الإمام يلحن في الفاتحة، فكيف يتصرف المأموم؟

إن كان هذا الخطأ مما لا يحيل المعنى، فهو خطأ مغتفر.
وإن كان الخطأ في الفاتحة مما يحيل المعنى، أو أسقط بعض الكلمات أو الحروف، فالصلاة غير صحيحة على مذهب جماهير أهل العلم.
قال النووي رحمه الله: " وتكره إمامة من يلحن في القراءة. ثم ينظر :
إن كان لحنا لا يغير المعنى ، كرفع الهاء من الحمد لله ، صحت صلاته وصلاة من اقتدى به.
وإن كان يغير ، كضم تاء (أنعمت عليهم) أو كسرها: تبطله ، كقوله : الصراط المستقين (بالنون) .
فإن كان يطاوعه لسانه، ويمكنه التعلم: لزمه ذلك.
فإن قصَّر، وضاق الوقت: صلى، وقضى. ولا يجوز الاقتداء به.
وإن لم يطاوعه لسانه ، أو لم يَمْض ما يمكن التعلم فيه: فإن كان في الفاتحة فصلاةُ مثلِه خلفَه: صحيحة. وصلاة صحيحِ اللسان خلفَه: صلاة قارئ خلف أمي. [ يعني أنها لا تصح ].
وإن كان في غير الفاتحة: صحت صلاته، وصلاة من خلفه " انتهى من "روضة الطالبين" (1/350).
وقال ابن قدامة رحمه الله:
"وإن أمّ أميٌّ أميًّا وقارئًا: أعاد القارئ وحده.
والأميُّ: من لا يحسن الفاتحة، أو بعضها ، أو يُخل بحرف منها، وإن كان يحسن غيرها. فلا يجوز لمن يُحسنها أن يأتم به ، ويصح لمثله أن يأتم به .. "
ثم قال: " ومن ترك حرفا من حروف الفاتحة لعجزه عنه، أو أبدله بغيره، كالألثغ الذي يجعل الراء غينا، والأرت الذي يدغم حرفا في حرف، أو يلحن لحنا يحيل المعنى، كالذي يكسر الكاف من إياك، أو يضم التاء من أنعمت، ولا يقدر على إصلاحه، فهو كالأمي، لا يصح أن يأتم به قارئ.
ويجوز لكل واحد منهم أن يؤم مثله؛ لأنهما أميان، فجاز لأحدهما الائتمام بالآخر، كاللذين لا يحسنان شيئا.
وإن كان يقدر على إصلاح شيء من ذلك فلم يفعل، لم تصح صلاته، ولا صلاة من يأتم به".
وقال أيضا: " تكره إمامة اللحان، الذي لا يحيل المعنى. نص عليه أحمد . وتصح صلاته بمن لا يلحن ; لأنه أتى بفرض القراءة.
فإن أحال المعنى في غير الفاتحة ، لم يمنع صحة الصلاة ، ولا الائتمام به ، إلا أن يتعمده ، فتبطل صلاتهما ...
وأما إن كان لا يغيِّر بخطئه معنى الآيات: فيجوز الصلاة وراءه، مع وجوب تعلمه للقراءة.
وأما إن كان خطؤه في غير الفاتحة: فهو منقص من الصلاة، وليس مبطلا لها، والصلاة خلف المتقن للقراءة أولى منه ولا شك.
ولا يجوز لولاة الأمر تولية مثل هؤلاء الجهلة الصلاة بالناس ، وإلا كانوا شركاء معهم بالإثم ." انظر: المغني (3/29-32) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان يمكنه التعلم، وإصلاح الخطأ: فلا تصح الصلاة خلفه.
وإن كان ممن يعجز عن ذلك، لعدم استقامة لسانه على بعض الحروف، ونحوه: فإن صلاته صحيحة، ويصح الائتمام به. وهو قول متأخري الأحناف، وقول عند المالكية واختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
قال ابن عابدين رحمه الله:
"الأصل فيما إذا ذكر حرفا مكان حرف، وغيَّر المعنى: إن أمكن الفصل بينهما بلا مشقة: تفسد.
