حادثة وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم (وقفة تأملية)
إن المتأمل في شريط السيرة النبوية يجدها ملأى بأحداثٍ ووقائع توقظ في النفس شعور الحنين لرؤيته صلى الله عليه وسلم، والإحساس بالغِبْطةِ تجاه الصحابة الذين جالسوه، واغترفوا من علمه، واستضاؤوا بنور هديه.
ومن المشاهد التي استوقفتني خلال تجوالي في رحاب سيرته صلى الله عليه وسلم: تعدُّدُ المواقف التي سالت فيها دموعه الشريفة.
فقد بكى صلى الله عليه وسلم خوفًا وخشيةً من الله، كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبدالله بن الشِّخِّيرِ قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجَوْفِه أزيزٌ كأزيز المِرْجَلِ من البكاء".
وبكى محبةً وشوقًا، كما في نعي زيد بن حارثة فيما رواه ابن حجر في "الإصابة" حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((هذا شوقُ الحبيب إلى حبيبه!)).
كما ذرفت عيناه على قبر أمه، وابنته أم كلثوم، وعند رؤيته لقلادة أمِّنا خديجة رضي الله عنها، وغيرها كثير من المحطات التي سالت فيها عَبَرات النبي صلى الله عليه وسلم!
أما المحطة الأساس التي هدتني إلى المحطات السابقة، فهي بكاؤه صلى الله عليه وسلم على وفاة ابنه إبراهيم، وذلك من خلال مدارستي لكتاب "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" لكاتبه "محمد رضا"، وقد آثرتُ تناولَ هذا المشهد من خلال زاويتين: عاطفية وجدانية، وعقائدية.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظِئْرًا لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم يجودُ بنفسه، فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان! فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 10 للهجرة، وكان عمره ستة عشر شهرًا.
لقد فُجِعَ النبي صلى الله عليه وسلم بفقد ابنه إبراهيم، كما فُجِعَ بفَقْدِ جميع أبنائه في حياته ما عدا فاطمة رضي الله عنها، وإنها وربِّ الخلق لمن أشد ما يصيب الإنسان في دار الفناء، فليست هناك مصيبة أشد على المرء من فقد الولد، فكان يستقبل هذا البلاء باليقين والصبر والرضا بقضاء رب العالمين، وكان صبره على فراقهم بمقدار تحمله لجميع شدائد الدنيا، فما كانت تتعدى ردةُ فعله سيلانَ عبراته الشريفة على خَدَّيْهِ الكريمين.
وتلك مواقف تكشف الجانب الإنساني في شخصيته صلى الله عليه وسلم، بل إن إنسانيته عليه الصلاة والسلام تفوق إنسانية الخلق مجتمعة، فهو بحق رحمة مهداة.
ومن جهة أخرى فقد روي عن أنس رضي الله عنه بسند صحيح قال: "لو عاش إبراهيم ابنُ النبي صلى الله عليه وسلم، لكان صدِّيقًا نبيًّا".
كما أخرج البخاري في صحيحه من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "قلت لابن أبي أوفى: رأيتَ إبراهيمَ ابنَ النبي؟ قال: مات صغيرًا، ولو قُضِيَ أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، عاش ابنه؛ ولكن لا نبي بعده".
فهل الحكمة من موت إبراهيم هو حفظ الأمَّة من الافتتان به بعد وفاة النبي؟
وقد حدثت بوادر ذلك في حياة الرسول، عندما انكسفت الشمس يوم وفاته، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)).
وهل العلة من موت إبراهيم لحكمة متعلقة بالرسالة وبمصلحة الأمة؛ حيث لو عاش لغلا فيه الناس.
وهل صحيح أن السر في موت إبراهيم أن لو عاش لكان نبيًّا؛ فأراد الله أن يقطع شبهة وراثة النبوة بموته؟
ولو افترضنا ذلك جدلاً، واستحضرنا قوله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].
فهذه الآية كما ذكر ابن كثير في تفسيره: نصٌّ في أنه لا نبي بعده.
فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن إبراهيم سيتوفاه الله قبل بلوغه سن التكليف؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26، 27]؟
وإذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف استطاع تحمل هذا العبء حولاً ونصفًا منتظرًا وفاة فلذة كَبِده، وقرة عينه، وريحانة فؤاده؟
وهل أخبر بذلك مارية والدة الطفل؟ وهل يمكن الحديث عن أثر ذلك على نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وعلى انشغالاته: " السياسية، والدعوية" بحكم طبيعته البشرية؟
أم أن نبوته تقتضي تحصينه من كل اضطراب نفسي قد يؤثِّر على سير دعوته؟
تبقى هذه مجرد تأملات في محطة من محطات سيرته العطرة.
التعليقات