذلك؛ لما صح عن جرير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: (استنصت الناس) [رواه البخاري (121)].

2- أن يحدث الناس بما يعرفون، وفي القضايا التي تشغلهم، ويتبع الأَوْلى في الدعوة، فيبدأ بالأهم ثم المهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك...» متفق عليه.

3- أن يكون كلامه واضحًا، فيُبيِّن المراد من كلامه، وإن احتاج إلى ذكر ما يُستحى منه. ومن أدلة ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ" قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُسَاء أو ضُراط.أ هـ (حديث 135). قال النووي (إذا لم يكمل البيان إلا بالتصريح بعبارة يستحى في العادة من ذكرها، فليذكرها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الأدب من ذلك، فإن إيضاحها أهم من ذلك، وإنما تستحب الكناية في هذا إذا عُلِم بها المقصود علمًا جليًّا) [المجموع ج1 ص33].

ولكن لا يكون البيان عن المراد بصريح العبارة التي ينكرها العرف, فما يكون متعارف عليه في وقت أوزمان قد يكون منكرا في زمان آخر، بل ما يكون مسموحا به في بلد قد يكون غير مسموح به في بلد آخر, فليس كل الألفاظ التي يستحى منها تبين.

كما أن السياق اللغوي, بمناسباته وقرائنه، هو الذي يحدد قبول هذه اللفظة في أ م لا:

4- أن يتدرج إمام المسجد في العلم مع التيسير على المصلين حال تعليمهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تنفِّروا" رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه. وقال ابن حجر في شرحه: (كذلك تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حُبِّب إلي من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد بخلاف ضده) [فتح الباري ج1 ص163].

5- لزوم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة:

ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العلم: حرصه على ابتداء أصحابه - رضي الله عنهم- بالفوائد في نشره العلم، سواء بالسؤال أو ضرب المثال أو حكاية القصة، قال أبو عمر ابن عبد البر موضحًا تنوع طرق الدعوة المحمدية، فقال: ومن ذلك (طرح العالم العلم على المتعلم، وابتداؤه إياه بالفائدة، وعرضها عليه) [التمهيد (20/ 222)].

وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حثّ أصحابه على معالي الأمور ومكارم الأعمال، ولهذا نراه في هذا الحديث يستحث أصحابه على تطهير قلوبهم من العطايا، ويُعلي من هممهم للترقي في مدارج العبودية ومسالك الطاعات، وكلما ازداد إقبال العبد على ربه، وأخلص قلبه في ذلك؛ انفتح له من أبواب الطاعات ما لا يخطر على بال. قال الإمام ابن القيم: (صِدْقُ التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة، والمحبة، والرجاء، والخشية، والتفويض، والتسليم، وسائر إعمال القلوب والجوارح فمفتاح ذلك كله: صدق التأهب، والاستعداد للقاء الله ) [طريق الهجرتين، (223)].

وفي الختام نوصي إمام المسجد بالتحلي بتقوى الله وإخلاص النية والعمل لله وطلب مرضاته بالدعوة إليه.

وأن يحرص هو على تعلم العلم النافع، ففاقد الشيء لا يعطيه، فَعِلْم الواعظ بما يقول هو الذي يجعل الموعظة نقيةً من إيراد الأحاديث الموضوعة، أو القصص المنبوذة، أو تحسين البدع، أو إضلال الناس. قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108)، فلا بد للواعظ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه من فعل أو ترك.

وكن أخي الكريم لين الجانب، منبسط الوجه، وأحسن إلى الناس: فالناس يحبون لين الجانب، وبسط الوجه، والقلوب تُقْبل على من يتواضع لها، وتنفر ممن يزدريها.

نسأل الله أن ينفع بك ويرفع بك أمتك.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.