التلذذ بالعشر المباركات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، أما بعد:
فإن للعشر من ذي الحجة فضلًا عظيمًا، فنَحْيا فيها بالخيرات والنفحات، فهي مليئة باللذات، وبهذه اللذات تبلُغ ما تبلُغ في إيمانك من درجات، فاستمع لهذه الكلمات، لعلَّكَ تتذوَّق بعض هذه النفحات، وتُغيِّر من نفسك لترقى بإيمانك لأعلى الدرجات:
• تُب إلى الله وارجع إليه: فلا بُدَّ من توبة نصوح، بأن تكون شاملةً لكُلِّ الذنوب، وأنْ تندَمَ على كل ما عملت، وأن تعزم وتنوي ألَّا ترجع إليها مرةً أخرى، والتوبةُ واجبةٌ من كل ذَنْب؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]، وتأمَّل كيف أمر الله المؤمنين جميعًا بالتوبة، وعلَّق عليها فلاحَهم؛ فقال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، تلذَّذ بالتوبة، واعزم على ألَّا تكون لكَ عودة.
• جهِّز نفسَك واستعِد: قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾ [التوبة: 46]، فلما لم يُعِدُّوا العُدَّة للخروج عُلِم أنهم غير صادقين؛ لذلك عُوقِبُوا بالتثبيط والخِذْلان، فإن كنت تريد التلذُّذ حقًّا، إن كنت تريد أن تقبل، وتمحي خطيئتك فلا بُدَّ من إعداد العُدَّة، يقول ابن القيم: "حَذارِ حَذارِ من أمرين: أن يأتي واجب الوقت وأنت غير مُستعدٍّ له ومُتهيِّئ لفعله، فتُعاقَب بالتثبيط عن فعله، والتخذيل عن تحصيله؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ [التوبة: 83]... "ا هـ.
تلذذ بالاستعداد والتجهيز، فأنت مقبل على العزيز.
• العظيم جلَّ في عُلاه يقسم: هل استشعرت قسم عظيم من العظماء على شيء؟ لو أن أحدًا ممَّن تعرِفُه يقسم أمامك على أمر ما وهو صادق، ما شعورُكَ؟ يقينًا سيطبع على قلبك ما يقول من صدق، وتُصدِّقه، ولله المثل الأعلى، أقْسَم ولا يُقسِم إلا بحق ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2].
يقول ابن كثير: "واللَّيالي العَشْرُ الْمُرادُ بِها عَشَرُ ذي الْحِجَّةِ كما قالهُ ابْنُ عبَّاسٍ وابْنُ الزُّبَيْرِ ومُجاهِدٌ وغَيْرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ والْخَلَفِ"؛ تفسير ابن كثير: (8 / 381) ...ولا يُقسِم الله تعالى إلَّا على عظيم، فاستحضِرْ عظمةَ الخالق في قسمه، فافهَم قسمه جل علاه، فإنه أقسم بحقٍّ، تبارك الله.
• أغمض عينيك لحظات: النبي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يُخاطِب أصحابَه ويقول: ((ما العَمَلُ في أيَّامٍ أَفْضَل مِنْها في هذه))، فيقول أصحابه: "قالوا: ولا الْجِهادُ، قال: ((ولا الْجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بِنَفْسِهِ ومالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشيء))، تخيَّل أي عمل صالح واعمله وتلذَّذ به في هذه الأيام، تلذَّذ بكلام الحبيب، فإن القلب منه يطيب.
• افرح بالحق ودَعْكَ من الباطل: فالفرح بالحق: بأن يُبلِّغَكَ الله هذه الأيام، لما فيها من خيرات من تكفير للذنوب، ومحْوِ للسيئات وبُشْريات من مضاعفة الأعمال والأجور؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، فتلذَّذ بالحق في هذه الأيام لما فيه من أجور عظيمة ليس في غيرها، وانهض واترُكْ كل باطل يعوق هذا التلذُّذ.