وإلا يمكن إلا بمشقة، كالظاء مع الضاد المعجمتين، والصاد مع السين المهملتين، والطاء مع التاء: قال أكثرهم لا تفسد. اهـ.
وفي خزانة الأكمل: قال القاضي أبو عاصم: إن تعمد ذلك تفسد، وإن جرى على لسانه، أو لا يعرف التمييز لا تفسد. وهو المختار. وفي البزازية: وهو أعدل الأقاويل، وهو المختار اهـ وفي التتارخانية عن الحاوي: حكى عن الصفار أنه كان يقول: الخطأ إذا دخل في الحروف: لا يفسد؛ لأن فيه بلوى عامة الناس، لأنهم لا يقيمون الحروف إلا بمشقة. اهـ. وفيها: إذا لم يكن بين الحرفين اتحاد المخرج، ولا قربه، إلا أن فيه بلوى العامة، كالذال مكان الصاد أو الزاي المحض مكان الذال، والظاء مكان الضاد: لا تفسد عند بعض المشايخ. اهـ.
قلت-ابن عابدين-: فينبغي على هذا عدم الفساد في إبدال الثاء سينا، والقاف همزة، كما هو لغة عوام زماننا، فإنهم لا يميزون بينهما، ويصعب عليهم جدا، كالذال مع الزاي. ولا سيما على قول القاضي أبي عاصم وقول الصفار.
وهذا كله قول المتأخرين. وقد علمتَ أنه أوسع، وأن قول المتقدمين أحوط. قال في شرح المنية: وهو الذي صححه المحققون وفرعوا عليه.
فاعمل بما تختار، والاحتياط أولى؛ سيما في أمر الصلاة التي هي أول ما يحاسب العبد عليها" انتهى من حاشية ابن عابدين = رد المحتار ط الحلبي (1/ 633).
وقال الحطاب المالكي رحمه الله:
"وقد اختُلف في الذي يحسن القرآن، أي يحفظ، ولا يحسن قراءته، ويلحنه، على أربعة أقوال:
أحدها: أن الصلاة خلفه لا تجوز، وإن لم يلحن في أم القرآن، إذا كان يلحن في سواها. قاله بعض المتأخرين تأويلا على ما لابن القاسم في المدونة، في الذي لا يحسن القرآن؛ لأنه حمله على الذي لا يحسن القراءة، وقال: إنه لم يفرق فيها بين أم القرآن وغيرها، وهو بعيد في التأويل، غير صحيح في النظر.
والثاني: أن الصلاة خلفه جائزة، إذا كان لا يلحن في أم القرآن، ولا تجوز إذا كان يلحن في أم القرآن.
والثالث: أن الصلاة خلفه غير جائزة إذا كان لحنه يتغير منه المعنى، مثل أن يقول: إياك بكسر الكاف، وأنعمت برفع التاء، وما أشبه ذلك، ويجوز إذا كان لحنه لا يتغير منه المعنى، مثل أن يقول: الحمد لله بكسر الدال من " الحمد " ورفع الهاء من " لله "، وما أشبه ذلك، وهذا قول ابن القصار وعبد الوهاب.
والرابع: أن الصلاة خلفه مكروهة، فإن وقعت لم تجب إعادتها، وهو الصحيح من الأقوال؛ لأن القارئ لا يقصد ما يقتضيه اللحن، بل يعتقد بقراءته، ما يعتقد بها من لا يلحن فيها. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. ومن الحجة في ذلك ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «دخل المسجد فمر بالموالي، وهم يقرءون ويلحنون، فقال: نعم ما يقرءون. ومر بالعرب، وهم يقرءون، ولا يلحنون، فقال هكذا أنزل". انتهى من "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 100).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"إذا صلى أمي لا يعرف الفاتحة، بأمي مثله: فصلاته صحيحة، لمساواته له في النقص.
