الدلالات الحضارية في الهجرة النبوية
لا يوجد دين ولا مذهب عبر التاريخ أن يتحدى الزمن ليبقى محتفظًا بطاقته كلها إلا الدين الإسلامي الذي ارتبط تاريخه بالهجرة النبوية، إنه لمن أعظم الأدلة على أن هذا الدين دين حق، ما دخله الباطل ولا استطاعت قوى الشر أن تجرفه أو تنحرف به، فيحق للمسلمين أن يحتفلوا بأنهم وحدهم في الدنيا كلها حملة مشعل الحق الذي لا يختلف مع الأيام، لذا يعتبر المسلمون بهذه الأصالة الضاربة في الزمن لأنهم قد اختارهم الله حملة شرعه وناشرين لكلمته.
إن الابتهاج بجلال هذه الذكرى ليفرض علينا أن نقف وقفة قليلة نستجلي وحدة من وحدات الإسلام العظمى التي كلها بركة وخير على الإنسانية قاطبة، فالمسمون بخروجهم من مكة إلى المدينة تاركين وراءهم كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا جسدوا أبلغ معاني التضحية في سبيل هذا الدين ومبادئه السمحة وقيمه الإنسانية النبيلة وأبعاده الحضارية الراقية، وتخليدًا لها الحدث اتخذه المسلمون الأوائل منطلقًا لتاريخهم تعبيرًا منهم عن رغبتهم في التميز والاعتزاز بالإنجازات الكبرى التي تحققت للإسلام، وحدث كهذا يحق لهم أن يجعلوه منطلقًا لتاريخهم ويحتفلوا به كل عام بل كل يوم لاستجلاء العبر والوقوف على أمجاد الأوائل وإنجازاتهم الحضارية.
الهجرة تضحية وإيثار:
إن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة حدث فريد في تاريخ الإنسانية، ذلك أ،ه نهج للإنسانية ومثل يحتذى للتضحية بالنفس والنفيس وبكل ما يملك الإنسان من متاع في سبيل الاحتفاظ بالهدف النبيل السامي والقيم العليا، فالمؤمن الكامل هو الذي يبذل في سبيل المبادئ كل غال ولا يمكن أن يساوم فيها.
وقوبلت هذه التضحية بالحسنى والإيثار وحسن الوفادة، فقد عبر أهل المدينة عن تقديرهم للتضحية أبلغ التعبير فآووا المهاجرين وتآخوا معهم وشركوهم ممتلكاتهم بل آثروهم على أنفسهم، وامتدح الله هذا السلوك النبيل بقوله: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
الهجرة النبوية وحدة وتكافل:
إن وصول المسلمين إلى المدينة كانت بداية فترة جديدة حالفة في تاريخ الإسلام، عندها توفرت أركان المجتمع المسلم فبدأ التأسيس العملي لمبادئ الإسلام وتصوراته، والخطوة الأولى كانت بتوحيد المسلمين وتقوية الروابط بين مكونات المجتمع المدني.
العقد الاجتماعي بين السكان:
من أجل تمكين المسلمين من الاستقرار النفسي والمادي وللقضاء على فكرة التعصب القبلي وتعويد المسلمين على الأخوة في الدين وتعويدهم على سنة التعاون والتكافل والتضامن من بينهم أوجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسمى بالمؤاخذة حتى قال لهم: «تآخوا في الله أخوين» فكانت عملية المؤاخاة هذه حلاً رائدًا لمشاكل المجتمع الإسلامي بالمدينة.
الوحدة الوطنية شرط حضاري:
الوطن جزء من الدين وحبه من الإيمان والدفاع عنه والحفاظ على إنجازاته ومقوماته واجب مقدس، لهذا السبب كانت الخطوة الموالية لوحدة الصف الداخلي تنظيم السكان ولم شملهم مهما كانت انتماءاتهم الدينية والعرقية والقبلية، فعقد صلى الله عليه وسلم ميثاقًا بين كل ساكني المدينة وأطيافها، حدد فيه حقوقهم وواجباتهم الوطنية – سمي وقتها بالصحيفة وهي أشبه بالميثاق الوطني في مصطلح النظم السياسية المعاصرة – وأكد فيه صلى الله عليه وسلم على التضامن العام والمسؤولية الكاملة بين ساكني المدينة، فاعتبر الحرية الدينية حقًّا والدفاع عن المدينة مسؤولية جماعية مشتركة تتساوى فيها جميع الفئات، وهذه الوثيقة تعتبر طلائعية في عصرها، تحدد علاقات الساكنين مع بعضهم بعضًا، وتعمل على الرفع من شأن مدينتهم والسير بها نحو المدينة الحقة.
الاحتفال بالهجرة النبوية تأصيل للهوية:
حين نحتفل بذكرى الهجرة كل سنة فإنما نفعل ذلك تأسيسًا بالأدب الذي أدب الله به هذه الأمة في كتابها الكريم فيما قصه علينا من عبر الماضي، يقول تعالى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5]، فالأيام التي أنعم الله فيها على الإنسانية وتفضل بالرحمة الباقية يجب أن تبقى حية في نفوس المؤمنين تتجدد ذكراها في كل مناسبة، للاعتبار وحمد الله على ما أنعم، فالنعمة توجب الشكر، والشكر يترتب عليه الزيادة للشاكرين، وليس شكر النعمة بالقول المنقطع عن الفعل، ولكن شكر المنعم يكون بصرف النعمة خلقت من أجله، واحتفاؤنا بالسنة الهجرية لا يكون لذلك معنى إذا لم نعد إلى صافي النبع الإسلامي ونرتوي منه، وإلى منهج الدين القويم ونطبقه، إنه لو عاد المسلمون إلى كنزهم المعطاء فانتفعوا به لتحقق لهم التمكين وتمت لهم العزة.
ولقد خفيت هذه العاني المشرفة الساطعة، فتجاهل بعض المسلمين دينهم وتاريخهم واستهانوا به – على درجات متفاوتة – وأنه من الحزن أن تسأل الشاب في المعهد والكلية وتسأل الكهل والشيخ عن التاريخ الهجري والتقويم العربي فلا تجد عند واحد منهم علمًا إلا ببعض الأشهر كرمضان وذي الحجة، فحقيق بنا أن نعتمد التقويم الهجري في حياتنا وأن نعرف الأشهر العربية ونعلمها لأبنائنا حفاظًا على أصالتنا ومميزاتنا.
التقويم الهجري جزء من حضارتنا:
إن اتخاذ الهجرة النبوية مبدأ للتاريخ الإسلامي وتقدير هذا الحدث بما يستحق من التقدير أومأت إليه الآية الكريمة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول فيها سبحانه وتعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108] لقد سمى الله تعالى اليوم الذي أسس فيه مسجد "قباء" اليوم الأول في تاريخ أمة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد "قباء" هو المسجد الذي أقيمت أركانه مع قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، فمن هذا اليوم الأول كما سماه الله تعالى في كتابه ابتدأ تاريخ هذه الأمة.
واتخذ المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حادثة الهجرة تاريخًا يؤرخون بها، معتمدين الأشهر العربية التي كانت معروفة لديهم، نظرًا إلى مكانة الهجرة في الإسلام باعتبارها الحدث الأبرز في تاريخ المسلمين، فهو التاريخ الذي أعز الله فيه الإسلام وهيأ للمسلمين عوامل الاستقرار وأسباب القوة والبناء.
التقويم الهجري دلالة بارزة على تجذر هويتنا
إن الإسلام كان حريصًا كل الحرص على أن يعطي لهذه الأمة سماتها الحضارية الخاصة با ويريدها أن تكون مستقلة بذاتها بعيدة عن التقليد، فالتقليد مظهر من مظاهر الضعف والعجز، حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: «لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا» [الترمذي: 7/ 290].
والتقليد كذلك عيب حضاري لأنه شارة الهوان والانتكاس الحضاري، ويعطل العقول ويقعدها عن الإضافة والإبداع ويعوق الأفراد والمجتمعات عن تحقيق إنجازاتها وبناء ذاتها، لهذا قال ابن خلدون: المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده (المقدمة: 1/ 73).
ولقد أدرك عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى ووضعوا تاريخًا خاصًا بهم واختاروا الهجرة منطلقًا لذلك وسندهم في ذلك قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108]، فهم أعلم الناس بمراد القرآن الكريم وتأويله وما فيه من إشارات ودلالات.
كما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على اختيارهم شهر محرم بداية السنة؛ لأنه شهر من الأشهر الحرم ولأن ابتداء العزم على الهجرة كان في هذا الشهر.
هل من هجرة في هذا الزمان؟
من رحمة الله بعباده أن جعل الهجرة قيمة حضارية ودلالة أخلاقية راقية لا ترتبط بمكان ولا بزمان، وإنما جعلها باقية إلى يوم الدين فهي صفة من صفات المسلم الحقيقي، فالهجرة التي نوه الله بها وشرف أصحابها بلقب المهاجر هي تلك النقلة النوعية التي يحققها المسلم في ذاته فيرتقي بها في مدارج الصالحين ويستزيد من التقوى والعمل الصالح، وهي التي دل عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (البخاري).
فالهجرة الحقيقية الدائمة هي نقلة نوعية في حياة الفرد المسلم، وتغيير مستمر نحو الأفضل والارتقاء بالنفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ليصل بها الحال إلى مقام الاطمئنان والرضا بحكم الله والمكابدة على الطاعة والعمل الصالح والابتعاد عن المعاصي والفساد، يقول صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخاري).
فالتنمية التي يطمح إليها الإسلام ليست تلك التي يروج لها بعضهم، الخاوية من كل القيم والأخلاق، وإنما هي التي تستمد جذورها من التراث الإسلامي الأصيل والتقاليد الحميدة والعادات الحسنة والموروثة عن الأجداد، لتحقيق التوازن بين البعد الحضاري والإرث الحضاري، فليس الإسلام والتقدم، ولا يتنافى أصلاً مع الحضارة والتقدم لأنه دين حضارة وعلم ونهضة.
والإسلام منبع الأخلاق وبدون الأخلاق وبدون حسن السلوك وبدون العلم لا تستطيع الأمم أن تبني أجيالها وتقوم بواجباتها وإنما تبني حضارات الأمم بالعلم وحسن الخلق.
الهجرة في المفهوم الحضاري هي هجرة الجهل والأوهام إلى نور العلم والمعرفة لتحقيق معاني الاستخلاف والارتقاء بالمجتمع وتنويره بالعلوم والمعارف، فكما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والجهلاء وأعلى من شأن العلم والعلماء فعلى المسلم أن يسير وفق هذا المنهج القويم فيقبل على تحصيل العلوم والمعارف ويضحي بكثير من راحته من أجل ذلك، يقول تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9].
ولما كان مقياس تقدم الشعوب والأمم إنما يقاس بمستوى التعليم وانتشاره فإن الإسلام أولى اهتمامًا خاصًا بالعلم والتعليم والتربية فشجع على إقامة المؤسسات التعليمية وشجع الطلبة على مواصلة النهل من موارد المعرفة والعلوم، فالنهضة العلمية مدخل الاجتهاد الحضاري، والمجتمعات لا يقومها ولا يرقيها شيء غير العلم، به تتبدد سحب الجهل ويدفع المجتمع إلى الأخذ بأسباب الرقي والحضارة.
ولما كان العلم هو أساس التقدم، والحرص عليه هو السبيل الكفيل بتحقيق تقدمنا ونماء ثرواتنا وطموحاتنا في العيش الكريم فإنه أصبح معلومًا أن التعليم هو ركيزة العلم ومنطلقه والأساس النهضة والحضارة وفي زيادة وعي الفرد الاجتماعي والسياسي، وفي اكتسابه المهارات والقدرات وفي توسيع مداركه في التعامل مع المتغيرات، خاصة أن مواكبة العصر صارت تتوقف على المعرفة وعلى نوعية التعليم وجودته، وإن المسيرة التعليمية والتربوية الصحيحة ينبغي أن تقوم على أساس ربط الدين بالدنيا في تربية النشء وإعدادهم وتأهيلهم.
والهجرة الفاعلة هي هجرة الخمول والكسل إلى العمل الجدي المثير والانضباط والحزم والشعور بالعزة والكرامة، وبمثل هذه القيم تبنى الحضارات وتتأسس المدنيات، فللعمل في ديننا قيمة رفيعة حث عليه منذ انبلاج فجره، وأكد على الإتقان فيه، فمن واجب كل مسلم ومسلمة العمل أولاً والعمل ثانيًا والعمل ثالثًا مع التركيز على الامتياز فيه والحرص على جودته وإتقانه وذلك من أجل حصول النماء والرخاء والرقي، فبالعمل والعلم نستطيع الانطلاق إلى مرحلة من البناء والتقدم، ونضمن استقلالنا ونعرب عن مكانتنا وتميزنا ونسهم في الحضارة المعاصرة حضارة القيم والعلم والتكنولوجيا.
فالهجرة التي نحتفل بها ليست تحولاً مكانيًّا وإنما هي تحول من نوع خاص يكون المسلم فيه أمضى عزيمة وأعظم ثباتًا في إصلاح الذات وتحقيق نشر الهدى في كون الله؛ إذ هي هجرة من أجل المبدأ والدين وإصلاح الذات والارتقاء بالمجتمع والسير به ي نحو الإيجابية للمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية على أساس القيم والفضائل.
التعليقات