الحكمة من انفراد شهر رجب عن الأشهر الحرم
قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة/36].
والأشهر الحرم: رجب مضر، وثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: "تفسير الطبري" (11/ 440).
روى "البخاري" (4406)، ومسلم : (1679) ، عن أبي بكرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم : ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان .
قال الواحدي في "البسيط" (10/ 409): " ومعنى الحرم: أنه يعظم انتهاك المحارم فيها، بأشد مما يعظم في غيرها، وكانت العرب تعظمها، حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه: لم يُهِجْه.
قال أهل المعاني: وفي جعل بعض المشهور أعظم حرمة من بعض فوائد؛ من المصلحة في الكف عن الظلم فيها، لعظم منزلتها في حكم خالقها، فربما أدى ذلك إلى ترك الظلم رأسًا؛ لانطفاء الثائرة في تلك المدة"، انتهى.
أما تمييز هذه الشهور عن غيرها فأمر لم يخبرنا الله عنه، وهو كغيره من الأمور التي أمرنا الله بها، فعلينا أن نأتي بها على الوجه الذي أمر الله به، وإن لم ندرك الحكمة من وراء الأمر به، وعلينا أن نعلم أن الله سبحانه حكيم فيما يأمر به، وينهى عنه، ولا يمنعنا من البحث عن وجه قد يكون هو الحكمة.
وقد ذكر بعض العلماء أن الحكمة من انفراد رجب عن الأشهر الحرم: تمكن العرب من أداء العمرة في منتصف السنة، وأن الأشهر المتواليات لأجل الحج.
قال ابن كثير، رحمه الله: " وقوله تعالى: منها أربعة حرم: فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تُحَرِّمه، وهو الذي كان عليه جمهورهم، إلا طائفة منهم يقال لهم: "البسل"، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر، تعمقًا وتشديدًا.
وأما قوله: "ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، فإنما أضافه إلى مضر، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما كانت تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم؛ فبين، عليه الصلاة والسلام، أنه رجب مُضر لا رجب ربيعة.
وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد، وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحُرِّم قبل شهر الحج شهرٌ، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة، لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحُرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين.
وحُرِّم رجبٌ في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.
وقوله تعالى: ذلك الدين القيم أي: هذا هو الشرع المستقيم، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحذو بها على ما سبق في كتاب الله الأول.
وقال تعالى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف. "، انتهى من "التفسير" (4/ 148).
وقال "الرازي" في "التفسير" (16/ 41):
" فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السبب في هذا التمييز؟
قلنا: إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة؛ ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم، وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها، وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر، وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خِلْعة الرسالة.
وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة؛ فأيُّ استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة.
ثم نقول: لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفس، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خُبث النفس، وهذا غير مستبعد عند الحكماء، ألا ترى أن فيهم من صنف كتبا في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك.
... وفيه فائدة أخرى: وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم، فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام، حتى إن الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة، من القبائح والمنكرات، وذلك يوجب أنواعًا من الفضائل والفوائد:
أحدها: أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب، لأنه يُقِل القبائح.
وثانيها: أنه لما تركها في تلك الأوقات، فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سببا لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا.
وثالثها: أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات، وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات، لو شرع في القبائح والمعاصي: صار شروعه فيها سببا لبطلان ما تحمَّله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات، والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك، فيصير ذلك سببا لاجتنابه عن المعاصي بالكلية.
فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام. "، انتهى.
وذكر بعض العلماء أن هذا من الأمور الكونية التي لا يُسأل فيها عن وجه الحكمة، وإن كانت لها فوائد.
وقال الطاهر: " واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع، يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له، بما يقارنه من الفضائل الواقعة فيه، أو المقارنة له.
فتفضيل الأوقات والبقاع إنما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه، أو باطلاع على مراده، لأن الله إذا فضلها، جعلها مظان لتطلُّب رضاه، مثل كونها مظان إجابة الدعوات، أو مضاعفة الحسنات، كما قال تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) [القدر: 3]، أي: من عبادة ألف شهر لمن قبلنا من الأمم، وقال النبيء صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضِّل زمنٌ على زمن، وفضل مكانٌ على مكان.
والأمور المجعولة من الله تعالى: هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدرها، فأشبهت الأمور الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديس السبت بالجمعة.
وليس للناس أن يجعلوا تفضيلا في أوقات دينية: لأن الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلا إذا أريدت بها مقاصد صالحة؛ فليس للناس أن يغيروا ما جعله الله تعالى من الفضل، لأزمنة، أو أمكنة، أو ناس. "، انتهى من "التحرير والتنوير" (10/ 184).
التعليقات