ولو صلى أمي بقارئ: فإنه لا يصح. وهذا هو المذهب. وتعليل ذلك: أن المأموم أعلى حالا من الإمام، فكيف يأتم الأعلى بالأدنى.
والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أنه يصح أن يكون الأمي إماما للقارئ، لكن ينبغي أن نتجنبها؛ لأن فيها شيئا من المخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، ومراعاةً للخلاف.
" وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته "أي: إن قدر الأمي على إصلاح اللحن الذي يحيل المعنى، ولم يصلحه: فإن صلاته لا تصح.
وإن لم يقدر: فصلاته صحيحة، دون إمامته إلا بمثله.
ولكن الصحيح: أنها تصح إمامته في هذه الحال؛ لأنه معذور، لعجزه عن إقامة الفاتحة. وقد قال الله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ويوجد في بعض البادية من لا يستطيع أن ينطق بالفاتحة على وجه صحيح، فربما تسمعه يقرأ أهدنا ولا يمكن أن يقرأ إلا ما كان قد اعتاده، والعاجز عن إصلاح اللحن: صلاته صحيحة. وأما من كان قادرًا، فصلاته غير صحيحة، كما قال المؤلف، إذا كان يحيل المعنى" انتهى من " الشرح الممتع" (4/248).
والظاهر أنّ قول الشيخ ابن عثيمين محمول على ما إذا لم يوجد من هو أقرأ منه، أو قد دخل معه المرء في صلاته دون علمه بحاله.
أما الدخول معه ابتداء -ولو كان إماما راتباً-مع إمكانية الصلاة مع غيره فلا تصح.
وهذا ما يفهم من قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" إذا كان لحنه يحيل المعنى، في الفاتحة أو غيرها: فلا تجوز الصلاة خلفه ، ولكن يجب على أهل المسجد أن يرفعوا الأمر إلى المسؤولين عن المساجد بأن يتعدل هذا الإمام أو يبدل. أما كونه إماما للمسلمين، في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وهو لا يحسن ما يجب من القراءة : فلا يجوز أن يكون إماما ، ومن نصبه إماما فهو آثم ، آثم في حق الله ؛ لأنه ولى من ليس أهلا ، وآثم في حق المصلين ؛ لأنه إما أن يوقعهم في حرج في الصلاة خلفه ، أو يحوجهم إلى أن يطلبوا مسجدا آخر أبعد منه، ويكون ذلك شاقا عليهم " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (15/182).
أما صلاة المأمومين في حال ظهر أن الإمام يلحن في الفاتحة لحنا جلياً.
فعلى القول بصحة الصلاة خلف صاحب اللحن الجلي في الفاتحة - وهو قول عند الأحناف، وقول للمالكية، وقول الشيخ ابن عثيمين- كما بيناه سلفاً، فصلاتهم صحيحة، وعليهم في المستقبل تجنب الصلاة خلفه، لاتفاق الجميع على الكراهة، ولاشتراط بعضهم أن لا يكون عالما بالحال قبل الشروع معه.
وأما على قول الجمهور ببطلان الصلاة، فإن المأمومين بالخيار:
1-إن أمكنهم أن يقدموا شخصا آخر يستأنف بهم الصلاة، فيصلي بهم الجمعة ركعتين، من غير إحداث فتنة فهو المطلوب، ولا يلزم أن يكون إمام الجمعة هو الذي خطب. وتصح صلاتهم بذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله:
"وإن خطب رجل، وصلى آخر لعذر: جاز. نص عليه أحمد" انتهى من "المغني" (3/ 177).
2-إن لم يمكن الخيار الأول، فعلى من أدرك خطأ الإمام الجلي المبطل للصلاة: أن ينوي المفارقة، ويتمها ظهراً، وإن خشي فتنة أتمها بنية الانفراد ركعتين نفلا، ثم أعادها ظهرا بعد ذلك.
التعليقات