• أغلق فمَكَ عن كل باطل وتلذَّذ بالذكر والدعاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كان يؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِر فلْيَقُلْ خَيرًا أو لِيَصْمُت))؛ متفق عليه.
• كل كلمه تخرج من فمك فهي إما ثواب وإما عقاب؛ قال الله جل جلاله: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وكثرة الكلام مدعاةٌ للخطأ، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَمَتَ نجا))؛ صحيح الترغيب للألباني، وقد جعل الله لك لسانًا واحدًا، وأذنين لتسمع أكثر مما تتكلم.
فتلذذ بالذكر ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]، وتلذَّذ بالدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يَوْمِ عَرَفةَ، وخَيْرُ ما قُلْتُ أنا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، تلذُّذ بالذكر والدعاء، فإن الله أهل للثناء.
• اعلم أنها أيام معدودات فقلِّل من طعامك وشرابك ما استطعت: الطعام وقود الشهوات وامتلاء المعدة بالطعام سببٌ لكَسَل البدن عن العبادة، وإذا أكل المرء كثيرًا شرب كثيرًا، فنام كثيرًا، وخسر كثيرًا، وتأمَّل كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشابَّ العَزَب بالصيام؛ وعلَّل ذلك بأن الصيام ((وِجاء))؛ أي: قاطع للشهوة، يقضي عليها ويُهذِّبها، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم فِقْهَ الطعام؛ فقال: ((ما ملأ آدمِيٌّ وِعاءً شَرًّا مِنْ بَطنِه، بِحَسْبِ ابن آدمَ أكلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كان لا مَحالةَ، فَثُلُثٌ لطَعامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ))؛ صحَّحه الألباني، فهدنة مع الأكل، واكتَفِ بلُقيمات، فتلذَّذ بالصيام، وأفرغ جسدَكَ ممَّا يُحارب هذا التلذُّذ، فإن القلب قريبٌ للمعدة فأعْطِ قلبَكَ حظَّه من التلذُّذ، بأن تُسكِتَ معدتَكَ قليلًا.
• عَلِّقْ قلبَكَ في المسجد: قال سعيد بن المسيب رحمه الله: "ما أذَّنَ المؤذِّنُ منذ ثلاثين سنة إلَّا وأنا في المسجد"، سبحان الله! ثلاثون سنة! يا مَنْ لا تقدر على ثلاثين يومًا، إن للعمل الصالح ثوابًا، وللمداومة ثوابًا، والقلب المعلَّق بالمسجد لا يُفارقُه؛ بل يحب المكْثَ فيه ويُسارعُ بالعودة إليه، فاترُك قلبَكَ مُعلَّقًا في المسجد، فتلذذ بمكثك في بيت الله، واعلم أنك في بيت الملك جل في علاه، وما خاب من كان في ضيافته.
• اجعل همَّكَ همًّا واحدًا: وليكن هذا الهمُّ هو رضا الله سبحانه وتعالى، فلو رضي عنك لنالَكَ كُلُّ خيرٍ وبِرٍّ وبركةٍ وفضل، وبه تبلغ أعلى الدرجات، وتفوز بما أعدَّ الله لك من جنات وأنهار، وهذا الهمُّ لا يؤجَّل وجميع الهموم تُؤجَّل، تلذَّذ بأن رضاه عنك قد غمرك، ولا يبقى إلا أن يدعوك وفي الجنة يُسكِنُكَ.
• تخلَّق بأخلاق الصالحين: قال بعضهم: الدين كله خُلُقٌ، فمَنْ زاد عليكَ في الخُلُق زاد عليكَ في الدين، والعشرُ تُعلِّمُكَ وتُهذِّبُكَ، وبالأخلاق تُوسِمُكَ، فتلذَّذ بالأخلاق، فإن خُلُقك الجميل يجعلُكَ كالعِطْر الثمين.
