هل يشرع تسبيح المأمومين خلف الإمام إذا قرأ (سبح اسم ربك الأعلى)؟
يشرع لمن قرأ قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الأعلى/ 1 أن يقول: سبحان ربي الأعلى.
واختلفوا هل يشرع ذلك في النافلة والفريضة؟ أم في النافلة دون الفريضة؟ وهل ذلك للمنفرد؟ أم للإمام والمأموم والمنفرد؟
وقد جاءت الآثار بمشروعية قول سبحان ربي الأعلى عند قراءة سبح اسم ربك الأعلى.
فعن ابن عباس: “أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ كانَ إذا قرأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قالَ: (سبحانَ ربِّيَ الأعلى)” رواه أبو داود (883)، وصححه الالباني.
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: “صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذ” رواه مسلم (772).
وقد نقل الطبري بسنده آثارا عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يقولون عند قراءة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى/ 1: سبحان ربي الأعلى. قال:
“والأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك – {سبح اسم ربك الأعلى} – قالوا: سبحان ربي الأعلى”.
“حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن عبد خير، قال: سمعت عليا، رضي الله عنه قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى”
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، أن ابن عباس، كان إذا قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى} يقول: سبحان ربي الأعلى”.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، ” {سبح اسم ربك الأعلى} ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى” انتهى بتصرف يسير من “تفسير الطبري” (24/ 309-311).
وقال القرطبي رحمه الله:
“يستحب للقارئ إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى أن يقول عقبه: سبحان ربي الأعلى، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين… وروي عن علي رضي الله عنه، وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم: أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: سبحان ربي الأعلى، امتثالا لأمره في ابتدائها.
فنختار الاقتداء بهم في قراءتهم؛ لا أنّ سبحان ربي الأعلى من القرآن“.
وقرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة سبح اسم ربك الأعلى، ثم قال: سبحان ربي الأعلى، فلما انقضت الصلاة قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى. قال: لا، إنما أمرنا بشيء، فقلته” انتهى باختصار من “تفسير القرطبي” (20/13-14).
وذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية واستحباب أن يسبح القارئ في مواطن التسبيح، ويستعيذ في مواطن الاستعاذة ويطلب الرحمة في مواطن الرحمة. وسواء كان ذلك في النفل أو الفرض. وسواء في ذلك أيضا: الإمام والمأموم والمنفرد.
قال النووي رحمه الله:
“قال الشافعي واصحابنا يسن للقارئ، في الصلاة وخارجها: إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة، أو بآية عذاب: أن يستعيذ به من العذاب، أو بآية تسبيح :أن يسبح، أو بآية مَثَلٍ: أن يتدبر.
قال أصحابنا: ويُستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد.
وإذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
وإذا قرأ (فبأي حديث بعده يؤمنون)، قال: آمنا بالله.
وكل هذا يستحب لكل قارئ، في صلاته أو غيرها. وسواء صلاة الفرض والنفل، والمأموم والإمام والمنفرد؛ لأنه دعاء، فاستووا فيه؛ كالتأمين.
ودليل هذه المسألة: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: “صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائدة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها يقرأ مترسلا، إذا مضى بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآية سؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ” رواه مسلم بهذا اللفظ” انتهى من “المجموع شرح المهذب” (4/ 66).
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: “فيه استحباب الترسل والتسبيح عند المرور بآية فيها تسبيح، والسؤال عند قراءة آية فيها سؤال، والتعوذ عند تلاوة آية فيها تعوذ.
والظاهر استحباب هذه الأمور لكل قارئ، من غير فرق بين المصلي وغيره، وبين الإمام والمنفرد والمأموم” انتهى من “نيل الأوطار” (2/ 266).
ومذهب الحنابلة: أن استحباب ذلك: إنما هو في النافلة، دون الفريضة. وأما الفريضة: فهو مشروع (=جائز)؛ وإن لم يكن مستحبا؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في الفريضة؛ مع حرص الصحابة على ضبط أفعاله وأقواله فيها، ونقلها.
وقال ابن قدامة رحمه الله
“ويستحب للمصلى نافلة إذا مرت به آية رحمة أن يسألها، أو آية عذاب أن يستعيذ منها؛ لما روى حذيفة، أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان يقول في ركوعه: “سبحان ربى العظيم، وفى سجوده: سبحان ربى الأعلى”، وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها وسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوذ” رواه أبو داود…
ولا يستحب ذلك في الفريضة؛ لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فريضة، مع كثرة من وصف قراءته فيها” انتهى من “المغني” (2/ 239).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في حكم المسألة:
“والراجح في حكم هذه المسألة أن نقول: أما في النفل ـ ولا سيما في صلاة الليل ـ فإنه يسن له أن يتعوذ عند آية الوعيد، ويسأل عند آية الرحمة؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك أحضر للقلب وأبلغ في التدبر، وصلاة الليل يسن فيها التطويل، وكثرة القراءة والركوع والسجود، وما أشبه ذلك.
وأما في صلاة الفرض فليس بسنة وإن كان جائزا.
فإن قال قائل: ما دليلك على هذا التفريق، وأنت تقول: إن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض، فليكن سنة في الفرض كما هو في النفل.
فالجواب: الدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كل يوم وليلة ثلاث صلوات، كلها جهر فيها بالقراءة، ويقرأ آيات فيها وعيد وآيات فيها رحمة، ولم ينقل الصحابة الذين نقلوا صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك في الفرض، ولو كان سنة لفعله ولو فعله لنقل، فلما لم ينقل علمنا أنه لم يفعله، ولما لم يفعله علمنا أنه ليس بسنة، والصحابة رضي الله عنهم حريصون على تتبع حركات النبي صلى الله عليه وسلم وسكناته حتى إنهم كانوا يستدلون على قراءته في السرية باضطراب لحيته، ولما سكت بين التكبير والقراءة سأله أبو هريرة ماذا يقول؟ ولو كان يسكت عند آية الوعيد من أجل أن يتعوذ، أو آية الرحمة من أجل أن يسأل لنقلوا ذلك بلا شك”.
ثم قال:
“فإذا قال قائل: إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لا تمنعونه في صلاة الفرض كما منعه بعض أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»؟
فالجواب على هذه أن نقول: ترك النبي صلى الله عليه وسلم له لا يدل على تحريمه؛ لأنه أعطانا عليه الصلاة والسلام قاعدة: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». والدعاء ليس من كلام الناس، فلا يبطل الصلاة، فيكون الأصل فيه الجواز.
لكننا لا نندب الإنسان أن يفعل ذلك في صلاة الفريضة، لما تقدم تقريره” انتهى من “الشرح الممتع على زاد المستقنع” (3/ 289).
وعليه؛ فإنّ قول المأمومين في صلاة الجمعة سبحان ربي الأعلى عند قراءة الإمام (سبح اسم ربك الأعلى) مسنون عند الشافعية، وجائز عند الحنابلة والمالكية.
ولكن لا يشرع رفع أصواتهم بها مطلقاً كما قال الإمام مالك (وإِنْ سَمِعَ مأمومٌ ذِكْرَه عليه السلامُ فصَلَّى عليه أو ذَكَرَ الجنةَ فسَأَلَها، أو النارَ فاستعاذَ مِنْهَا فلا بَأْسَ، ويُخْفِيه)، و “قيل لأحمد، رحمه الله: إذا قرأ: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (46) هل يقول: “سبحان ربى الأعلى”. قال: إن شاء قاله فيما بينه وبين نفسه، ولا يجهر به في المكتوبة وغيرها” “المغني” لابن قدامة (2/ 458).
ثالثا:
لم يرد برفع الصوت خلف الإمام بغير التأمين بعد الفاتحة أثر ولا عمل، فيتم تنبيه من يرفعون أصواتهم بها، وفي رفع الصوت بذلك من التشويش على الإمام، وعلى المصلين معه ما ينبغي أن ينهى عنه.
قال الدميري المالكي:
“قال مالكٌ: وإِنْ سَمِعَ مأمومٌ ذِكْرَه عليه السلامُ، فصَلَّى عليه، أو ذَكَرَ الجنةَ، فسَأَلَها، أو النارَ، فاستعاذَ مِنْهَا فلا بَأْسَ، ويُخْفِيه، ولا يُكْثِرُ منه كسامِعِ خُطْبَةٍ” انتهى من “الشامل في فقه الإمام مالك” (1/ 116).
ولكن ينبغي أن يكون تعليم السنة والأدب في ذلك، والنهي عن التشويش واللغط ؛ بحيث لا يحدث من جرائه خصومة أو نزاع، أو يسبب لغطا وتشويشا أكثر من الأول؛ وهذا هو الواجب في أمور الخلاف والنزاع بين المسلمين كلها.
التعليقات