استخلاف الإمام.. ضوابط وأحكام
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه: وبعد:
فقد جاءت الشريعة الإسلامية رحمة بالناس، تراعي ضعفهم البشري، وتقدّر ما قد يعرض للمرء من غفلة أو ذهول أو نسيان، والإنسان - أيّ إنسان- قد يعرض له نسيان أو ذهول، ويتضح جلال تشريع الله وعظمته؛ حيث وقع النسيان مع المعلم الأول والمربي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ؛ ليعلم الله هذه الأمة ويرشدها عند وقوعها في النسيان، فقد نسي النبي - صلى الله عليه وسلم-، وزاد أو أنقص من ركعات صلاته، وكانت الحكمة من ذلك النسيان هي تعليم المسلمين كيفية التصرف في حال سهوهم في صلاتهم، وحتى لا يجعلوا للشيطان طريقا لصلاتهم.
فعن أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى خَشَبَةَ الْمَسْجِدِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَال لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال لأِصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. أخرجه البخاري (الفتح 1 / 565).
ولما أقيمت الصلاة ذات يوم، وسوّى النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف، تذكر أنه غير متطهر للصلاة، هذا بعد إقامتها وقبل الدخول فيها، فأوقف أصحابه حتى تطهر، وعاد إلى الصلاة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: مَكَانَكُمْ. ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ. [صحيح البخاري 274].
فلم يستح - صلى الله عليه وسلم - عندما تذكر أمرًا يمنع صحة صلاته، وهو وجود الجنابة، بل يصرح صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى بسبب ذلك،فقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنِّي كُنْتُ جُنُبًا. [مسند أحمد 20436].
و مما لا شك فيه أنه قد يحصل لإمام من الأئمة في الصلاة أمور خارجية ليست بمحض اختياره وإرادته كأن يتذكر أنه على غير وضوء، أو أن يحدث في أثنائها مما يوجب عليه الانصراف منها للوضوء، أو يُصاب برعاف – نزيف الدم- في صلاته أو مرض في أثنائها وغيرها من الأعذار التي تطرأ على الإمام، ولذا
ولكن بعض الأئمة ، هداهم الله، قد يتذكر أثناء صلاته أنه غير متوضئ أو يُحْدِث في صلاته، وبعضهم يتذكر أنه جنب، ومع ذلك تراه يستحي أن يستخلف أحدًا من الصف ويضعه في مكانه ليكمل الصلاة، وينصرف هو ليتوضأ ثم يعود، وهذا الحياء مذموم إذ إنه يقف بين يدي ربه محدثًا، ويسيء الإمامة، ولا يؤدي الأمانة على وجهها.
إذا أحدث الإمام أو تذكر الحدث في الصلاة جاز له الاستخلاف، والقول بجواز الاستخلاف في هذه الحالة هو قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد.
قال النووي رحمه الله: " قال أصحابنا: إذا خرج الإمام عن الصلاة بحدثٍ تعمّده أو سبَقه أو نسيه أو بسبب آخر، أو بلا سبب ففي جواز الاستخلاف قولان مشهوران: الصحيح الجديد: جوازه للحديث الصحيح، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف وصلى أبو بكر بالناس فحضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أثناء الصلاة فاستأخر أبو بكر واستخلف النبي صلى الله عليه وسلم ". [المجموع للنووي (4/138)].
وقال الشيخ ابن عثيمين: "إذا ذكر الإمام في أثناء الصلاة أنه محدث وجب عليه الانصراف، ويستخلف من يكمل بهم الصلاة؛ واستدلوا بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه لما طعن وهو في الصلاة أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه، فأَتَمَّ بالناس الصلاة. رواه البخاري (3700). وكان ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم، ولم ينكر، فكان إجماعًا.
فإن لم يفعل وانصرف – أي: لم يستخلف – فللمأمومين الخيار بين أن يقدموا واحداً منهم يكمل بهم الصلاة، أو يتموها فرادى" [الشرح الممتع (4/243)].
متى يستخلف الإمام غيره ؟!
للإمام أن يستخلف غيره في الحالات الآتية:
أ- فقدان الطهارة أو تذكر فقدها:
قال النووي رحمه الله: "إذا طرأ على الإمام عذر يمنعه من إتمام صلاته أو من البقاء في الإمامة، فإن له أن يستخلف أحد المأمومين ليتم الصلاة بالجماعة خلفه، هذا هو مذهب جماهير أهل العلم". [المجموع (4/142)].
وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعلي وعلقمة وعطاء والحسن البصري والنخعي والثوري ومالك وأصحاب الرأي وأحمد، ولم يصرح بحكاية منع الاستخلاف عن أحد ". [انظر: "الموسوعة الفقهية" (3/252)].
ب- عَجْز الإمام عن إتمام الصلاة بالناس أو القيام بأحد أركان الصلاة يعتبر من الأعذار التي تجيز له أن يستخلف غيره فيتم صلاة الجماعة.
قال أبو الوليد الباجي: "وأما تأخر الإمام لعذر فلا خلاف في جواز ذلك، والأعذار على وجهين: منها: ما يوجب للإمام كونه مأموما، وذلك إذا عجز عن شيء من فروض الصلاة، فإنه يتأخر ويقدم رجلا من القوم يتم بهم الصلاة ويأتم هو به " انتهى.
ومن ذلك لو غلب البكاء على الإمام فما يعود يقدر أن يتم ركن القراءة بالفاتحة، فيستخلف أحد المأمومين حينئذ. [المنتقى شرح الموطأ (1/290)].
قال ابن قدامة : "إن عجز عن إتمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلي بهم ؛ لأنه عذر، فجاز أن يستخلف لأجله، كما لو سبقه حدث، وكذلك لو عجز في أثناء الصلاة عن ركن فإنه يستخلف من يتم بهم الصلاة " [المغني (1/944)].
أما إذا كان الإمام قد أتم قراءة الفاتحة، ثم غلبه البكاء أثناء القراءة بعد الفاتحة، فإنه حينئذ يقطع قراءته ويركع ولا شيء عليه. فعن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: ( صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى الّلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الصُّبحَ بِمَكَّةَ، فَاستَفتَحَ سُورَةَ المُؤمِنِينَ، حَتَّى جَاءَ ذِكرُ مُوسَى وَهَارُونَ، أَخَذَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سَعلَةٌ فَرَكَعَ ) رواه مسلم (455).
قال النووي : "وفي هذا الحديث جواز قطع القراءة ولا كراهة فيه إن كان القطع لعذر" [شرح مسلم (4/177)].
ولا يجوز له أن يستخلف حينئذ؛ إذ يمكنه إتمام الصلاة بالناس مقتصرا على أركانها، ولا داعي لمعاناة القراءة أثناء البكاء، فإن قراءة ما زاد على الفاتحة ليس بواجب.
كيفية الاستخلاف:
لم تأت في نصوص السنة كيفية الاستخلاف غير أنه جاء عن الأحناف والمالكية شيء من ذلك فمما قاله الأحناف في كيفية الاستخلاف:
قال صاحب البحر الرائق: السنة للإمام الذي سبقه الحدث وأراد الاستخلاف أن يفعله مُحْدَوْدِبَ الظهر واضعا يده على أنفه يوهم أنه قد رعف، لينقطع عنه كلام الناس، ولو كان الإمام قد ترك ركوعا فإنه يشير بوضع يده على ركبتيه، ولو ترك سجودا يشير بوضع يده على فمه، وإن كان قد بقي عليه ركعة واحدة أشار بأصبع واحد، وإن كان اثنتين فيشر بأصبعين وهذا إذا لم يعلم الخليفة ذلك. أما إذا علم فلا حاجة إلى ذلك ويشير لسجدة التلاوة بوضع أصبعه على الجبهة واللسان ويشير للسهو بوضع يده على صدره وقيل يحول رأسه يمينا وشمالا كذا في الظهيرية.[البحر الرائق لابن نجيم (1/391)].
والصحيح أنه كل ما يحصل به الاستخلاف يجوز للإمام فعله سواء كان بكلام أو بإشارة ونحوه لأنه من مصلحة الصلاة فيقول: تقدم يا فلان فإني قد رعفت مثلا أو حصل لي كذا، أو لا يذكر شيئًا من ذلك، ويقول: تقدم يا فلان، وإن اكتفى بالإشارة فهذا أحسن، أما قول من يقول بأنه إذا تكلم بطلت صلاتهم، فهذا غير صحيح ألا ترى أنه إذا أمّ مسافر مقيمين فقصر صلاته قال لهم أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر أو فإنا على سفر ولم تبطل صلاتهم بذلك.
نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، ويرزقنا حسن القول وحسن العمل.
التعليقات