• داوِم على العمل الصالح وإن قَلَّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحَبُّ الأعمال إلى اللَّهِ تَعالَى أدْوَمُها وإنْ قَلَّ))؛ متفق عليه؛ ولذلك كان عمله صلى الله عليه وسلم دِيمة. إن آفة الأعمال الانقطاع والاستحسار وترك العمل، تلذَّذ بالعمل القليل؛ فإنه ادْعى ألَّا تتركه، وسيصبح كالكثير.
• لا تَنْسَ القرآن: انتبه إلى أنه كلام الله تعالى غير مخلوق، فينبغي أن يكون التلذُّذ بمذاق خاصٍّ، فلا بد أن تُكثِّفَ وتُكثِر في هذه الأيام من تلاوة القرآن، تلذذ بكلام الرحمن؛ فإنه زادُكَ وطريقُكَ للجنان.
• احذَر من لصوص الأوقات: بعض الأشخاص يريد أن يُضيِّعَ وقتَكَ، ويُعطِّلَكَ عن طاعة ربك؛ لأن قلبه فارغٌ؛ فيريد أن تكون مثله، وأشَرُّ ما على القلب خلطة البشر؛ لذلك أريدك - أيها الحبيب - أن تُحوِّل الحوار لصالح الدين، أن تحوِّلَ مجلس الغِيبة والنميمة واللَّغْو إلى مجلس لذكر الله، إذا قال لك: رأيتُ فلانًا يفعل كذا أو...؛ فقل له أنت: وهل سمِعْت قول الله تعالى، وتذكر له آيةً، أو سمِعْت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكُر له الحديث، وهكذا فلا تَدَع أحدًا يسرق من وقتِكَ، فلُصُوصُ الوقت ما أكثرهم!
فتلذَّذ بالحديث عن الرحيم، وعطِّر أسْماعَهم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الكريم.
• تَحرَّ ساعات إجابة الدعاء، وماذا ستقول في الدعاء: فهناك دعوة مستجابة، فيا ترى ما هو الذي ستطلبه في هذا الدعاء؟ اطلب الجنة وأسبابها، كأن تقول: ((اللهم إني أسألُكَ الجنةَ وما قَرِّبَ إليها من قول وعمل، ونعوذ بِكَ من النار وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل))، تلذَّذ في اختيار الدعوات، ولا تَدَعْها في السجدات من الصلوات.
• لأهل بيتك حقٌّ عليك، فكن لهم سترًا من النار: اجعلهم يحبُّون الله، عِظْهم وأرشِدْهم، وأحسِنْ إليهم، تذاكَرْ معهم القرآن والسنة، وذلك في صورة أسئلة تشويقية، بأن تذكُر حديثًا أو آيةً، وتقول: مَنْ منكم يحفظُها أو يعرف تفسيرها، فمن أجاب أعْطِه هديةً، أو اجعلهم يتنافسون فيمن يختم القرآن أولًا، علِّمْهم القرآن والسنة، كن لهم سترًا من النار؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، تلذَّذ في هذه الأيام بتشويقهم إلى رحلة من عمرة أو حج للبيت الحرام.
• تعلم قيام الليل في هذه الأيام فرصة لا تعوض: ((رَحِمَ الله رجلًا قام من الليل فصلَّى ركعتينِ، وأيْقَظَ أهلَه، فإن أبَتْ، نضَح في وجهها الماء))؛ صحَّحه الألباني، اجْتَهِد أن تقومَ ساعةً أو أكثر قبل أذان الفجر؛ فهذا وقت التنزُّل الإلهي كلَّ ليلة، يُنادي ربُّنا جل جلاله كلَّ ليلة في السحر في ثُلُث الليل الآخر: ((هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتُوب عليه، هل من سائل فأُعطيه))؛ صحيح مسلم، حتى يَطلُع الصُّبح، وذلك كل ليلة، فلا يفوتنَّكَ هذا الفضل العظيم، وكُنْ من الذَّاكرين في هذه الساعة؛ فهي بركة اليوم وكل يوم، تلذَّذ بقُرْبِكَ من ربِّكَ وهو ينزل إلى السماء الدنيا، واسجُد واقترب؛ فإن الإجابة تقترب.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات