حكم التبرع بالدم في المسجد

اختلف الفقهاء في إخراج الدم في المسجد، بالحجامة أو الفصد وما في معناهما، فذهب الجمهور إلى تحريمه، وهو مذهب المالكية والحنابلة وصرح به بعض الحنفية.
وذهب الشافعية إلى جواز ذلك مع الكراهة، إذا أمن تلويث المسجد.
ووجه التحريم: أن الدم نجس، فإخراجه في المسجد تنجيس لهوائه، فيحرم، ولأن المساجد لم تبن لهذا، ويجب صيانتها عن النجاسة.
ومن قال بالكراهة نظر إلى أن الدم يعفى عنه في محله.
قال في الدر المختار: " (و) كره تحريما ... (وإدخال نجاسة فيه).
وعليه: (فلا يجوز الاستصباح بدهن نجس فيه،) ولا تطيينه بنجس، (ولا البول) والفصد (فيه، ولو في إناء)" انتهى.
قال ابن عابدين في حاشيته عليه (1/656): " (قوله والفصد) ذكره في الأشباه بحثا، فقال: وأما الفصد فيه، في إناء: فلم أره، وينبغي أن لا فرق اهـ. أي لا فرق بينه وبين البول" انتهى.
وقال الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 276): " وتحرم حجامته وفِصادته فيه، كما لا يبول ولا يتغوط فيه، فإن اضطر للفصد والحجامة خرج، فإن فعلهما في المسجد: فمن أبطل اعتكافه بكل منهي عنه أبطله بهذا، ومن راعى كون الذنب كبيرة فلا، قاله سند" انتهى.
وقال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (2/ 370): "(و) يحرم فيه (فصد وحجامة وقيء ونحوه) كبط سَلعة، ولو في إناء؛ لأن المسجد لم يُبن لهذا، فوجب صونه عنه.
والفرق بينه وبين المستحاضة: أنها لا يمكنها التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد ونحوه.
(وإن دعت إليه حاجة كبيرة خرج المعتكف من المسجد ففعله) كسائر ما لا بد له منه، ثم عاد إلى معتكفه.
(وإن استغنى عنه لم يكن له الخروج إليه كالمرض الذي يمكن احتماله) كالصداع ووجع الضرس والحمى اليسيرة، فلا يخرج من معتكفه لذلك وتقدم.
(وكذا حكم نجاسة في هوائه) أي: المسجد (كالقتل على نطع ودم ونحوه) كقيح وصديد (في إناء) فيحرم لتبعية الهواء للقرار." انتهى.
وفي بيان مذهب الشافعية، قال الخطيب الشربيني رحمه الله في "مغني المحتاج" (2/ 193): " ويجوز الاحتجام والفصد فيه في إناء، مع الكراهة، كما جزم بها في المجموع، إذا أمن تلويث المسجد. وكالحجامة والفصد: ما في معناهما، كما بحثه شيخنا، وسائر الدماء الخارجة من الآدمي للحاجة.
أما ما ليس في معناهما: فإنه يحرم، فقد نقل المصنف في مجموعه تحريم إدخال النجاسة المسجد، لما فيه من شغل هوائه بها، مع زيادة القبح.
ومحله: إذا لم تكن حاجة، بدليل جواز إدخال النعل المتنجسة فيه، إذا أمن التلويث، فإن لوث الخارج بما ذكر المسجد، أو بال أو تغوط فيه، ولو في إناء: حرم.
والفرق بين ما تقدم، وبين البول والغائط: أن الدماء أخف منهما؛ لما مر أنه يعفى عنها في محلها، وإن كثرت، إذا لم تكن بفعله. ولأنهما أقبح منها، ولهذا لا يمنع من نحو الفصد متوجها للقبلة بخلافهما" انتهى.
التبرع بالدم قد يفارق الحجامة من جهة أن الدم يسحب إلى أنبوب، فلا يلوث الدم هواء المسجد، فضلا عن تلويث أرضه، لكن وجود الدم في الأنبوب مناف لحرمة المسجد.
ولهذا منعوا دخول المسجد بقارورة فيها بول.
سئل الرملي رحمه الله: " عن طبيب يجلس في المسجد، وتأتيه الناس بقوارير البول ليشخص أمراضهم، وينظر الواحدَ بعد الواحد؛ هل يجوز له هذا الفعل، كما أفتى به بعض أهل العلم، قياسا على الفصد والحجامة في المسجد في طست، وإدخال القارورة في المسجد ليس بإدخال للنجاسة، بل إدخال لما فيه النجاسة؛ لأنه مأمون من التلويث أم لا ؟
( فأجاب ) بأنه يحرم إدخال البول المسجد في قارورة أو نحوها وإن أمن تلويثه؛ تعظيما لحرمته مع عدم الحاجة إلى الإدخال المذكور لما فيه من شغل هواء المسجد بها مع زيادة القبح، وقياسه على الفصد والحجامة فيه في إناء فاسد؛ لعدم اجتماع شروطه. والفرق بينهما من وجوه: منها أن الدم أخف من البول بدليل العفو عنه، كما قرروه، في محله، وجواز إخراجه مستقبل القبلة، بخلاف البول فيهما" انتهى من "فتاوى الرملي" (1/ 105).
وما جاء في كلام الشافعية من إباحة الحجامة وما في معناها، وتقييد ذلك بالحاجة، أي حاجة صاحب الدم، وتحريمهم ما عدا ذلك مما لا حاجة فيها لمُخرج الدم: يؤخذ منه تحريم التبرع بالدم في المسجد إن كان الدم سيظهر، ويلوث هواء المسجد؛ لأن الحاجة هنا لغير مخرج الدم.
والذي يظهر أن القول بكراهة الحجامة والفصد، عند أمن التلويث أرجح من القول بالتحريم؛ لأن عرضه في هواء المسجد ليس موجبا للتحريم؛ لما روى البخاري (2037) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الحُمْرَةَ، وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي.
والذي يظهر أيضا: أن التبرع بالدم في المسجد مكروه ، وإن أمن تلويث المسجد، إلا للحاجة ، لأن المساجد لم تبن لهذا ، ولاحتمال أن يلوث الدم المسجد، وأن لا يتوسع الناس في ذلك ومثله لغير حاجة، فيؤدي إلى ابتذال المسجد، وامتهان حرمته.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.