الروابط الإنسانية في العيد
إنَّ الاحتفال بعيد أيّ عيد للجماعة من شأنه أن يوقظ الوعي بالروابط التي بين أفراد هذه الجماعة؛ إذ لا تحتفل جماعة ما بعيد من أعيادها إلَّا لذكريات تعيد لها صورة مجد أو صورة نصر وقع في الأيام التي تحتفل بها. وهذا النصر أو هذا المجد الذي وقع لها في التاريخ؛ إنما وقع بسبب ما بين الأفراد من دوافع مشتركة نحو تحقيق هدف معين.
وإذًا.. الأحداث في تاريخ الجماعة التي من شأنها أن تذكر بصور أمجادها وانتصاراتها؛ تمثل أسباب قيام الجماعة، كما تصور مثلها الرفيعة التي تسعى إلى تحقيقها.
وعلى سبيل المثال في جماعتنا الإسلامية: نرى العيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى. يصوران مجدًا ونصرًا، تم لأول مرة في اليوم الذي يحتفل به كل عام. وهو اليوم الأول من شوال في عيد الفطر، واليوم العاشر من ذي الحجة في عيد الأضحى.
فاليوم الأول يمثل النصر بإتمام صوم رمضان، بينما اليوم الثاني يصور نصر الأداء لفريضة الحج. وكل من رمضان، والوقوف بعرفات له شأن يذكر في تاريخ الجماعة الإسلامية، ومنزلة بين الفرائض التي فرضت في تعاليم الإسلام.
ففضلًا عن أن رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، أساس الهداية للمسلمين، ومصدر الروابط المشتركة بين أفراد الجماعة الإسلامية، وموضع تحقيق مثلها وأهدافها؛ فإنه نفسه يعبر بصومه عن انتصار الإرادة الإنسانية على الشهوة والرغبات التي من شأنها أن تبعد الإنسان عن أن يكون صاحب سيادة على نفسه، وعن أن يكون مسهمًا في سيادة مجتمعه.
والوقوف بعرفات؛ فضلًا عن أنه يصور انتصار المسلمين في اجتماعهم من جميع مشارق الأرض ومغاربها في مكان واحد، وفي لحظة واحدة من اليوم الواحد؛ فإنه نفسه يعبر عن روح المساواة بين المسلمين جميعًا؛ سواء في وقوفهم أمام الله مجيبين دعوته ومطيعين أمره بقولهم: (لبيك اللهم لبيك)، أو في تجردهم من مظاهر الدنيا بحيث لا يعرف فقيرهم من غنيهم، ولا يعرف وضيعهم من سيدهم، ولا يعرف مشرقيهم من مغربيهم؛ إلا باللسان واللهجة.
وما تم إذن في اليوم الأول من شوال من إتمام شهر الصيام، وفي اليوم العاشر من ذي الحجة من إتمام الوقوف بعرفة، من شأنه أن يعيد للمسلمين صورة ذلك النصر المؤزر، وهو نصر الإرادة الإنسانية والتلاقي بين أفراد الجماعة الواحدة على الإيمان وحب الله والمساواة.
وكما أن عيدي الفطر والأضحى يصوران هذا النصر للمسلمين؛ فإن هذا النصر نفسه لم يكن نصرًا للجماعة إلا بعد أن قامت روابط هذه الجماعة على أساس من الإيمان بالإسلام، وتحقيق أهدافه ومثله العليا.
وإذًا.. هما عيدان يذكران المسلمين بتلك الروابط التي قام عليها مجتمعهم، كما يذكرانهم بتلك الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها. وهي روابط لا تتصل بالدم ولا بعلاقة النسب؛ وإنما تتصل بالمثل الفاضلة، وهي تلك المثل التي تصور مستوى الإنسانية الرفيع. ومن هنا كان الاحتفال بأي عيد منهما هو تذكير بتلك الروابط الإنسانية التي جمعت بين المسلمين في الأساس والغاية.
ولأن وضع العيد في الجماعة هو هذا الوضع، وهو وضع الموقظ لذكريات تتصل بالعلاقات الإنسانية بين أفرادها، يطلب في الاحتفال به الإعلان عنه، تعريفًا به، وتذكيرًا قويًّا لآثاره.
وهنا.. كان من السُّنة في احتفال العيدين -الفطر، والأضحى- في الإسلام، جملة مظاهر تعبر عن هذا الإعلان:
أولًا: أن تكون القراءة في صلاته قراءة جهرية، وأن يكون اجتماع المسلمين لصلاة العيد في مكان خلوي، وأن يكون تكبيرهم في ذهابهم إلى مكان الصلاة بصوت مسموع. هذا بجانب ما يطلب من المسلمين من لبس الجديد، ودفع كل ما يؤذي حاسة الشم أو حاسة البصر. على أنه يستحب أيضًا -كطريق لهذا الإعلان- أن يكون الذهاب إلى مكان الاجتماع من طريق، والرجوع من طريق آخر، فيروي البخاري: أنَّ النبي صلى الله عليهوسلم كان إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره.
وهذه الصور لإعلان الاحتفال بالعيد، بدورها ما هي إلا تعبير عن ذلك الشعور الداخلي بالفرح والسرور. وهو الفرح برباط الإخوة المشتركة، والسرور بالتقاء الأفراد على المثل التي جمعت ووحدت بينهم. ولأن النفس –عادة- إذا تمكن منها داعي الفرح والسرور تخرج عن جديتها في الحياة؛ لذلك نرى الإسلام يبيح ممارسة اللهو غير الضار وغير المفسد في هذا اليوم، فيروي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قدم النبي المدينة، ولهم يَوْمَانِ يلعبون فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ».
إن الاحتفال بيوم العيد إذا أيقظ الروابط المشتركة بين أفراد الجماعة التي تحتفل به؛ فإن في مقدمة هذه الروابط الوحدة في القيم والمبادئ. ووحدة القيم والمبادئ كما تشجع على قوة الترابط بين الأفراد، تحمل هؤلاء الأفراد على أن يستمروا في سبيل هذه الوحدة الخالدة؛ لأنهم سيذكرون في الاحتفال بالعيد أنهم انتصروا من أجل تلك القيم والمبادئ، وبسبب تمسكهم بها. وهنا أبرز شيء نستلهمه من ذكرى العيد والاحتفال به هو هذه الوحدة في القيم والأخوة في الترابط. وعن هذه الوحدة في القيم والأخوة في الترابط تنشأ الصلات الأخرى من عطف القوي على الضعيف، وتودد الجار لجاره، ومواساته له في الضراء، ومشاركته له في فرحه، ورعاية ذوي القربى واليتامى والمساكين، والمحافظة على الحرمات، من نفس ومال وعرض.
اليوم نحتفل بعيد الأضحى، فلنذكر وحدة القيم والمبادئ بيننا، وليقو بعضنا صلته بالبعض الآخر، بما يحفظ عليه حياته وكرامته؛ حتى يشعر كل فرد منا بأنه صاحب العيد في الفرح به والإعلان عنه.
التعليقات